الصداقة.. أزمة تتطلب نهجا جديدا في التحليلات السياسية والاجتماعية
بقلم: ياسين أقطاي
أصبح الشعور بالوحدة وانعدام الثقة وزيادة الكراهية بين الناس، وتباعد المسافات بينهم، سمة مميزة للعالم الذي نعيش فيه، وهي أزمة تتطلب نهجا جديدا في التحليلات السياسية والاجتماعية.
اختزال السياسة في علاقة صديق/عدو يؤدي إلى اتجاه يستهلك علاقات الصداقة ويقوضها، وينزل بالتنافس السياسي بين الأصدقاء إلى مستوى فردي، ويكون المصير الحتمي هو أن ينقلب السحر على الساحر، ويذوق الأصدقاء من كأس العنف والكراهية الذي طالما حرضوا عليه رفاق الأمس ضد أعدائهم. وهذا مسار منطقي، فلا يمكن أن تتوقع ممن تخلى عن أخلاقه في مواجهة خصم، أن يستعيد تلك الأخلاق إذا اختلف مع صديق، وبذلك يكون قد خسر مرتين: خلقه، وصديقه.
ويجب أن نقول إن الأدبيات والفلسفة التي كتبت عن ندرة الأصدقاء لا تحاول تشخيص هذه المشكلة، بل تحاول تطبيع علاقتنا مع هذا الوضع المأساوي وتدعونا إلى الاستسلام له. ولذلك، فإعادة النظر في تلك الأدبيات هي نقطة البداية لتعويض كل خسائرنا. فلسفة ندرة الأصدقاء التي بدأت بجملة أرسطو "يا أصدقائي، لا يوجد صديق!" أثرت في كل ما تلاها من فلسفات. ولكن ما فعله نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، كان يناقض ذلك تماما، لقد علمنا كيف نحول أعداءنا إلى أصدقاء، وبنى مجتمعا كبيرًا من أشخاص كانوا أعداء متباغضين، لطالما اشتبكوا بالسيوف، وتنافسوا على تقويض قوة بعضهم بعضا، فانقلب عداؤهم حبا، وسعوا وراء فضائل مشتركة، وأصبحوا رفاق هدف مشترك، وكان ما كتبه الفلاسفة المسلمون بعد ذلك عن الصداقة والأخوة أقل بكثير من ذلك المثل الذي حققه الرسول الكريم في سيرته الثابتة.
قام الكُتَاب المسلمون الأوائل مثل ابن المقفع، الذي قدم نصوصا مهمة عن الصداقة، بتجميع الحكم الإيرانية واليونانية والهندية والعربية في إطار توفيقي تطور لاحقا إلى تقليد غني في الجغرافيا الواسعة للحضارة الإسلامية.
ثم جاء الفلاسفة المسلمون اللاحقون أمثال ابن مسكويه، ونصر الدين الطوسين وأبي حيان التوحيدي (مؤلف الكتاب الوحيد المرتبط مباشرة بالصداقة، بعنوان الصداقة والصديق)، والماوردي، وابن حزم، فتأثروا جميعا بمفاهيم الصداقة التي وردت في المصادر غير الإسلامية (ولا سيما أرسطو)، وتحت هذا التأثر ظهر الصديق في كتابتهم كعملة نادرة يصعب العثور عليها، وهم يقرون أن المعايير التي وضعوها له يصعب أن تجتمع في شخص. تعريف ابن حزم للصفات المثالية للصداقة نموذجي في هذا الصدد، يقول:
"ومن الأسباب المتمنَّاة في الحُب أن يهب الله عزَّ وجل للإنسان صديقًا مُخلصًا، لطيفَ القول، بسيطَ الطَّول، حسنَ المأخذ، دقيقَ المنفذ، متمكنَ البيان، مُرهف اللسان، جليل الحلم، واسع العلم، قليل المخالفة، عظيم المساعفة، شديد الاحتمال، صابرًا على الإدلال، جم الموافقة، جميل المخالفة، مستوي المطابقة، محمود الخلائق، مكفوف البوائق، محتوم المساعدة، كارهًا للمباعدة، نبيل المدخل، مصروف الغوائل، غامض المعاني، عارفًا بالأماني، طيب الأخلاق، سريَّ الأعراق، مكتوم السر، كثير البر، صحيح الأمانة، مأمون الخيانة، كريم النفس، نافذ الحس، صحيح الحدْس، مضمون العون، كامل الصون، مشهور الوفاء، ظاهر الغَناء، ثابت القريحة، مبذول النصيحة، مستيقن الوداد، سهل الانقياد، حسن الاعتقاد، صادق اللهجة، خفيف المهجة، عفيف الطباع، رحب الذراع، واسع الصدر، متخلقًا بالصبر، يألف الإمحاض، ولا يعرف الإعراض، يستريح إليه ببلابله، ويشاركه في خلوة فكره، ويفاوضه في مكتوماته. وإن فيه للمحب لأعظمَ الراحات، وأين هذا؟"
عندما يكون هذا هو تصورك للصديق الحقيقي، فعليك أن تقبل أنه سيكون من المستحيل العثور عليه. لكن اللافت للنظر أيضا أن هذه النصوص تضع كل المسؤوليات والتوقعات على أكتاف ذلك الصديق، ولا توجد نصيحة لما يجب أن أفعله (أنا) لأجد هذا الصديق وأستحق هذه الصداقة، ولأعينه أن يكون قريبا من ذلك النموذج الأمثل.. ما لدينا يخبرنا أن الصديق الذي أبحث عنه يجب أن يكون هكذا، ولكن، ماذا يجب أن أكون، وماذا يجب أن نكون جميعا؟ ألا نقتل في أنفسنا "صفات الصديق" عندما نفترضها في الآخرين وليس فينا، وكأن الواحد منا يقول: فلأكن أنا من أكون، لكن صديقي على الجانب الآخر يجب أن يكون مثاليًا.
ومع ذلك، لا يمكننا أن نغفل هنا ذكر الإمام أبي حامد الغزالي، فقد كان استثناء في هذا التيار المتأثر بما ورد في الفلسفات الفارسية واليونانية والهندية والعربية القديمة فجعله جزءا من تقليد الفلسفة الإسلامية. الغزالي هو من كتب أشمل نص حول الصداقة استوحاه من القرآن وسنة الرسول وأحاديثه وسلوك أصحابه دون أن يتأثر بأي من تلك الثقافات الأجنبية. وذلك رغم أنه الشخص الذي قرأ أرسطو وترجم بعض نصوصه إلى اللغة العربية، لكنه لم يتأثر بما قاله، فأظهر الصداقة قيمة ممكنة وفيرة داخل الحدود الإسلامية.
وكما يقال في بعض الأغاني: "لا يمكن أن تجد الصديق الحقيقي في عالم الأحلام" الصديق ليس شخصًا يمكن أن نتخيله في أنفسنا، أو نحلم به مثل وصف ابن حزم أو غيره. هناك جهد لا بد من بذله للعثور عليه، يجب أن نخوض الصعاب لإثبات ذلك. وإذا لم يكن هناك صعاب أو جهد، فإن الصديق الوحيد الذي يمكن أن نجده في الأحلام سيكون صديقًا قُتل في نفوسنا. للوصول إلى الصديق، علينا أن نمتطي حصان الحب، مثل الرسول، صلى الله عليه وسلم، ومثل الغزالي الذي فهمه جيدًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ياسين أقطاي؛ أكاديمي وسياسي وكاتب تركي
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين