نشر صور المرضى والموتى وحرمة جسد الإنسان
بقلم: عصام تليمة
هناك عادة انتشرت مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، وتوافر هاتف محمول في يد الإنسان، فيه إمكانية التصوير بجودة عالية، وهي تصوير الإنسان في كل حالاته، الخاصة والعامة، فتجد حريقا أو غريقا، وتجد القليل يهتم بالإطفاء، أو الإنقاذ، وكثيرين يمسكون بهواتفهم يصورون ويسجلون الحدث.
والناظر إلى كمّ التصوير والصور في شتى حالات الإنسان، سيجد أنها لا تفرق بين خاص وعام، ولا بين ما يقبل وما لا يقبل، فتجد الإنسان في حالة المفترض أنها حالة حزن شديد، يهتم الكثيرون بالحزن، وتهتم فئة بتوثيق لحظات الدفن، وبتصوير الميت ولو كان مكشوف الوجه. ولأنها أصبحت حالة منتشرة، فقد كثر السؤال عنها، وبخاصة بعد أن شاهدنا صورة منشورة لأحد فناني مصر، قامت بنشرها ابنته، فتساءل البعض: هل ما تم فعله صواب شرعا أم لا؟ وهل تصوير مثل هذه الحالات يحلّ شرعا أم لا؟ وهل يتفق مع حرمة جسد الإنسان أم لا؟
ما معنى الحرمة؟
قديما كانت تنتشر بين الناس أقوال: الموت له حرمة، والمرض له حرمة، والطعام له حرمة، والبيوت لها حرمة. والمقصود بها الاحترام والكرامة، وليس شرطا أن تكون الحرمة الشرعية كفتوى، وإن كانت تنطلق من معنى ديني، وهو تكريم الإنسان، ونفي ما يتعارض معه، ولذلك أمثلة في حياتنا، فنرى الناس تقول لمن يدخل بيتا بدون إذن، استأذن قبل دخولك فإن للبيوت حرمة، والحرم الجامعي، والحرملك. وكلمة حرمة تطلق في الخليج على المرأة، وهي أيضا تأتي من هذا المعنى، وإن كانت ترفض في بلد كمصر، ولو قيلت لسيدة لأهانت من قالها لها.
احترام خصوصية الإنسان حيًّا وميّتًا
وجسد الإنسان، أو خصوصيته، محترمة ومقدرة شرعًا، حيًّا وميّتًا، فلا يقبل الإسلام إهانة هذا الجسد، سواء من الناس، أو من صاحب الجسد نفسه، وقد ورد هذا المعنى في آيات كثيرة في القرآن الكريم، منها: قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} الإسراء: 70، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} الانفطار: 7-8، وقال تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} الحجرات: 11.
كما احترم الإسلام خصوصية الإنسان، حيًّا وميّتًا، فشرع: أدب الاستئذان، كي لا يطلع عليه أحد في حال لا يحب أن يراه آخر عليها، فقال تعالى: {لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ بُيُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَهۡلِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُون} النور: 27، بل وضع الإسلام قواعد لدخول الأولاد وهم من أهل البيت، وحدد أوقاتًا لا يدخلون فيها على الآباء والأمهات من دون إذن، فقال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسۡتَـٔۡذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَبۡلُغُواْ ٱلۡحُلُمَ مِنكُمۡ ثَلَٰثَ مَرَّٰتٖۚ مِّن قَبۡلِ صَلَوٰةِ ٱلۡفَجۡرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِنۢ بَعۡدِ صَلَوٰةِ ٱلۡعِشَآءِۚ ثَلَٰثُ عَوۡرَٰتٖ لَّكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ وَلَا عَلَيۡهِمۡ جُنَاحُۢ بَعۡدَهُنَّۚ طَوَّٰفُونَ عَلَيۡكُم بَعۡضُكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} النور: 58.
وبالعودة إلى كل الأوامر القرآنية والنبوية، في احترام خصوصية الإنسان، نجد أنها تشمل خصوصيته حيًّا وميّتًا، داخل بيته وخارجه، فليس من حق أحد التجاوز في هذه المساحة من دون إذنه، سواء كان ما امتلكه الشخص ماديا أو معنويا، فمال الإنسان ودمه وعرضه وكل ما يتعلق به مقدر ومحترم، وليس من حق أحد التجاوز في هذه المساحات، بل وضع الإسلام عقوبات شرعية وتعزيرات ردعًا لمن يتعدّى تلك الحدود.
التصوير وسيلة لا بد لها من مقصد
أما التصوير فهو في حد ذاته وسيلة، وكي نحكم على صورة معينة، أو شخص معين قام بتصوير شخص، لا بد من معرفة مقصده ونيته وهدفه من ذلك، حتى نستطيع أن نحكم على هذا الفعل هل يدخل في دائرة التحريم أو الكراهة أو الإباحة الشرعية، فالوسيلة لا يحكم عليها إلا من خلال المقصد والهدف منها.
فكل صورة إذا كانت في ضوء موافقة الشرع، فلا بد أن تكون وسيلة لهدف مشروع، وبخاصة في زمن أصبحت الصورة فيه هي المعبر الكبير عن الحالة التي يراد الحديث عنها، فلو عقدت مؤتمرا عن قضية حقوقية، أو قضية سياسية، أو قضية دينية، وتكلمت مدة أيام، بدون صورة، لظل تأثيره ضعيفا، لكن صورة واحدة فضلا عن مجموعة صور معبرة عن ذلك، أو فيديوهات، ستغيّر التأثير والأثر أضعافا مضاعفة.
فإذا كانت الصورة لا تحقق هدفا مشروعا، بل تسيء إلى الشخص، فإنها بلا شك تكون ممنوعة شرعًا، وقد ارتكب فاعلها ما لا يحله الشرع، ويزداد الإثم حين يكون مقصد وهدف الشخص الإساءة، حتى لو كانت الصورة لا تشتمل على محرم، ولكنها أساءت، وقصد بها صاحبها الإساءة، كمن نشر صورة لإنسان من باب التنمّر، أو من باب السخرية من خلق الله، ولن تجلب إلا الضرر المعنوي والنفسي للإنسان، وإذا كانت الغيبة محرمة، وهي ذكرك ما في الإنسان بما يكره، فما بالنا بالصور أو غيرها؟
التصوير لنيل الحق جائز
وهناك حالة أخرى يكون الهدف من الصورة، الإنقاذ، أو التعاطف، أو جلب الاهتمام لهذه الحالة، كحالة ابنة الفنان التي نشرتها مثلا، أو حالة من ينشر صورة لإنسان مات من التعذيب، أو توثيق لاعتداء على حقوق الإنسان، أو اعتداء على ضعيف، لا يملك الدفع عن نفسه، ونشر الصورة والحدث سيكون رادعا للظالم، أو توثيقا للحق، فهنا المقصد مشروع، والهدف مشروع، والنتيجة لصالح المظلوم، ولولا هذا التوثيق لا يثبت الحق، فما أسهل الإنكار، وإلقاء التهمة على المظلوم! فهنا يكون التصوير هنا مباحا، بل واجبا على من يملك ذلك، لأنه يثبت حقا، ويجلبه لصاحبه، وهو ما تقوم به الصحافة والإعلام بوجه عام.
وباب التوثيق بالصورة والفيديو في مثل هذه القضايا، سواء مع الأحياء أو الأموات، هو من باب الإثبات الشرعي، وأشبه بالشهادة، وربما عجز الإنسان الذي شاهد الحدث عن أداء الشهادة بنفسه، لكن الصورة والفيديو أقوى تعبيرا. وقد كان الفقهاء قديما يمنعون تشريح الجثث، تكريما لجسد الميت، ولكنهم استثنوا من ذلك: التشريح للتعليم لطلبة كلية الطب، والتشريح لأجل التحقيق الجنائي في القضية، لمعرفة كيفية ارتكاب الجريمة، وهو نفس ما يقال عن الصورة بشتى أنواعها في حالة الموت والمرض، وفي حالات أخرى.
وما يقال عن التصوير في مثل هذه الحالات، يقال عن التصوير والتوثيق في حالات العبادات والطاعات، فالأصل فيها الخفاء والسر، وليس التصوير والإعلان، إلا من باب التشجيع على الطاعة، في سياقات محددة، فهناك شخصيات بإعلان تبرعها مثلا، تشجع الناس على ذلك، وتعطي مصداقية وثقة في الجهة التي تجمع، وما يقاس عليها أيضا، يدخل في هذه الدائرة من الحكم الشرعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* د. عصام تليمة؛ عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. من علماء الأزهر، حاصل على الدكتوراه في الفقه المقارن.
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين