البحث

التفاصيل

في وداع حجاج بيت الله الحرام

الرابط المختصر :

في وداع حجاج بيت الله الحرام

بقلم: الشيخ د. تيسير رجب التميمي

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

أيام قلائل ويبدأ وفد الرحمن شد رحالهم إلى بيت الله الحرام، وإنها لحظات عاطفية تختلط فيها مشاعر حزن المودعين  لغياب الأحبة ومفارقتهم ، ومشاعر الفرح أن بلغهم الله تلك الديار في أجمل وأعظم رحلة، ولكن الأمل والرجاء بعودتهم سالمين والدعاء بقبول عباداتهم وقبول توباتهم وغسل حوباتهم هي المشاعر الحاضرة لدى من جاء مودعاً.

أيام قلائل وينطلق هذا الوفد مغادراً أرض القدس قاصداً أرض مكة والبيت العتيق متلهفاً لزيارة مسجد المصطفى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ومتحملاً وعثاء السفر ومشاقّه، والقلوب تكاد تطير من الصدور محلقة في الفضاء تسابق الريح للوصول ، والأرواح تهيم في عوالم علوية تتجاوز القفار لعلها تبلغ الحجاز.         

أيام قلائل ويبدأ الأهل والأحباب والأصحاب بالتوافد لوداع الحجاج ، ويبدأ الموكب بالانطلاق ، وهنا أذكّر حجاجنا الكرام ببعض وأهم أحكام السفر لمحاولة التزامها قدر المستطاع:

* فيستحب للحاج قبل الشروع بالسفر كتابة وصيته والإشْهاد عليها فالآجال بيد الله تعالى، والمُقْدِم على الحج متعرض لمصاعب الطريق فحرِيّ به أن يكتب وصيته وأن يبين ما له وما عليه ، قال صلى الله عليه وسم: {ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ، قال ابن عمر: ما مرت عليَّ ليلة منذ أن سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي مكتوبة} رواه البخاري.

* ويستحب للحاج أن يودع أهله وجيرانه وأصدقاءه وأن يستودعهم الله تعالى ، فقد قال الصحابي عبد الله بن عمر ابن عمر رضي الله عنهما: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ودَّع أصحابه في السفر يقول لأحدهم : أستودع اللَّه دينك وأمانتك وخواتيم عملك} رواه أبو داود ، ويقول له المقيم : زَوَّدك الله التقوى وغفر لك ويسر لك الخير حيث كنت.

* ويسن للحاج أيضاً أن يصلي ركعتين قبل الخروج من منزله للسفر، قال صلى الله عليه وسلم: {ما خلف عبد على أهله أفضل من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد السفر} رواه ابن أبي شيبة، وقال أيضاً: {إذا خرجت مِن مَنْزِلك فَصَلّ ركعتين يمنعانك مِن مخرج السوء، وإذا دخلت إلى مَنْزِلك فَصَلّ ركعتين يمنعانك مِن مدخل السوء} رواه البيهقي.

* ثم ليدعُ الله دعاء الخروج من المنزل ، قال صلى الله عليه وسلم: {إذا خرج الرجل من بيته فقال بسم اللَّه توكلت على اللَّه ولا حول ولا قوة إلا باللَّه ؛ قال : يُقَال حينئذٍ : هديت وكفيت ووقيت ، فتتنحى له الشياطين فيقول له شيطان آخر : كيف لك برجلٍ قد هُدِيَ وكُفِيَ وَوُقي؟} رواه أبو داود ، وقالت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها: {ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: اللهم أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي} رواه أبو داود.

* فإذا استقل الحاج وسيلة السفر فليبدأ بدعاء الركوب ، قال ابن عمر رضي الله عنهما { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبّر ثلاثًا ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون. اللهم إنّا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى ، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا واطوِ عنَّا بُعده ، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل ... } رواه مسلم.

* ولْيحرصْ الحاج على الصحبة الصالحة فإنها تعينه على مبارّ السفر في حجه وعلى مكارم الأخلاق إذا تذكر وتذكره بالخير إذا نسي ، وتدله على العلم النافع والخلق الفاضل..

وحيث إنه لا يد اليوم للحاج في اختيار صحبته كما هو معلوم ؛ بل الإجراءات الرسمية وشركات الحج والعمرة هي التي تحدد ركاب الحافلات ونزلاء السكن الذين هم رفقاء السفر فعلى الحاج أن يحرص على حسن المعاملة معهم وحسن الصحبة لهم والاستفادة من علمِهم ، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} النساء 36، والصاحب بالجنب هو رفيق السفر ، وعليه أن يحسن معاشرتهم بان يحرص مثلاً على خدمتهم بلا منة ولا تباطؤ ، وأن يلاطفهم ويبتعد عن مشاجرتهم ويتقبّل اعتذارهم ويغض الطرف عن أخطائهم وأن يجتهد في إدخال السرور إلى قلوبهم وأن يكون رفيقاً بهم ويعاملهم باللين والسكينة.

وأول ما يصله الحجاج القادمون من بلاد الشام بعد الميقات هي المدينة المنوّرة بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إليها وهي التي كان اسمها يثرب قبل ذلك، وإنها لفرصة عظيمة لزيارة المسجد النبوي الشريف قد لا تسنح للحاج مرة أخرى، فعليه استثمارها بالإكثار من الصلاة فيه قدر الإمكان ، ولكن هذه الزيارة ليست من شعائر الحج ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا أن مسجده ثاني المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيها { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى} رواه مسلم، فهذه المساجد الثلاثة وحدها دون غيرها هي فقط التي يتوجه إليها المسلم بالسفر والزيارة بقصد التعبد للصلاة فيها، وهنا لا بد من الإشارة إلى أهم أحكام دخول المسجد النبوي الشريف والتعبد فيه إلى الله تعالى.

* هذه الزيارة مشروعة على الدوام وليس لها وقت مخصوص ، ولكنها تستحبُّ لِمن قدِم للحج ليُدْرِك فضيلةَ الصَّلاة فيه ، وبالأخص من جاؤوا من خارج الجزيرة العربية ، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: {صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألْف صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام} رواه البخاري ، وعلى الزائر أن تكون نيته زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا زيارة قبره لأن شد الرحال المشروع إليه لا إلى القبر.

* فإذا وصل المسجد ودخله صلَّى فيه ركْعتيْ تحيَّة المسجِد، أو صلَّى الفريضة إذا كان وقتها.

* ثم يدخل فيقصد الروضة الشريفة التي قال صلى الله عليه وسلم عنها: {ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة} رواه البخاري، ومعنى ذلك أن هذا المكان يشبه روضات الجنات في حصول السعادة والطمأنينة لمن يجلس فيه ، وأن العبادة فيه سبب لدخول الجنة لعظيم الأجر والثواب عليها.

* ثم يذهب إلى قبْر النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيقِف أمامَه ويسلِّم على صاحبه قائلاً: السَّلام عليك أيها النَّبيُّ ورحمة الله وبركاته ، ويدعو له كأن يقول مثلاً : صلَّى الله عليك وجزاك الله عن أمَّتك خيراً ، فإنه صلى الله عليه وسلم يسمع هذا السلام فقد قال لنا: {ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام } رواه أبو داود .

* ثم يَخطو الزائر عن يَمينه خطوة أو خطوتين فيقِف أمام قبر الصديق أبي بَكرٍ رضي الله عنه فيسلم عليه ، ثم يَخطو عن يَمينِه خطوة أو خطوتين فيقِف أمام قبْر الفاروق عُمر رضي الله عنه فيسلِّم عليْه. ثم يعود إلى الروضة الشريفة إن أمكنه ذلك ليستزيد من الصلاة والدعاء فيها مع الحرصه على عدم مزاحمة الناس وحرمان غيره من الوصول إليها بإطالة المكث فيها.

وينبغي على زائر المسجد النبوي والقبر الشريف تجنب البدع والمنكرات وما أحدثه الناس أثناء ذلك كاستقبال الروضة أو القبر أثناء الدعاء واستدبار القبلة أو التمسح بأعمدته وقضبانه تبرّكاً أو التوجه إليه بالدعاء والرجاء فهذا كله من الشرك بالله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم { أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهَدْيِ هديُ محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار } رواه مسلم .

وللزائر إذا أراد الخروج والسفر أن يودع المسجد النبوي الشريف ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سلم أولاً ، وله أن يدعو الله بإلحاح أن ييسر الله له العودة إلى المسجد النبوي الشريف وإلى البيت الحرام حاجاً أو معتمراً .

وأخيراً فإننا نستودع الله حجاجنا وندعوه جل في علاه أن يطو لهم البعد وأن يهوّن عليهم السفر ومشاق المشاعر والمناسك وأن يتقبّل منهم وأن يردهم إلى أهليهم وديارهم سالمين غانمين راضين مرضيين.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الشيخ د. تيسير رجب التميمي؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. قاضي قضاة فلسطين، رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس





التالي
السعودية.. استضافة 1000 حاج فلسطيني من ذوي الشهداء والأسرى والجرحى لأداء فريضة الحج هذا العام

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع