ما قصّة الجامعة الإسلاميّة التي طلبها العلماء من الرّئيس أردوغان؟!
بقلم: محمد خير موسى
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
قبل بضعة أيّام التقى وفد يضمّ قرابة عشرين عالمًا من مختلف بلدان العالم الإسلاميّ بالرّئيس التركي رجب طيّب أرد وغان على مدى ساعتين ونيّف؛ ولقد طرحت في اللقاء قضايا متعدّدة منها قضية ترحيل المهجّرين، ومسألة تنامي الخطاب العنصريّ، وإدارة مناطق الشمال السوريّ، كما كانت قضيّة القدس وفلسطين ودعم المقاومة حاضرة بقوّة، وطرحت كذلك مسألة السعي إلى سنّ تشريعات وقوانين عالميّة لتجريم انتهاك المقدّسات والرموز الدّينيّة، كما كان حاضرًا طلبٌ استغربته شريحة من الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي واستنكره آخرون وهو طلب العلماء من الرّئيس أردوغان إنشاء جامعة إسلاميّة.
الفكرة والباعث عليها
قبل سنوات كانت الفكرة حديث أروقة العلماء في تركيا من مختلف الجنسيّات، وصاحبها هو البروفيسور محمد غورماز رئيس الشؤون الدينية السابق الذي كان حاضرًا لقاء العلماء مع الرئيس إلى جانب رئيس الشّؤون الدّينيّة الحالي الدكتور علي أرباش، والبروفيسور غورماز شخصيّة عميقة الفكر وصاحبة تجربة رائدة في إدارة العمل الإسلامي في تركيا وخارجها. وقد تبنّى أغلب العلماء الفكرة في حين طرحها عليهم قبل سنوات فحملوها معهم متبنين لها في لقائهم الأخير.
الفكرة لا يقصد بها على الإطلاق إنشاء كليّة للشريعة كما فهم البعض ذلك، فعدد كليّات الإلهيّات ـ وهو اسم كليّات العلوم الشرعيّة في تركيا ـ مئة وعشرون كلية موزّعة على امتداد خارطة تركيا.
لقد كان الباعث الرئيس على الفكرة حالة التراجع التي تشهدها الحواضر الإسلاميّة التي كانت تُعدّ قِبلة لطلاب العلوم الشرعيّة في العالم الإسلامي؛ وذلك بسبب ما تشهده البلاد الإسلاميّة من تحكّم الاستبداد وهيمنة الطغيان التي أثّرت تأثيرًا صارخًا في هذه الحواضر الإسلاميّة والمراكز التي كانت موئل طلاب العلوم الشرعيّة فبدأت تضعف وتخبو نقاط الإشعاع العلمي والحضاري التي ازدهرت في مدن متعدّدة على مدار التّاريخ الإسلاميّ.
فأجواء الحريّة التي تعيشها اسطنبول مقارنةً بالعواصم العربيّة إضافة إلى أنّ مئات العلماء الكبار في العلوم الشرعيّة والتخصصات الإنسانيّة قد حطّوا رحالهم في تركيا مهجّرين من بلدانهم؛ فاجتماع جوّ مناسب من الحريّة التعليميّة إضافة إلى توفر رموز العلماء من مختلف التخصّصات والبيئات الفكريّة والمعرفيّة يجعل إقامة جامعة إسلاميّة فكرة تسعى وتوطد لجعل اسطنبول حاضرة من حواصر العلم الشرعيّ وقبلة لطلاب العلوم الشرعيّة في العالم الإسلامي.
قابليّة الفكرة للتحقيق
إنّ إنشاء جامعة إسلامية تضمّ كليّات شرعيّة تخصصيّة ينهل فيها طالب العلم المقيم في تركيا أو الوافد إليها العلوم الشرعيّة التخصصيّة ويحصل فيها على ما يحتاجه طالب العلم الشرعي من مفاتيح العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والسياسيّة ويتزود فيها بالمهارات اللازمة للتواصل الواقعي والافتراضي وللحوار والتأثير وينال حظًّا وافيًا من التلقّي المباشر من العلماء والتدريب العمليّ في الواقع المسجدي والمجتمعي لهي فكرةٌ رائدةٌ ذات أبعاد استراتيجيّة على مستوى التعليم الشرعيّ وعلى مستوى تموضع تركيا في خارطة التأثير العلمي الشرعي.
والظروف الموضوعيّة مهيّأة لنجاح الفكرة؛ فالثروة في الكفاءات العلميّة وفيرة؛ ففي تركيا يقيم اليوم الكثير من العلماء والمفكرين والسياسيين والإعلاميّين، فضلًا عن كونها مركزًا رئيسًا للمؤتمرات العلمية والفكريّة في العالم الإسلامي مما يتيح وصول الكثير من المفكرين والعلماء في مختلف التخصصات إليها من مختلف أنحاء العالم الإسلامي على مدار العام.
وفي تركيا كذلك مئات الآلاف من طلاب العلوم الشرعيّة من الأتراك والجنسيّات الأخرى إضافةً إلى أنّ سهولة الوصول والدخول إلى تركيا من مختلف بلدان العالم مقارنة بغيرها من الحواضر المختلفة عامل مهمّ لإنجاح الفكرة، وكذلك فإن فرصة رعاية الطلاب المقيمين في تركيا والوافدين إليها من خارجها من حيث الإقامة والمصروفات اللازمة ممكنة ويسيرة في ظل توفّر الأوقاف التي لها حضور خاص وانتشار واسع في مجال التعليم الشرعي في عموم تركيا.
وكلّ هذه المؤهلات تحوطها قيمة حضاريّة فذّة تتمتّع بها اسطنبول؛ فهي عاصمة الخلافة الإسلاميّة لأكثر من أربعمئة سنة، وما تزال معالمها التاريخية ومساجدها الكبيرة الكثيرة الممتدة عبر مئات السنين شامخة وحاضرة بقوّة في الواقع الاجتماعي والثقافي؛ هذه المساجد التي يمثّل استثمارها وتفعيلها علميًّا أحد الرّوافد الرّئيسة للجامعة المقترحة.
ولكنّ هذه المؤهلات كلّها على أهميّتها وقيمتها لن يكون لها أن تفعل فعلها، ولن تؤثر تأثيرها، ولن تجعل الجامعة الإسلاميّة المأمولة منارة يسعى إليها طلاب العلوم الشرعيّة من مختلف بقاع العالم الإسلاميّ دون قرار سياسي يتبنّاها وإرادة سياسية عليا تحتضنها وتؤمن بها؛ ولذلك كان من الضروريّ طرح هذه الفكرة في لقاء العلماء الذين هم أصحاب الفكرة وحملة المشروع مع من يرتجى منه تبني المشروع واحتضانه وهو الرئيس أر دوغان.
إنّ وفد العلماء الذي زار الرئيس أردوغان أدى دوره ومهمته في عموم المسائل التي طرحها في اللّقاء وفي مسألة الجامعة الإسلاميّة على وجه الخصوص؛ فقد طرحوا مشروعًا كبيرًا مهمًّا للعلم الشرعيّ الذي نريده محرّرًا من وطأة الاستبداد في بيئته ومناهجه وهو مهمّ كذلك لتركيا التي نريدها منارة حقيقيّة للعلم وطلابه بعيدًا عن كل المنغصات التي تحتاج إلى معالجات جادّة وعاجلة في مجالات وملفّات مختلفة.