المناظرة وفنون الجدل الفقهي
بقلم: معتز الخطيب
انعقد قبل أيام في الدوحة مؤتمرٌ حول المناظرة في التراث الإسلامي، وقد دُعيت إلى المساهمة فيه، وقد وجدتها مناسبة لمناقشة بعض الأفكار المتصلة بالمناظرة وموقعها من التراث الإسلامي وتصنيف العلوم (هذا المقال)، وما يكتنفها من آفات أخلاقية (سأناقشها في مقال لاحق). فهذا المقال يوضح أن الجدل والحِجاج عنوان عامٌّ يدخل تحته فنون من الجدل الفقهي، تصلح أن تُدرس وتُحلل لتشكل منهجًا نظريًّا في الحِجاج الفقهي والأخلاقي، مما يكشف عن أنماط أخرى من العقلانية التي تتجاوز الثنائية البسيطة التي تدور حول العقل والنقل.
في البداية لا بد من توضيح أن المناظرة مشتقة من الجذر الثلاثي "ن ظ ر"، وهو -كما يقول العلامة اللغوي ابن فارس- "أصل صحيح يرجع فروعه إلى معنى واحد، وهو تأمُّل الشيء ومعاينته، ثم يُستعار ويتسع فيه". أي أن المناظرة ترجع -أصالة- إلى النظر العقلي وتقليب الأمر على وجوهه لاستكناه ما فيه؛ طلبًا لحقيقته. فهي -بهذا المعنى- تحيل إلى واجبين: واجب معرفي هو معاينة الشيء، أي طلب عينه حقيقةً أو مجازًا، وواجب أخلاقي يتمثل في أن النظر هنا غائي دافعه ابتغاء الحق.
ومن تأمل تاريخ المعارف الإسلامية وجد أن علمي الفقه والكلام من أبرز العلوم العقلية التي انشغل أهلها بالنظر والمناظرة، بل إن الجدل قد أثرى علمي الكلام وأصول الفقه على السواء بمناقشات عقلية وتقنيات حجاجية تصلح أن تُدرس وتُحول إلى أطر نظرية ومنهجية، بعيدًا عن دوافع المتناظرين الخاصة؛ لنخلص إلى تنظير متماسك لعلم الجدل كما جرت ممارسته بالفعل، سواء بين علماء المذهب الواحد أم بين فقهاء المذاهب المختلفة. وهذا لا يعني التغاضي عن بعض الجوانب السلبية التي حفت بتاريخ المناظرة، والتي نقف عليها ضمن سياق تاريخ المعرفة وأخلاقياتها، كما يوضح أبو حامد الغزالي في بعض كتبه الصوفية، وابن الجوزي أيضًا.
والمتتبع لتصنيف العلوم والمعارف في الحضارة الإسلامية يجد بعض من دوّنوا في ذلك قد ميّزوا بين علمين يتصلان فيما نحن فيه، هما: علم المناظرة، وعلم الخلاف والجدل. وبالنظر إلى مجموع النقاشات حول هذين الفنين نجد أن الخلاف قد وقع في مسألتين:
الأولى: وجه التمييز بين هذين العلمين لتسويغ الفصل بينهما. فما الفرق بينهما؟ وهل ثمة تداخل؟
الثانية: موقع هذين العلمين من العلوم. فقد صنفها بعضهم إلى صنفين رئيسين هما: الأول: علوم الشريعة التي تحيل إلى "ما دوّنه المتشرعة لبيان ألفاظ القرآن أو السنة النبوية: لفظا وإسنادا، أو لإظهار ما قصد القرآن من التفسير والتأويل، أو لإثبات ما يُستفاد منهما". الثاني: علوم الفلاسفة التي تحيل إلى "ما دوَّنه الفلاسفة لتحقيق الأشياء كما هي، وكيفية العمل على وفق عقولهم".
وعند التأمل في الخلاف حول المسألتين السابقتين، نجد ثمة موقفين رئيسين كالآتي:
الموقف الأول:
ثمة من ميز بين علم المناظرة من جهة، وعلم الخلاف والجدل من جهة أخرى، سواءٌ لجهة موضوع كل علم والغرض منه أم لجهة طبيعة المصنفات في هذين العلمين؛ لإثبات الفرق بينهما.
فمن الجهة الأولى -وهي موضوع العلم- ثمة من ميز بين العلمين (المناظرة، والخلاف والجدل) بالنظر إلى الواجبين المعرفي والأخلاقي اللذين أشرت إليهما قبلُ. ويمكن التعبير عن ذلك الفرق بأن المناظرة "علم"، بينما الخلاف والجدل "فن" (art). فموضوعُ المناظرة أحوالُ المتناظرين؛ ليكون ترتيب البحث بينهما على وجه الصواب، بحيث يحقق الإنصاف لكليهما، ويقود إلى طلب الحق عبر منهج متسق؛ لأن مقصود المناظرة إظهار الصواب على لسان أحد المتناظرين.
في المقابل، عُرِّف علم الخلاف والجدل بأنه "علم يُقتدر به على حفظ أي وضع كان وهدم أي وضع كان"، أي أنه فنّ يتصل بتقنيات النقد وكيفية تحقيق النصر والغلبة على الخصم، بغض النظر عن حقيقة الموقف المعرفي أو الأخلاقي. والجدل -في الأصل- من مباحث علم المنطق، ثم خُص بالعلوم الدينية بعد أن اشتغل به المتشرعة وأدخلوه في علومهم، فمقصود علم الخلاف والجدل إلزامُ الخصم بالحجة، وصيانة المذهب عن أن يتطرق إليه نقد أو خلل؛ للمحافظة على صلابة حججه وتماسك موقفه، وهدم حجج الخصوم أيضًا، ومثل هذا كان يستعمل في الخلافيات بين المذاهب الكلامية والفقهية، حتى إن أبا القاسم البلخي المعتزلي صنف كتابًا في نقد الأخبار ليكون عونًا لصغار المعتزلة على رد انتقادات خصومهم من أهل الحديث.
أما الجهة الثانية -وهي النظر إلى من صنف في علمي المناظرة والجدل والخلاف- فقد ميز بعضهم بين العلمين بناء على أن المتشرعة صنفوا في علم الخلاف وبنوا عليه مسائل الفقه، حتى عدّ بعضهم علم الخلاف والجدل من فروع علم أصول الفقه. في حين أن الحكماء (أو الفلاسفة) بنوا مباحثهم على المناظرة فيما بينهم، ثم إن ثمة فرقًا بين المناظرة التي بحثها المناطقة، وبين النقاشات الأصولية بين المذاهب التي نجدها في مبحث القياس، إذ إن الدليل المنطقي (الذي يبحثه المناطقة) غير القياس الفقهي (الذي هو من أدلة الأصوليين).
الموقف الثاني
يتلخص الرأي الثاني في أن ثمة تداخلاً بين المناظرة من جهة، والجدل والخلاف من جهة أخرى؛ لأن المآل منهما واحد، وإن كان الجدل أخصَّ من المناظرة. ويبدو أن المؤرخ ابن خلدون يذهب إلى القول بالتداخل؛ لأنه قال: "الجدال: معرفة آداب المناظرة الّتي تجري بين أهل المذاهب الفقهيّة وغيرهم"، و"لمّا كان باب المناظرة في الرّدّ والقبول متّسعا وكلّ واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج، ومنه ما يكون صوابا ومنه ما يكون خطأ، احتاج الأئمّة إلى أن يضعوا آدابا وأحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرّدّ والقبول، وكيف يكون حال المستدلّ والمجيب حيث يسوغ له أن يكون مستدلا، وكيف يكون مخصوما منقطعا، ومحلّ اعتراضه أو معارضته، وأين يجب عليه السّكوت ولخصمه الكلام والاستدلال". ثم أوضح أن في الجدال طريقتين:
* الطريقة الأولى: طريقة صدر الدين البزدويّ الحنفي (493هـ)، وهي خاصّة بالأدلّة الشّرعيّة المعتمدة في أصول الفقه من النّصّ (القرآن والحديث) والإجماع والاستدلال العقلي.
* والطريقة الثانية: طريقة أبي حامد محمد بن محمد العميدي السمرقندي الحنفي (615هـ)، وهي عامّة في كلّ دليل يُستدلّ به من أيّ علم كان، وأكثره استدلال يقوم على النظر العقلي.
وأرى أن الجدل والحِجاج عنوان عامٌّ يدخل تحته فنون من الجدل، وقد ذهب إلى نحو هذا أيضًا عبد المجيد تركي. ومما يؤكد ذلك أن بعض من صنفوا في هذا جمعوا بين ألفاظ الحجاج والمناظرة والجدل في سياق واحد، كما نجد لدى أبي الوليد الباجي المالكي وابن حزم الظاهري الأندلسي وغيرهما.
فابن حزم قد عقد -في "التقريب لحد المنطق"- فصلاً عنونه بـ"باب الكلام في رتبة الجدال وكيفية المناظرة الموجبين إلى معرفة الحقائق"، استعرض فيه آداب البحث التي تجعل المناظرة "فاضلة حميدة العاقبة يوشك أن تنحلّ عن خير مضمون أو آخر موفور، وهي التي أمر الله بها إذ يقول: (وجادلهم بالتي هي أحسن)". وصورتها أن يكون أحد المتناظرين موقنًا من أمره ببرهان قاطع يريد أن يوصل إلى مناظره من الحقيقة مثل ما عنده منها، ويحاول أن يحل شك المخالف له أو المغالط ويفصح بسره في المغالطة ويدفع شره، أو أن يكون أحدهما موقنًا والثاني لم يقف على بيان الحقيقة فهو يطلبها ويحاول الوقوف عليها.
وقال الباجي: "لما رأيت بعض أهل عصرنا عن سبل المناظرة ناكبين، وعن سَنن المجادلة عادلين… أزمعتُ على أن أجمع كتابًا في الجدل يشتمل على جُمل أبوابه وفروع أقسامه وضروب أسئلته وأنواع أجوبته".
وهذا العنوان العريض الذي سميته الجدل والحجاج، يندرج تحته ثلاثة ألوان من الجدل الفقهي، هي:
الأول: آداب البحث التي تبحث في قوانين المناظرة وقواعدها التي يحتكم إليها المتناظرون كما شرحه ابن خلدون، وتشمل الآداب والأحكام والحدود وحال المستدل والمجيب، ومتى يحصل الانقطاع وكيف يقع الاعتراض، إلى غير ذلك من القوانين الحاكمة للمناظرة.
الثاني: الخلافيات، وهي الجدل والحجاج أو التعليل الذي موضوعه فروع الفقه التي وقع فيها الخلاف بين الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ومدارك كل مذهب.
الثالث: الجدل، وينصرف إلى مسائل أصول الفقه وطرائق الاستدلال وحججه، وقد صنف في الجدل غير واحد من الفقهاء.
في هذه الألوان الثلاثة من الحجاج والجدل، يتداخل المعرفي والأخلاقي والمنهجي، ويزدوج النصي والعقلي في تفاعل ثريّ بين النص والتأويل، حيث يغدو المذهب الفقهي ميدانًا لممارسة العقلنة التي يفرضها الاستدلال من جهة، ووحدة وتماسك المذهب الفقهي في مواجهة غيره من المذاهب من جهة أخرى، وقد أسهم في تكوينه أجيال متعاقبة من العلماء الذين ساهموا في بناء حججه وتعليلاته.
هذه الصورة المركبة للجدل الفقهي تتجاوز المنظور الضيق الذي قد يُحيل الفضل في تطور الجدل الفقهي إلى منطق أرسطو كما فعل المستشرق الفرنسي ر. برنشفيك. فبالرغم من أن أثر الفلسفة ومنطق أرسطو لا يُنكر، وخاصة في القرن الخامس الهجري، فإن ذلك لا يلغي التطورات الداخلية التي أفرزتها طبيعة الفقه وطرائق التفكير المنهجي التي نجدها في فروع علمية أخرى، كتوخي الدقة في ضبط الكلمات والمفاهيم وتبويب المسائل وترتيب الحجج، وتقديم التعليلات والمسوغات العقلية لأصول المذهب وتفريعاته، وكل هذه الطرائق ليست قاصرة على منطق أرسطو.
أضف إلى ذلك أن القياس الفقهي ليس هو القياس المنطقي، بل إن الجدل الذي أشرت إليه سابقًا حول التمييز بين علم المناظرة من جهة، وعلم الخلاف والجدل من جهة أخرى، يؤكد أيضًا فكرة التمايز بين منطق أرسطو وتطورات الجدل الفقهي التي فرضتها طبيعة العلم نفسه وطبيعة الخلاف المذهبي، وحين خرج الجدل الفقهي عن مقاصد علم الفقه فانفصل فيه الشكل عن القيمة وتحول من طلب الحق إلى طلب الغلبة والاستطالة، وُجهت إليه سهام النقد وجرى تسديده لا رفضه، كما سنرى في مقال لاحق بإذن الله.
مهما يكن من أمر، فإن مضامين الجدل الفقهي وفنونه يجب أن تستثمر في التنظير لعلم الجدل الفقهي والأخلاقي في حقل تطبيقه، للخروج به من فنّ إلى علم لا ينفصل فيه المعرفي عن الأخلاقي، بحيث يقود -أولاً- إلى عقلنة الأحكام والتقويمات ليتحقق لها الاتساق والتماسك العاصم من التحيزات والهوى، ويقود -ثانيًا- إلى البحث عن الحقيقة؛ لإقناع النفس أولاً قبل الانشغال بإقناع الآخرين وقبل القصد إلى مناظرة الأفكار المضادة وتفنيدها. والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* معتز الخطيب؛ أستاذ فلسفة الأخلاق في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة. عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين