أخلاقيات المناظرة والحِجاج (2)
بقلم: معتز الخطيب
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
عالجتُ -في مقال الأسبوع الماضي- موقع المناظرة من تصنيف العلوم في التراث الإسلامي، وأوضحت أن الجدل والحِجاج عنوان عامّ يشمل فنونا من الجدل الفقهي؛ تكشف عن أنماط مختلفة من العقلانية، وأرجأت مناقشة ما يكتنف العقلانية الحِجاجية من آفات أخلاقية إلى هذا المقال الذي يدور حول إطار مفهومي كلي أقترحه هنا وهو التمييز بين المناظرة فنّا والمناظرة علما، الأمر الذي يضعنا أمام نمطين من العقلانية الحجاجية؛ عقلانية شكلية (تركز على الصيغة)، وعقلانية غائية (تركز على القيمة والغاية، وتهدف إلى إقناع النفس أولا قبل إقناع الآخرين)، وسأوضح ذلك من خلال الاستعانة بفكر الإمام أبي حامد الغزالي (ت. 505هـ) مع جمع أطرافه وإعادة بنائه في إطار نظري.
ورغم النقد الذي وجهه الغزالي إلى علم المناظرة، فإن هدفه كان إصلاحه لا إلغاؤه أو ذمه، ومن خلال تفاريع نقاش الغزالي للخلافيات والمناظرة وبعد جمع أطراف كلامه المتفرق في كتبه، خلصتُ إلى بناء تصور متماسك قدمه الغزالي لإصلاح المناظرة والجدل. يشمل هذا التصور -في رأيي- 3 مستويات هي كالآتي:
الأول: ضبط مقاصد المناظرة؛ من حيث إنها غائية تجمع بين المعرفي والأخلاقي المتمثل في طلب الحق، سواءٌ جرى على لسانه هو أم على لسان غيره، ولا أقول هنا خصمه؛ لأن الخروج من أفق الخصومة شرط مهمّ في ضبط غائية المناظرة أيضا.
الثاني: تشخيص الآفات الأخلاقية التي جرّت إليها المناظرة.
الثالث: وضع معايير للمباحثة التي تجمع بين المعرفي والأخلاقي، وتحقق الشرط الغائي وتنفي محاولات التلبيس والإيهام التي يسلكها -عادة- بعض المشتغلين بالمناظرة؛ لتسويغ فعالهم وستر حظوظهم.
يندرج هذا التصور الخاص بالمناظرة ضمن تصور نقدي إحيائي -نسبة إلى مفهوم "إحياء علوم الدين"- أوسع، نَقَد فيه الغزالي جملة من المفاهيم -كمفهومي الفقه والعلم-، وقدّم بعض التصورات المتعلقة بتصنيف العلوم وبيان مراتبها وبناء مضامينها على أساس التمييز بين الوسيلة والغاية، وأن غاية العلوم أن تقرب من الله تعالى أو أن تكون سائقة إلى غاية، وهي أنها "موصلة للعبد إلى مولاه أو مُعينة على أسباب السلوك" بتعبير طاشكُبْري زادَه الذي أفاد من الغزالي في إعادة بناء تصنيف العلوم والمعارف الإسلامية.
ويمكن لي التعبير عن النقد الذي قدمه الغزالي للمناظرة بإشكالية العلاقة بين الصيغة أو الشكل -مجرد الفعل- والقيمة -الفعل المرتبط بغاية-، ومن ثم سدد الغزالي -مثلا- مسألة طلب العلم، وأنه لا ينبغي للمرء أن يستغرق عمره في علم واحد على الاستقصاء -أي أنه يرفض فكرة الاكتفاء "بالتخصص الدقيق" وفق معايير جامعات اليوم-؛ لأن العمر قصير والعلوم كلها وسائل لشيء آخر، والغزالي الموسوعي الذي أسهم في كل علم بحظ وافر لم يكن بحاجة إلى أن يذكّرنا بأنها نصيحة مجرّب ممن خاض زمنا في الخلافيات، ولكنه مع ذلك فعل؛ تأكيدا وليكون كلامه أكثر وقعا. وفيما يأتي، سأفصل في المستويات الثلاثة السابقة على الترتيب.
المستوى الأول: غائية المناظرة
يقوم المستوى الأول على ضبط غائية المناظرة (أو مقاصدها)، وقد قدم الغزالي هنا جملة أمور هي كالآتي:
* الأول: أن مقصود المناظرة طلب الحق أولا وآخرا، سواء ظهر على لسانه أم على لسان غيره، ومن ثم راح يدقق في وضع معايير -أو شروط بتعبيره- للتمييز بين ما هدفه طلب الحق وما هدفه شهوات وآفات نفسية كما سأوضح لاحقا.
* الثاني: أضاف الغزالي في كتبه لونين جديدين من المناظرة، وهما مناظرة النفس ومناظرة الشيطان، وقد أوضح أولوية هذين اللونين على اللون السائد في زمنه، وهو المناظرة على المذهب الكلامي والفقهي لطلب الرياسة والغلبة؛ خصوصا أن تلك المناظرات الفقهية لا تُحدث تغييرا في المواقف؛ لأنها صادرة عن مقلدين لا مجتهدين يطلبون الحق ويدورون معه حيث دار.
فالمقلد لن تعود عليه المناظرة بالفرق؛ لأنه يدور معه المذهب؛ دفاعا وحِجاجا وقصاراه أن يقف عند حدود القولين أو الوجهين في المذهب وهو ما لم ينشغل به مناظرو عصره على الأقل. وإدخال هذين اللونين -أعني مناظرة النفس والشيطان- يؤكد فكرة غائية المناظرة عبر تخليصها لطلب الحق وضبط موضوع علم المناظرة، وإعادة صوغ الأولويات لتبدأ من الباطن أولا؛ لأن النفس والشيطان مصدرا الآفات الخلقية في التصور الإسلامي عموما وفي التصور الصوفي خاصة. ففي مناظرة النفس يتجاوز المناظر "الكلام الرسمي" الذي يُعرض فيه الشخص عن الإصغاء أو يُصغي ولكن بظاهر القلب.
أما مناظرة النفس، فإنما تصدر عمن يصغي إصغاء ذي فطنة وبصرٍ حديد، وهي نتاج تَفكر من له قلب عتيد وألقى السمع وهو شهيد، وتتطلب صفاء الذهن، وأفضل ما يكون هذا في الخلوة. ومناظرةُ النفس -عند الغزالي- أهم من مناظرة "الحنفية والشفعوية والمعتزلة وغيرهم"؛ لسببين:
* أولهما: أنه لا يضر المناظرَ خطأُ هؤلاء ولا خطأ غيرهم، ولا هم يقبلون منه ولا هو يقبل منهم الصواب؛ لأن كل واحد منهم قد تترس بمذهبه.
* ثانيهما: أن مناظرة النفس أعدى أعداء الإنسان أولى؛ لأنه يساعدها على ما تطالبه به من شهواته الباطلة الباطنة فتستنبط بالفكر الدقيق الحيل لقضاء الشهوة، ومن ثم وجب البدء بمناظرتها؛ لتخليص الإنسان من الشهوات التي قد تؤدي به إلى إيراد الشبهات أو اختلاق الحجج لتسويغ شهوة وإخراجها بصيغة رأي. فبمناظرة النفس تنكشف روح الأعمال، والنفس إذا لم تناظرها لمدة طويلة شغلتك عن مناجاة ربك وذكره والإقبال عليه.
أما مناظرة الشيطان فليست ببعيدة من مناظرة النفس؛ فإن بينهما تداخلا وتشابها، ومن لا يناظر الشيطان -وهو مستولٍ على قلبه وأعدى أعدائه- "ثم يشتغل بمناظرة غيره في المسائل التي المجتهد فيها مصيب أو مساهم للمصيب في الأجر، فهو ضُحْكة الشيطان وعبرةٌ للمخلصين"، قد غُمس بظلمات الآفات التي سآتي على ذكرها فيما بعد.
"وضع الغزالي معايير للمناظرة أو المباحثة عن الحق، وبها يتم التمييز بين من يناظر لله ومن يناظر لعلة أخرى، أو يحاول أن يُشرعن أغراضه عبر تشبيه مسلكه بمشاورات الصحابة ومفاوضات السلف في مسائل العلم"
المستوى الثاني: آفات المناظرة وما يتولد منها من الرذائل
يُظهر المستوى الثاني من مستويات الإحياء النقدي للمناظرة، مركزية البعد الغائي والأخلاقي، وهو ما عبّرت عنه -في مقال الأسبوع الماضي- بالتمييز بين المناظرة فنًّا (مهارات) والمناظرة علمًا (يجمع بين المعرفي والأخلاقي).
فالمناظرة -بوصفها علما- موضوعة من أجل المباحثة لطلب الحق؛ فهي وسيلة منهجية لدركه، والمناظرة بوصفها فنًّا هدفها المباحثة بقصد الغلبة والإفحام وإظهار الفضل والشرف والتشدق عند الناس، وقصد المباهاة والمماراة واستمالة وجوه الناس. وهذه كلها أمور محورها -كما ترى- هو المناظرُ نفسه وأخلاقه الباطنة، وفي كلتا الحالين ثمة ترابط بين المناظرة وسلوك المناظِر؛ إذ في الأولى المرجو أن يدرك الحق ويعمل به، وفي الثانية المرجو أن يستثمر المناظرة لتنمية رذائل نفسه وتحقيق مآربه، ومن ثم كانت المناظرة -على المعنى الثاني- منبع جميع الأخلاق المذمومة.
"فمن غلب عليه حب الإفحام والغلبة في المناظرة وطلب الجاه والمباهاة، دعاه ذلك إلى إضمار الخبائث كلها في النفس، وهيّج فيه جميع الأخلاق المذمومة" التي ترجع إلى أصول عشرة يتشعب من كل واحدة منها خصالٌ أخرى في نظر الغزالي.
أما أصول الفواحش الباطنة أو أمهاتها التي ترجع إليها أخلاق المناظرة المذمومة فهي: الحسد، والتكبر والترفع على الناس، والنفاق، والاستكبار عن الحق، وكراهته، والحرص على المماراة فيه؛ حتى إن "أبغض شيء إلى المُناظر أن يَظهر الحق على لسان خصمه. ومهما ظهر تَشَمّر لجحده وإنكاره بأقصى جهده، وبذَل غاية إمكانه في المخادعة والمكر والحيلة لدفعه؛ حتى تصير المماراة فيه عادة طبيعية فلا يسمع كلاما إلا وينبعث من طبعه داعيةُ الاعتراض عليه حتى يغلب ذلك على قلبه في أدلة القرآن وألفاظ الشرع، فيضرب البعض منها بالبعض". ومن أصول الفواحش الباطنة في المناظرة أيضا: الرياء؛ فالمناظر لعلةٍ غيرِ الحق لا يقصد إلا الظهور عند الخلق وانطلاق ألسنتهم بالثناء عليه.
وفي رأيي أن هذه الآفات الخُلقية ترجع إلى مسألتين مركزيتين:
* أخلاق الذات.
* الإخلاص.
فبناء على المسألة الأولى وهي أخلاق الذات، يمكن رصد أحوال مختلفة للمتناظرين، ويمكن تصنيف المتناظرين إلى صنفين رئيسين:
* الأول: مناظرة الأكابر، ومع ذلك فالعقلاءُ منهم لا ينفكون عن الخصال المذكورة سابقا، وإن كان بعضهم قد يَسلم من بعضها مع من هو أرفع منه أو أدنى منه أو بعيد عن بلده وأسباب معيشته؛ بخلاف حاله مع أشكاله المقارِنين له في الدرجة حيث يشتد وجود هذه الآفات.
* الثاني: من وصفهم الغزالي بـ"غير المتماسكين" من المناظِرين ممن قد يتفق لهم الخصام المؤدي إلى الضرب واللكم واللطم وتمزيق الثياب والأخذ باللحى وسب الوالدين وشتم الأستاذين والقذف الصريح. فهؤلاء ليسوا معدودين في زمرة الناس المعتبرين بحسب الغزالي؛ فكلامه كله إنما هو في الصنف الأول الذي يسعى إلى تهذيبه وتسديد ممارسته للمناظرة عبر هذا الإحياء النقدي للمناظرة.
أما أصحاب الصنف الأول، فهم على مراتب بحسب درجاتهم؛ فلا ينفك أعظمهم دينا وأكثرهم عقلا عن جُمل من مواد هذه الأخلاق الذميمة، "وإنما غايته إخفاؤها ومجاهدة النفس بها"، وهي -بالجملة- "لازمة لكل من يطلب بالعلم غير ثواب الله تعالى في الآخرة". وهذه الرذائل لازمة للمشتغل بالتذكير والوعظ أيضا؛ إذا كان قصده طلب القبول بين الناس وإقامة الجاه ونيل الثروة والعزة، وهي لازمة -أيضا- للمشتغل بعلم الفقه والفتاوى؛ إذا كان قصده طلب القضاء وولاية الأوقاف والتقدم على الأقران.
أما بالنسبة إلى المسألة الثانية وهي الإخلاص، فإن "طالب الرياسة في نفسه هالك" -بحسب الغزالي- وإن صلح بسببه غيره؛ إن كان هو ممن يدعو إلى ترك الدنيا ولكنه يُضمر -في نفسه- قصد الجاه، ولن ينفعه التعلل بأن المناظرة فيها ترغيب للناس في طلب العلم؛ من حيث إنه لولا حب الرياسة لاندرست العلوم؛ فإنه كالشمعة؛ ينفع غيره ويُضر بنفسه. وذلك أن العلماء -بحسب الغزالي- 3:
* إما مُهلك نفسه وغيره، وهو المصرح بطلب الدنيا والمقبل عليها.
* وإما مُسعد نفسه وغيره، وهو الداعي الخلق إلى الله سبحانه ظاهرا وباطنا.
* وإما مُهلك نفسه مُسعد غيره، وهو الذي يدعو إلى الآخرة وقد رفض الدنيا في ظاهره، وقصده -في الباطن- قبول الخلق وإقامة الجاه.
المستوى الثالث: معايير التمييز بين نوعي المناظرة
وضع الغزالي معايير للمناظرة أو المباحثة عن الحق ليتضح، وبها يتم التمييز بين من يناظر لله ومن يناظر لعلة أخرى، أو يحاول أن يُشرعن أغراضه عبر تشبيه مسلكه بمشاورات الصحابة ومفاوضات السلف في مسائل العلم، وهو بعيدٌ عن مقاصدهم وإن شابههم في الصيغة أو الشكل. فالحق مطلوب والتعاون على النظر في العلم وتوارد الخواطر مفيد ومؤثر، ولكن له معايير دقيقة وكثيرة، أفصح الغزالي عن 8 منها، تهدي إلى التمييز بين من يناظر لله ومن يناظر لعلة أخرى، وتدور -في نظري- على اعتبار 3 جهات هي:
* فعل المناظرة ومرتبته بالنسبة إلى غيره من الأفعال في الزمان المحدد.
* أحوال المناظر.
* موضوع المناظرة.
وهذه المعايير الثمانية هي:
الأول: أن الاشتغال بالمناظرة إنما يكون بعد الفراغ من فروض الأعيان؛ لأن المناظرة من فروض الكفاية. فمن عليه فرض عين فاشتغل بفرض كفاية وزعم أن مقصده الحق فهو كذاب. ولتقويم الطاعة واندراج صاحبها في وصف الطائع في فعله لا بد من تحقق جملة أمور مجتمعة وهي: كون الفعل من جنس الطاعات، ومراعاة الوقت، والشروط، والترتيب.
الثاني: ألا يرى المناظر فرض كفاية أهم من المناظرة؛ فإن رأى ما هو أهم وفعل غيره عصى بفعله؛ لعدم الاتساق بين ما يعتقده وما يعمله.
الثالث: أن يكون المناظر مجتهدا يفتي برأيه استقلالا؛ فأما من ليس له رتبة الاجتهاد وإنما يفتي فيما يُسأل عنه؛ ناقلا عن مذهب صاحبه، فأي فائدة له في المناظرة ومذهبه معلوم وليس له الفتوى بغيره، فإن كان مقلدا انسد عليه باب طلب الحق؛ فلو ظهر له ضعف مذهبه لم يَجز له أن يتركه، ما يعني أن المناظرة تحولت إلى مجرد صيغة هنا. ولكن يرد هنا إشكالان على كلام الغزالي وهما: الأول: أنه إذا كان التقليد "هو حكم كل أهل العصر" -كما يقول الغزالي نفسه- فإن هذا المعيار يعود بالنقض على جميع المناظرات التي تجري بين المذاهب والتي قامت عليها فنون الجدل الفقهي في القرن الخامس وما بعده. والثاني: أن مقلدة المذاهب من العلماء قد وقع لهم اليقين بصحة مذهبهم، ومن ثم فكلٌّ منهم -وإن كان مقلدا- يناظر عما يعتقده حقّا أو ما هو أرجح على أقل تقدير.
الرابع: ألا يناظر إلا في مسألة واقعة أو قريبة الوقوع غالبا، فعلى المناظرين أن يهتموا بانتقاد المسائل التي تعم البلوى بالفتوى فيها، ومن يقصد الحق عليه أن يقصر الكلام ويبلغ الغاية على القرب لا أن يطوّل.
الخامس: أن تكون المناظرة في الخلوة أحب إلى المناظر وأهم من المحافل وبين أظهر الأكابر والسلاطين؛ فإن الخلوة أجمع للفهم وأحرى بصفاء الذهن والفكر ودرك الحق، وفي حضور الجمع ما يحرك دواعي الرياء ويوجب الحرص على نصرة كل واحد نفسه، محقا كان أو مبطلا.
السادس: أن يكون المناظر -في طلب الحق- كناشد ضالة (أي مفقودا) لا يُفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه، ويرى رفيقه مُعينا لا خصما، ويشكره إذا عرّفه الخطأ وأظهر له الحق.
السابع: ألا يمنع المناظرُ مُعينه في النظر (فالمناظرة هي معاونة على النظر وطلب الحق)، من الانتقال من دليل إلى دليل، ومن إشكال إلى إشكال، ويُخرج من كلام مُعينه جميع دقائق الجدل المبتدعة فيما له وعليه.
الثامن: أن يناظر من يتوقع الاستفادة منه ممن هو مشتغل بالعلم، والغالب على المناظرين أنهم يحترزون من مناظرة الفحول والأكابر؛ خوفا من ظهور الحق على ألسنتهم فيرغبون فيمن دونهم؛ طمعا في ترويج الباطل عليهم.
يساعدنا هذ التصور الثلاثي للمناظرة على الجمع بين المعرفي والأخلاقي في العقلانية الحجاجية؛ حيث يجمع بين الصيغة والقيمة، وينتقل من فن المناظرة الذي يتمحور حول "المهارات" (skills) وتملك التقنيات والقدرة على الإقناع ولو بأفكار هشة، إلى علم المناظرة بقصد طلب الحق حيث يتحول الخصم المفترض إلى مُعين على النظر (المناظرة مفاعلة من تمتين النظر بطرفين أو أكثر).
والأولوية في علم المناظرة تكون لإقناع الذات أولا ودفع خطرات النفس والشيطان بمسالك حجاجية عقلية تقود إلى تخليق الذات ودفع رذائلها. وهذا الانتقال بالمناظرة من فن إلى علم يعين على تجاوز الآفات الأخلاقية التي جَرّت إليها المناظرة تاريخيّا مع تحولها إلى صيغة مجردة عن القيمة، ومن أجل التمييز بين المناظرة علما والمناظرة فنّا وُضعت معايير حاكمة لضبط الفرق بين نمطي الحِجاج، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* معتز الخطيب؛ أستاذ فلسفة الأخلاق في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة. عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين