تشويه فكرة التوحيد وانعكاساتها على الانتكاس الحضاري للأمة
بقلم: د. جمال نصار
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
إذا نظرنا إلى واقع الأمة الإسلامية، نجد أنها وصلت إلى حالة من الانهزام الحضاري غير المسبوق بعد أن سادت الدنيا بفكرها، وحضارتها، واستفاد منها العالم في جميع الميادين. وحينما ابتعدنا عن أصولنا وثوابتنا، وتركنا حضارتنا، وتبعنا الغرب في كل خطواته، حدثت لنا حالة الانكسار التي نراها الآن.
والملاحظ أن عوائق التحضر الإسلامي شديدة التعقيد في الوقت الراهن، بسبب طول هذه الفترة، وكما ذكر الدكتور عبد المجيد النجار في كتابه: "الشهود الحضاري للأمة الإسلامية"، يبدو أن وضع الغياب الحضاري الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم تشترك فيه ثلاثة عوامل أساسية كبرى، يرجع أحدها إلى الفكرة التي تعمر أذهان المسلمين عن الوجود والكون والحياة، ويرجع الثاني إلى الطريقة المنهجية التي بها يفكرون لتنفيذ القناعات والرؤى في واقع الحياة، ويرجع الثالث إلى الحالة النفسية التي هم عليها، من حيث مردودها على الإرادة المنجزة قوة وضعفا، ودفعا وانخذالا، إذ التحضّر لا يتحقق إلا بفعل الإرادة الحرّة الفاعلة التي تحوّل العزائم إلى أحوال واقعية تجري بها الحياة، فإذا ما تراخت الإرادة آلت الأفكار والمناهج إلى البوار.
وإذا تأملنا في كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة، سنجد أنه أصابها خللٌ واضح ومُعقد، وربما اختلفت أسباب الخلل، وتعددت مظاهره، ولكنها تنتهي إلى نفس النتيجة، وهي الإعاقة عن الانطلاق الحضاري.
ولنبدأ بالعنصر الأول، وهو الخلل في الفكرة التي أصابت المسلمين، والمقصود بالفكرة ما يقع في الأذهان موقع الاقتناع من رؤى تفسير الوجود والكون والحياة.
والفكرة بالنسبة للأمة الإسلامية (كما ذكر الدكتور النجار) المقصود بها العقيدة الإسلامية بمفهومها العام، فيما تحدّد من حقيقة للوجود على أنه إله مطلق الكمال، وعالم مخلوق له ومدبّر بأمره، وفيما تحدّد من غاية للحياة على أنها خلافة لله في الأرض، وفيما تصور من حقيقة للكون على أنه مسرح لاستخلاف الإنسان. فتلك هي الملامح الكبرى للفكرة الإسلامية، وأهم خلل وقع في الفكرة، هو ما أصاب مركزية التوحيد من انحلال.
فوحدانية الله تعالى هي جوهر الفكرة الإسلامية كلّها، والنقطة المركزية التي تمتدّ خيوطها جامعة لكل الجزئيات والفروع، فما من موجود إلا وهو راجع في علته إلى الله تعالى، وخاضع في سيرورته لتدبيره، وما من الحياة إلا وهو راجع بسبب إلى أمره ونهيه، وما من نزوع بالفكر، أو بالقلب، أو بالفعل إلا وهو مشدود إلى الله يبتغي مرضاته، ولو تصوّرنا الفكرة الإسلامية كما ينبغي أن تكون حالة في ذهن المسلم تصوّرا حسيّا، لبدت لنا دائرة كبيرة مركزها وحدانية الله، ومن ذلك المركز تنطلق دوائر متتالية تنتظم عليها كل عناصر الفكرة وأجزائها.
ولو تأملنا الوضع الإسلامي اليوم من حيث الهيئة التي تنتظم عليها الفكرة، لوجدنا وضع مركزية التوحيد قد داخله الاضطراب، فإذا بوحدانية الله أصبح لها موقع يساوي مواقع سائر الصور والأفكار الجزئية، فهي قد تزحزحت من مركز الإشراف لتحتلّ ركنا في الذهن مستقلا بنفسه، فلا تكون ممتدة إلى سائر الأركان الأخرى.
لقد غاب من الفكرة الإسلامية في عقول أفراد الأمة اليوم الجهاز المركزي الذي ينظِّم كل الصور والأفكار والرؤى، ويشرف عليها ويوجهها، وهو المتمثل في حقيقة التوحيد فغدت هذه الفكرة شتاتا، علاقة عناصرها ببعضها علاقة التجاور المعرفي لا علاقة الترابط والاتساق التي تسلك الجميع نحو الغاية الموحدة، وتحشد الكل نحو الوجهة المشتركة، بل أصبحت هذه العناصر كثير منها يشاكس بعضه بعضا، ويناقض بعضه الآخر، ولكنها تحشر كلها في نفس الذهن، ويراد لها عن وعي، أو عن غير وعي أن تكون مصدرا واحدا للحياة، مثلما يُرى من التناقض بين الولاء لله والخضوع له في الصلاة والصوم، وبين الولاء للسلطان والخضوع له في الربا والخمر، ومثلما يُرى من التشاكس بين بند في القانون يحكم بمصدرية الوحي لكل تشريع، وبين قانون آخر يحكم بحلّية الزنى ويبرئه من العقوبة، كل ذلك تنطوي عليه ذات الفكرة بالمعنى الموسّع التي تعمر ذهن المسلم اليوم؛ إنها خليط متدابر، لا ينظمه ناظم، ولا يوحده مركز مشرف، ولذلك أثر بعيد في الإعاقة عن الانطلاق الحضاري.
هذا التشتت في الفكرة وعدم الارتباط بها يؤدي بلا شك إلى عواقب وخيمة، ويُسلمنا إلى الارتخاء الحضاري،.
يقول الدكتور النجار: ولو شئت أن تقف على مصداق هذه الحقيقة عيانا في الواقع الراهن للأمة الإسلامية، فانظر إلى المشاريع العلمانية التي يُراد بها أن تكون خطة للنهوض، إنها مشاريع ثقافية، واجتماعية، واقتصادية بُنيت على منظومة فكرية لا علاقة لها بالتوحيد، بل هي منافرة له في عناصر كثيرة، ثم سُوِّقت هذه المنظومة سياسيا وإعلاميا لتحلّ في الأذهان ضمن الفكرة التي تحملها الأمة، فإذا هي تقع ضمن تلك الفكرة العامة عن وعي حينا، وعن غير وعي أكثر الأحيان، ولكنها على أية حال مثلت في الفكرة التي يحملها المسلمون نشازا عن النسق التوحيدي، وتناقضا مع عناصر أخرى في دائرة تلك الفكرة ما زالت على روح من التوحيد. فلما وجّهت الأمة للإنجاز الحضاري وفق المشروع العلماني، لم يستطع هذا المشروع في مستوى الفكرة أن يجد من القوة ما يترسّخ به في النفوس، فيدفع إلى تحريك الإرادة لتنطلق موجّهة الكيان الإسلامي الفردي والجماعي لتحقيق التعمير، وإنجاز البناء؛ وذلك بسبب من التشتت والتناقض الحاصل في مجمل الفكرة التي تحملها الأمة، بفعل مناشزة الأفكار المحدّدة للمشروع العلماني لأفكار أخرى توحيدية.
والخلاصة، أن الخلل في فكرة التوحيد وفهمها على الوجه غير الصحيح، يشكل عائقا كبيرا للمسلمين في طريق الاستئناف الحضاري، فالمسلمون اليوم يحملون في الأذهان فكرة صبغتها العامة إسلامية، ولكنها مصابة في بعض أركانها الأساسية بوهن يظهر في اضطراب أو انحراف أو ضمور، وهو وَهَن يشدّها إلى الإخلاد إلى الأرض، وكلما همت بالنهوض، كان هو من أهم الأسباب في خذلانها.
فالفكرة الإسلامية لما كانت المحرك الأساس الذي دفع الأمة إلى الشهود الحضاري، فإنها حينما تكون مختلة تعيق، لا محالة، عن النهوض لاستئناف ذلك الشهود.
وللحديث بقية إن كنا من أهل الدنيا.