معالم النصر والتمكين من خلال سيرة الملك العادل نور الدين الزنكي (1)
بقلم: د. علي الصلابي
الموازنة بين العبادات الشعائرية وأسباب القوة الحربية
حقق الملك العادل نور الدين الزنكي انتصارات عظمى أمام الحملات الصليبية الهمجية، كما حقق نجاحاً مبهراً في الإدارة الداخلية والخارجية للدولة، وفي علاقته بالشعب والأمة؛ حتى أصبحت سيرته مثالاً يحتذي بها القادة والسياسيّون الناجحون. ومن المشاهد البارزة التي كانت من أهم الأسباب في التمكين له ولدولته؛ أنه جمع بين الاهتمام بالقلب والتزكية الروحية، وبين الإعداد والأخذ بأسباب النصر والتمكين التي أمر الله بها، وجعلها أسباباً شرعية يجب الأخذ بها، ويحرم تركها أو إهمالها.
أولاً: عبادته:
كان الملك العادل نور الدين محمود الشهيد يصلي أكثر الليالي ، ويناجي ربه مقبلاً بوجهه عليه ، ويؤدي الصلاة في أوقاتها بتمام شرائطها ، وأركانها ، وركوعها ، وسجودها، ويحافظ على الجماعة ، وكان كثير الابتهال إلى الله ـ عز وجل ـ في أموره كلها. وكان من عادة نور الدين أنه ينزل إلى المسجد بغلس ، ولا يزال يركع فيه حتى يصلي الصبح. (كتاب الروضتين نقلاً عن نور الدين الرجل والتجربة ص 46)
وقال ابن الأثير: «حدثني صديق لنا بدمشق ـ كان رضيع الخاتون زوجة نور الدين ـ فقال: كان نور الدين يصلّي فيطيل الصلاة ، وله أوراد في النهار ، فإذا جاء الليل ، وصلى العشاء نام ، ثم يستيقظ نصف الليل ، ويقوم إلى الوضوء والصلاة والدعاء إلى بكرة ، ثم يظهر للركوب ، ويشتغل بمهام الدولة». (نور الدين محمود ص 46)
وقال ابن كثير: «كان نور الدين كثير المطالعة للكتب الدينية ، متبعاً للآثار النبوية ، محافظاً على الصلوات في الجماعات ، كثير التلاوة ، صموتاً وقوراً. كان نور الدين كثير الصيام ، وله أوراد في الليل والنهار ، وكان يقدم أشغال المسلمين عليها ثم يتمم أوراده».
وعبارة: «فكان يقدم أشغال المسلمين عليها ثم يتمم أوراده» هذا هو المنطق الذي علمنا إياه الإسلام والذي يجعل التعبد ، الذي هو غاية الخلائق ، ممارسة إيجابية ، تضرب في أعماق الناس ، فتغيِّر نفوسهم ، وتمتد إلى حركة التاريخ ، فتصوغ مسيرته ، كانت طبيعةُ تعبُّد نور الدين تدفعه إلى المسؤولية ، وتجعله في قلبها ، وهو أعمق وعياً ، وأشد خشية، وأمضى عزيمة ، وأقدح ذَكاء.
لقد مارس نور الدين مفهوم العبادة بمفهومها الشامل ، وأعطت تلك الممارسة ثمارها على مستواه الشخصي والشعبي، وعلى دولته ، وتحقيق العبادة من شروط التمكين قال تعالى: وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ٥٦ لَاتَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعۡجِزِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ ٥٧ [النور55 - 56] . فقد أشارت الآيات الكريمة إلى شروط التمكين وهي: الإيمان بكل معانيه وبكافة أركانه ، وممارسة العمل الصالح بكل أنواعه ، والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر ، وتحقيق العبودية الشاملة ، ومحاربة الشرك بكافة أشكاله وأنواعه وخفاياه ، وأما لوازم استمرار التمكين فهي: إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. (فقه النصر والتمكين في القران الكريم ص 161)
ثانياً: محبته للجهاد والشهادة:
كان نور الدين محمود الشهيد ، من محبي عبادة الجهاد في سبيل الله ، ويجد متعته في جهاد الأعداء والمرابطة في الثغور، قال العماد الأصفهاني: «حضرت عند نور الدين بدمشق ـ في شهر صفر ـ والحديث يجري في طيب دمشق ، ورقة هوائها ، وأزهار رياضها ، وكل منا يمدحها ، ويطريها ، فقال نور الدين: إنما حبُّ الجهاد يسليني عنها ، فما أرغب فيها». (نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 45)
ومرة أخرى نلتقي به ، وهو يغادر الموصل بعد عشرين يوماً من دخوله إياها عام 566 هـ فيسأله أصحابه: إنك تحب الموصل والمقام بها ، ونراك أسرعت العود؟ فيجيب: قد تغير قلبي فيها فإن لم أفارقها ظلمت ، ويمنعني أيضاً أنني ها هنا لا أكون مرابطاً للعدو ، وملازماً للجهاد.
وأما حبه للشهادة ، فقد قال عنه أبو شامة: كان في الحرب ثابت القدم ، حسن الرمي ، صليب الضرب ، يقدم أصحابه ويتعرض للشهادة ، وكان يسأل الله تعالى أن يحشره في بطون السِّباع ، وحواصل الطير([1]) ، كانت عقيدة الشهادة تحركه ، وهذا الإيمان العميق بعقيدة الشهادة في سبيل الله هو الذي دفع أجيالاً من المسلمين إلى ساحات الجهاد طلباً للموت ، فأسقطوا الدول ، وغيروا الخرائط ، وسحقوا العروش ، ومرغوا الأنوف ، ولم يموتوا ، فكان نور الدين إذا حضر الحرب أخذ قوسين وجعبتين ، وباشر القتال بنفسه ، وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة فلم أرزقها. (كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، 1/35)
إن الملك العادل نور الدين محمود الشهيد ، تربى على كتاب الله ، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم فقد خص الله الشهيد بالذكر في القران الكريم في مواضع منها؛ قال تعالى:﴿وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٤٠ ﴾
[آل عمران: 140] . وفي هذه الآية إشارة واضحة إلى أن الشهادة إنما هي اصطفاء وتكريم من الله عز وجل لبعض عباده الأخيار ، وأنَّ الشهادة لا تكون لكل أحد من الناس ، فالله سبحانه وتعالى يكرِّم بها من يشاء من خلقه. (الإعداد المعنوي والمادي للمعركة في ضوء القران والسنة ص 95)
والثانية قوله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقا ٦٩ ﴾ [النساء:69] في هذه الآية يبيّن الله سبحانه وتعالى درجة المصطفين الأخيار من شهدائه: أنهم مع النبيين والصديقين ، ومن تكون له هذه المنزلة إلا من أكرمه الله بالشهادة.
ثم تأتي الصورة الناصعة للشهداء يوم القيامة يوم يؤتى بهم مع النبيين ، ليشهدوا يوم القيامة لمن ذب عن دين الله ، وذلك شرف عظيم ، وموقف عظيم نالوه بالشهادة ، يقول الله عز وجل في هذه الآية: ﴿وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٦ ﴾ [الزمر:69].
لقد أعد الله للشهداء من الكرامة ، والنعيم الأبدي ، ما يجعل كل نفس زكية تتوق إلى الشهادة ، وترغب لتفوز بالأجر العظيم قال تعالى:
﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ ١٦٩ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ١٧٠﴾ [عمران: 169 ـ 170] . وقال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقۡتَلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتُۢۚ بَلۡ أَحۡيَآءٞ وَلَٰكِن لَّا تَشۡعُرُونَ ١٥٤﴾ [البقرة : 154] .
وورد في السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن أرواح الشهداء في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطَّلع إليهم ربهم اطّلاعة ، فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ، فعل بهم ذلك ثلاث مرات ، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن تُردَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُرِكوا».
فالشهيد فضله عظيم ، ومكانته رفيعة ، فإذا كان الله ـ سبحانه وتعالى ـ فضل المجاهدين على القاعدين ، فالشهداء أكثر فضلاً ، وأعظم تشريفاً. ولقد قاتل نور الدين الأعداء ، وجاهد في الله حق جهاده ، حتى استحق لقب، تشريفاً وتكريماً من الأمة لهذا البطل المجاهد الفذ. (نور الدين في الأدب العربي ص 48)
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: "الدولة الزنكية" للدكتور علي محمد الصلابي.
المراجع:
- البداية والنهاية، ابن كثير.
- نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل.
- كتاب الروضتين، أبو شامة المقدسي الشامي.
- الدولة الزنكية، د. علي محمد الصلابي.
- فقه النصر والتمكين في القران الكريم، د. علي محمد الصلابي
- الإعداد المعنوي والمادي للمعركة في ضوء القران والسنة، فيصل بن جعفر بن عبد الله بالي.
([1]) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/35).