المقال الثاني عشر- تأسيس القرآن للوعي بأهمية فهم وإعمال سنن التاريخ والواقع
بقلم: بدران بن لحسن
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
(اقرأ: المقال الحادي عشر- البرهان والتفكير طريق للحقيقة وبناء الايمان وتأسيس التدين)
إن الدين (الإسلام)، في ضوء القرآن الكريم وفي ضوء السنة النبوية، جزء من الناموس الكوني كما يقول مالك بن نبي[1]، وهو يمثل الهدى الذي رسم خطه الأنبياء عليهم السلام للبشرية عبر سلسلة خط النبوة الممتد في التاريخ.
وإن الناظر في القرآن الكريم من جهة، وفي تاريخ التبدل والتداول الحضاري للأمم من جهة أخرى، يجد أمراً بالغ الأهمية، وهو أن القرآن الكريم بما أنه كتاب هداية، فقد حوى ما يحتاجه الإنسان للاهتداء به إلى أن تقوم الساعة.
ولا نقول هذا الكلام انفعالاً أو حماسة للقرآن لأننا مسلمون نؤمن بكل ما جاء به كتاب الله العزيز فحسب، بل إن الدراسة المتأنية للقرآن الكريم، تمكننا من بناء وعي بهذه الحقيقة عن القرآن، الذي وصفه الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [سورة الإسراء: 9].
ولهذا يرى العلامة محمد إقبال أن مجيء الإسلام إيذان بميلاد "العقل الاستدلالي"[2]؛ ذلك أن القرآن الكريم؛ كتاب الإسلام، أرسى قواعد النظر العلمي، وفتح للإنسان أفق التفكير القائم على المنهج، البعيد عن الخرافة. فالقرآن رفض النظرة الخرافية لحركة التاريخ، كما رفض الآبائية الفكرية أو الدينية أو الأيديولوجية، وجعل الإنسان سيدا قادرا على تحديد مصيره بناء على تفكيره واختياره الحر. ورفض القرآن أيضا تفسير حركة التاريخ بناء على الصدفة أو القدرية أو الجبرية والاستسلام لحركة الواقع دون اتخاذ الأسباب[3].
ولذلك فقد نبه القرآن ووجّهَ الناس إلى وجود سنن تحكم حركة التاريخ، وهي سنن لا تتأخر، ولا تحابي، ولا تضطرب. وعلى من يريد أن يوجه حركة التاريخ لصالحه أن يتعامل بوعي مع هذه السنن فيسخرها له. لأن السنن "هي القانون الذي يحكم الكون، هي القدر الذي شرعه الله لترتيب النتائج على المقدمات، وهو الذي يمثل العدل المطلق والجزاء الأوفى على السعي" كما يقول الأستاذ عمر عبيد حسنة[4].
وللسنن أهميتها بالنسبة لما نعيشه على المستوى الداخلي لنا نحن المسلمين، وبالنسبة للإنسانية بشكل عام، وليس الكلام عن سنن القرآن التاريخية بالأمر النظري البحت. ولهذا علينا بأن نولي عناية كبيرة لهذا الجانب السنني الذي يهدف القرآن إلى تأسيسه في وعينا في مستوى التفكير والإنجاز.
كما أن التأمل في تاريخ التطور أو السقوط الحضاري لمختلف الأمم التي تعاقبت أو لا تزال على مسرح الحياة، يجد أن التاريخ محك حقيقي يثبت صدق القرآن وتعاليه ونسقيته، كما يجد أن التاريخ يمثل تصديقاً مطابقاً للآيات القرآنية في هذا المجال المهم، ويدرك أن هذا الوجود في مختلف مراتبه قائم وفق سنن الله تعالى.
وفي هذا المقام، تبرز الأهمية التي أعطاها القرآن لمسألة السنن، لبناء وعي بأن الوجود قائم عليها، وليس هناك عشوائية أو عفوية أو صدفة، وكذلك أن هذه السنن يمكن تسخيرها وتوظيفها في إحداث التغيير المطلوب منا، من أجل تحقيق الهدف الأسمى من وجودنا؛ وأن نحقق الخلافة على هذه الأرض، من خلال تعميرها وفق المثل القرآنية، وفي نفس الوقت القدرة على تلافي الانحراف المؤدي للسقوط.
ذلك أن أمر القرآن بالسير في الأرض والنظر كيف بدأ الخلق، والتنبيه إلى تبدل الأيام والدول بين الناس، الغرض منه تعليم الإنسان أن العفوية والخرافية والصدفة لا وجود لها في عالم الخلق وعالم الأمر، لا وجود لها أبداً. وانظر إلى قوله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ﴾ [سورة الروم؛ 24]، و﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلً﴾ [سورة الأحزاب؛ 62]، و﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [سورة العنكبوت؛ 20]، وغيرها من الآيات التي تنبه إلى أن كل شيء بقدر، وهذه الأقدار ما هي إلا سنن تحكم الأفاق والأنفس والتاريخ.
وفي الحقيقة، فإن وعي هذه السنن والقوانين التي جاء التنبيه عليها في كتاب الله تعالى أمر بالغ الأهمية؛ ليس على المستوى النظري فحسب، بل على المستوى العملي من خلال تعاملنا اليومي مع مختلف أحداث التاريخ صغيرها وكبيرها.
وفي عصرنا هذا الذي تداولت علينا أحداث وظواهر بالغة الخطورة، فقد نظر إليها كثير منا على أنها جبر وحتم لا يمكن مقاومته أو التفاعل والتعامل معه، ولذلك وقف الناس حيارى أمام ظواهر التخلف، والاستعمار، والقابلية للاستعمار، والحداثة، والهيمنة الغربية، والحضارة الغربية، والنظام العالمي الجديد، والعولمة، وغيرها دون أن ينتبهوا إلى أن هذه الظواهر والأحداث لا تخرج عن نطاق عالم الخلق أو عالم الأمر اللذين هما ملك لله تعالى، وأنها لا تنفك في قيامها عن سنن غاية في الدقة والانتظام. ومن أجل التعامل معها، لا بد من فهم السنن القائمة عليها، وتطويعها، وتسخيرها لصالح الإنسانية.
والله تعالى، الذي جعل قوانين في الطبيعة واستطاع الإنسان معرفتها وتسخيرها، لا يمكن بحال من الأحوال أن يغفل عن جعل قوانين في الظواهر الاجتماعية المختلفة والأحداث التاريخية، وهي مخلوقة له أيضا.
ولذلك، فمن المهم جدا أن يترسخ في وعينا أن تغيير ما بأنفسنا وتغيير واقعنا، يمر حتما عبر اكتشاف هذه السنن وتسخيرها، وأن علينا أن تكتشف قوانين هذه الظواهر والأحداث، وأن نتعرف على سننها، لنتحكم فيها ونسخرها، حتى لا نقع في الجبرية التي تؤدي إلى اليأس أو الاستقالة من صناعة التاريخ.
[1] مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دمشق: دار الفكر، 1424هـ/ 2000م، ص 300.
[2] محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة محمد يوسف عدس، الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، 2010م، ص 207-208.
[4] ماجد عرسان الكيلاني، مقومات الشخصية المسلمة أو الإنسان الصالح، سلسلة كتاب الأمة، الدوحة: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، ص 14 من تقديم الأستاذ عمر عبيد حسنة.