موسوعة الأعمال الكاملة للقرضاوي.. عمل ضخم وعالم متفرد
بقلم: عصام تليمة
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
وأخيرا بعد طول انتظار، صدرت موسوعة الأعمال الكاملة للعلامة الراحل الدكتور يوسف القرضاوي، أحد أئمة التجديد في الفقه والفكر الإسلامي المعاصر، وهي جمع لكل ما كتبه القرضاوي، سواء ما نشر من قبل، أو ما ينشر لأول مرة في هذه الموسوعة، وقد كانت حلما وأملا لدى القرضاوي وتلامذته، ومتتبعي أثره وآثاره.
الموسوعة هي جمع لما يزيد على مائتي كتاب له، في (105) مجلدات، وتنقسم إلى ثلاثة عشر محورا، فالناظر للمحاور، أو للمؤلفات التي تقع تحت المحاور، سيفاجأ ليس بكمِّ الكتب فقط، بل بتعددية ثقافة القرضاوي، وتنوع عطائه، وليس مجرد التنوع الذي يكون شكلا على حساب الجوهر، بل شكلا وموضوعا.
فهناك كتب كانت وستظل ـ إلى أن يشاء الله ـ مرجعا في بابها، وحتى لو جاء من أكمل بعده فيها، أو طور، فستظل هذه الكتب بدايات وتأصيلًا لهذا العلم، فهناك عبارات ومصطلحات وأبواب فقهية وفكرية صكها القرضاوي، وستظل محفورة في ذاكرة التاريخ العلمي باسمه، يعترف ويقر بها كل منصف في العلم، فمثلا: فقه الأولويات وفقه الموازنات، هذان المصطلحان أول من كتب فيهما في العصر الحديث كتابةَ تأصيلٍ وتبويب وتقعيد، هو القرضاوي رحمه الله.
وفي مجال التجديد الفقهي، سواء ما يتعلق بالجانب الفقهي التعبدي، أو السياسي، أو الاجتماعي، ضرب القرضاوي فيه بسهم وافر، يعجز الكاتب في مقال أن يعطي مجرد عناوين لذلك، من خلال النظر السريع للكتب، بل والفتاوى التي أصدرها في هذا المجال، تحتاج بلا شك إلى تسليط الضوء بشكل علمي مركز، يكشف لطلبة العلم، ما وراء هذه العقلية الفقهية، وكيف تكونت.
كنا نظن أن القرضاوي سيعكف آخر سني عمره، يعيد طباعة ما تم من كتبه، حيث إن صحته لم تكن كما كانت من قبل، بحكم السن، وبحكم وباء كورونا الذي ضرب العالم كله، ولم يترك فيه شابا ولا شيخا إلا وناله منه نصيب، لكن الموسوعة اشتملت على عدة كتب جديدة للقرضاوي، تحتاج من غيره إلى عمر مستقل كي يقوم بكتابتها، وكثير منها قام الشيخ بكتابته من البداية، فقد كانت لديه مجرد أفكار عن هذه الكتب، دوَّن محاورها وكتب تفاصيل قليلة تحتها، وربما نقولا من الكتب حول الموضوع، وبحكم قربي من الشيخ رحمه الله أعرف ذلك، ولذا حين رأيتها مطبوعة، أيقنت أنها مكتوبة وليست مجموعة من قبل.
فستجد له كتابا في السيرة النبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم، في مجلد كبير، يتناول السيرة من حيث الموضوعات، وليس من حيث الترتيب التاريخي. وكتاب عن التكفير وضوابطه، وهو أيضا كان مجرد ملف فيه أوراق مجموعة مصورة من كتب تراثية كأرشيف، فقام بكتابته كله في مجلد أيضا، وهو موضوع خطير، وقد تناول فيه قضية مهمة، وهي الغلو في الولاء والبراء، وقد كان كثيرا ما يدور الحديث بيننا حوله، ويقول كلاما مهما لكنه في عبارات موجزة، وكنت أتمنى أن يكتبها، فوجدت ذلك ـ والحمد لله ـ قد كتبه، وإن خلا من بعض أفكار كان يناقشها معنا حول الموضوع، لم أجد الإشارة إليها.
ومن الكتب المهمة التي كان يساورني الشك أن تخرج للشيخ: كتابه عن (الشيعة)، ففي الموسوعة كتاب بعنوان (وقفات مع الشيعة الاثني عشرية)، وهو كتاب بدأه الشيخ منذ أكثر من عشر سنوات، وكتبه وأنهاه، ولكنه تريث في طبعه، وربما تريث أيضا في بعض أفكاره، وتلك كانت سجيته رحمه الله، لا يتعجل في أي فكرة أو كتابة، وإن ظلت لديه لسنوات، وكلمه البعض ناصحا بتأجيل الكتاب، حتى لا يوظف توظيفا سياسيا، ولكنه رحمه الله كان قد كتبه، وانتهى منه، وقرر النشر في الأعمال الكاملة، ولما سألته عن الكتاب: قال لي: سيخرج بإذن الله، سألقى الله بكل ما لدي مكتوبا منشورا، بقدر استطاعتي.
الحديث عن القرضاوي وموسوعته وموسوعيته، تبرزه وتبينه بجلاء هذه الأعمال الكاملة له، فهي تبرز ملمحا مهما هو عنوان للرجل، وهو: تفرده، فلا أعلم في تاريخنا العلمي الإسلامي، عالِما جمع بين الكتابة والحديث، مجيدا لكل مجالات التعبير، وكاتبا فيها، بل ومؤصلا، وبهذا التنوع بهذا الكم والكيف، مثل القرضاوي، نعم هناك أئمة كبار من قبل كتبوا كتبا كثيرة، لكنها لم تكن بهذا التنوع الهائل، ولا بهذا الكم، مع مقارنة الأزمان والعصور، مع جمع القرضاوي بين الكتابة والعمل، وتأسيس المؤسسات، فهو بحق شخص متفرد، في علمه وعمله، وهي شهادة بحق إنسان لقي الله عز وجل، فلا مجال لمجاملته، بل الدعاء له، ولنا بأن يجعل لنا من علمه وبركته وعطائه نصيبا، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناته، وحسنات من أعانوه على ذلك حيا وميتا.