البحث

التفاصيل

دعم ونشر نظام التفاهة (2)

الرابط المختصر :

دعم ونشر نظام التفاهة (2) | سلسلة؛ أنقذوا مكـارم الأخلاق

بقلم: الدكتور أحمد الادريسي

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

(اقرأ: المقال الأول: تهديم الأخلاق والقيم الإنسانية | سلسلة؛ أنقذوا مكـارم الأخلاق)

 

من أدوات الهجوم على القيم النبيلة ومحو الفطرة السليمة، يعمل “أعداء القيم” ليل نهار، وبكل جدية من أجل تشجيع التفاهة واعتبارها ثقافة مبررة تكرس وضعا راهنا في عصرنا، وهذا توجه خطير يكاد يكون عالميا نحو ما هو تافه، حيث نجد كل شيء تقريبا يتم تتفيهه، حتى وصل الأمر إلى المناهج العلمية والمواضيع الإعلامية والثقافية والسياسية وغيرها من المجالات.

أولا: نظام التفاهة، والوجوه التافهة.

التفاهة لغة: “الدناءة وانعدام الأهمية وتجسيد الحقارة”. وتعني أيضا: التناقص في الأصالة وفي الإبداع والقيم.

بقول المفكر والفيلسوف آلان دونو: “التفاهة هي الشر أي في شكل الوعي والعقل الذي يتكيف مع العالم كما هو، الذي يطيع مبدأ القصور الذاتي ومبدأ القصور الذاتي هذا هو حقاً الشر الجذري”[1]. فبدل الاهتمام بالرموز المهمة لبناء المجتمع والحضارة ولإقامة وزرع الوعي الفردي أو الجماعي، يتمّ تسخير وسائل الإعلام الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي التي هيئت التافهين، ومنحت لهم فرصة للظهور والانتشار والخروج الى عالم الشهرة، حتى يتطبّع الناس تدريجيا مع العبث والبذالة، من خلال الدفع بأناس يقومون بأعمال عبثية وأشياء تافه لا قيمة لها سوى ضرب القيم وانحلال الأخلاق ونشر الرذيلة.

ويدفع نظام التفاهة بالوجوه التافهة التي تمتهن الرذيلة وتنشر كل أشكال الفسوق والعصيان لله تعالى، وضرب القيم النبيلة، تدفع بهم إلى مدارج الشهرة والنجومية، فالواقع الحاصل يدفعنا أحيانا كثيرة إلى القول بأننا أصبحنا نعيش عالم بطله؛ التافهون وكل من كانت التفاهة هدفه، مع الاعتقاد بأن المال هو المعيار الأول، إن لم يكن الأوحد، فيما نسميه بالنجاح والشهرة. ومن أراد أن يكون ناجحا في ظل هذه الظروف المستجدة، فلا بد له من المال أي؛ كلما استطاع جمع المال أكثر، كلما ارتقت درجته وعلا شأنه في المجتمع.

ثانيا: وسائل نشر التفاهة.

إن تغلغل بعض التافهين في جميع قطاعات المجتمع ومن بينها الإعلام والتعليم والاقتصاد والتجارة، أصبحوا يتصدرون المشهد موجهين أفراد المجتمع ضاربين القيم والمعتقدات والثقافات والأعراف، مع دفع بالمجتمعات للانقياد الأعمى نحو عالم بدون قيم وأخلاق. ومن أهم الوسائل التي يستعملونها لنشر التفاهة وتشجيع التافهين:

- الترويج للتفاهة بمناهج لها أبعاد نفسية وفكرية، واجتماعية.

- الإعلام الإلكتروني، حيث وجدت التفاهة فرصتها العظيمة عبر شبكات التواصل الاجتماعي كالأخطبوط تنتشر في كل مكان للتشويّش على التميز والإبداع وكل ما هو جديّ، وتحويل كل ما هو راقي إلى لذّات وشهوات تافهة تنخر في جسم المجتمع.

- وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات رسمية تصنع وتصدر بعض التافهين، وتصورهم على أنهم نجوم وقدوة، مثلًا إعداد برنامج بملايين المشاهدات، بغض النظر عن محتواه وقيمته الفكرية أو العلمية.

- التمويل بسخاء وإنفاق مئات الملايين لإنتاج برامج تافهة الهدف من أجل الهروب من الواقع، وأصبح التسفل أسهل من الترفع، حيث أصبح المحتوى التافه محل الاهتمام والتطوير وتسويقه لأفراد المجتمع، وهذا أدى إلى زعزعة ثوابت المجتمعات وقيمها وأخلاقها. أكثر من المحتوى العلمي والمعرفي النافع والعمل الهادف الذي لا اهتمام يليق بمفكريه وعلمائه.

- كما تُستخدم برامج التثقيف الاقتصادية لتشتيت الناس ومنعهم من إدراك الفوضى السائدة في سوق البورصة. فبدلاً من توعية الفرد بشكل حقيقي تهدف هذه البرامج إلى تضليله. وبدلاً من تطور المؤسسات نحو استيعاب الموظفين وزيادة معدلات الدخل وإنعاش الموارد البشرية، تتجه الشركات الى تقليل الوسطاء وصرف الموظفين واختصار النفقات لزيادة الأرباح. أما الأخطر في ذلك كله فهو أن المتواطئ الرئيس مع خططهم هي نقابات العمال.

ثالثا: التفاهة والثقافة.

لقد أصبحت الثقافة أداة لترسيخ نظام التفاهة، وأنتجت الثقافة لغة ومصطلحات تغطي على حقيقة الأشياء، فمثلا جرائم الزنى أصبح يطلق عليها “جرائم الآداب”، وهو ما أفقد الإحساس الاجتماعي بالمعنى السليم. وتجلت التفاهة فيما يصدر من كتب، فالأدب أصبح يخلو من التحديات والإبداع، فالكتب الأكثر مبيعا تنشر في كثير من الأحيان التفاهة وتشهر أعمال التافهين.

ومن خلال الصحافة انتشرت التفاهة، فالصحافة في حقيقتها ذات طبيعة اختزالية ترتبط بتوجهات مالكيها ومصالحهم وقناعاتهم، فالصحافة صناعة، وما يحركها هاجس الربح والمصلحة والتسويق، لذا يفهم انتشار صحافة “Tabloid” المهتمة بالفضائح وأخبار المشاهير، وهي تنشر مادة تافهة، لذلك تساءل الغيورون على القيم؛ ما هي حدود حرية التعبير وتدفق المعلومات في ظل تزايد ضحايا الصحافة الذين اعتدت على حياتهم الخاصة والشخصية؟

وأما عن شبكات التواصل الاجتماعي، فإنها زادت من التفاهة، وهذه صنعت عقلا جماعيا من التفاهة، وصار بإمكان التافهين أن يكونوا رموزا من خلال عدد الإعجابات التي يحصلون عليها، ويلاحظ هنا تقلص صور النجاح التي تعارفت عليها البشرية والتي كانت معاييرها العمل الجاد والصالح أو التفوق، لصالح معيار واحد هو المال.

والذي مكّن للتفاهة أن تنتشر وتترسخ أكثر، أمران:

الأول: المبالغة في التفاصيل: وهنا تضيع الحقيقية ويغيب المعنى، وقد وصفهم الفيلسوف نيتشه بقول بليغ عندما تحدث عن الشعراء الذي يهتمون بالقصائد الخالية من القيمة بقوله: "هؤلاء يكدرون مياههم، كي تبدو عميقة".

الثاني: البهرجة والابتذال، فبعض الناس قد يلجأ إلى الفظائع بحثا عن الشهرة وبهرجتها.

لذلك كان السياسي الفرنسي في القرن الثامن عشر تاليران يقول: “كل ما يُبالغ فيه هو أمر غير ذي أهمية”. وكان مالك بن نبي يقول: (فكرنا خاضع لطغيان الشيء والشخص، وهذا السبب سيختفي عندما تستعيد الأفكار سلطانها في عالمنا الثقافي)[2]،

فالتفاصيل وكثرتها عائق أمام الفهم وبناء الفلسفة والإدراك والرؤية، وهذا يجعل هناك إسباغ من الأهمية على كل شيء غير ذي معنى، فيتحول كل شيء إلى هدف واحد وهو الحصول على المتعة.

خاتمة:

إننا نعيش في مرحلة تاريخية طغى عليها ب”نظام التافهين”، حيث يبسط فيها التافهون نفوذهم على الحكم كما يدعمونهم في كافة مجالات الدولة، فانتشرت ثقافة البلاهة والتفاهة والجهل والتدجين ونقد سوريالي ساخر وموضوعي للتخلف بسبب سيكولوجية الانسان المقهور، وهذا أدى إلى انحطاط  هائل في الفن والفكر والذوق الجمالي العام، وطفت على السطح بدل ذلك  طبقة من الأميين غير المتعلمين  حققت ثراء  فاحشا بالمحتوى الساقط الهابط  والكلام النابي والفضائحية واليوميات  الفارغة وقصص الجرائم والسفالة  بدون كفاءة  فكرية إبداعية أو تأهيل علمي.

ما العمل؟

يقول المفكر آلان دونو: "إذا لم نواجه هجوم التفاهة الخبيثة للعدوان في بيئتنا اليومية، وإذا فقدنا السيطرة تدريجيًا على التلوث السائد من اللامبالاة وعدم الاحترام، فنحن بحاجة إلى إعادة هيكلة تفكيرنا بشكل لا رجعة فيه وتعديل آلية عملنا أخذ كل شيء كأمر مسلم به وقبول أي شيء غير قابل للنقاش، قد يولد الانفصال، ويثير حسرة شديدة، وأخيراً يحول حياتنا إلى بلاء".

فنظام التفاهة له رموز تافهة ولغة تافهة وشخصيات وأدوات تافهة خاصة به، أما السر الخطير خلف نجاح هذا النظام فيتجلى أساسا في قدرته على؛

"إيهام الأفراد بأنهم أحرارا فيما يفعلون، بينما هم مسيسون بسياسة القطيع".

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

-[1] نظام التفاهة”، للكاتب والفيلسوف آلان دونو. ترجمة: الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري. (دار سؤال للنشر والتوزيع، بيروت. الطبعة الأولى: 2020م).

والكتاب “آلان دونو” هو أستاذ الفسلفة في جامعة كيبيك الكندية، وهو من المناهضين للرأسمالية المتوحشة.

-[2] مالك بن نبي؛ “مشكلة الافكار في العالم الإسلامي، الفصل الثالث عشر”، (منشورات مٶسسة مالك بن نبي للبحوث الفكرية و التطوير).





التالي
الشيخ السالوس.. فقيه الاقتصاد والمعاملات
السابق
مغالطات رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي في موازين العلم وقواعد الإنصاف والعقل (8)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع