فقه المرحلة في عصر السلف
بقلم: نور الدين بن مختار الخادمي
ازداد الاعتناء بفقه المرحلة في عصر الصحابة والتابعين، بسبب ازدياد القضايا واتساع دائرة الدعوة وتنامي حركة الداخلين في الإسلام وتشابك المصالح والعوائد وتفريع المعرفة وتكثير التنمية، وقد واكب هؤلاء السلف مراحلهم الحياتية وأطوارهم في مجال الدعوة والدولة بتقرير فقهها المناسب لها، بطريق الفتوى والاجتهاد والقضاء والحكم والتعليم والإعلام والتواصل. وشواهد هذا لا تكاد تحصر، ومنها:
شواهد فقه المرحلة في عصر السلف
* الشاهد الأول: فقه النصوص الشرعية وتفسيرها بما يتعلق بأحكام زمانهم وشؤون دعوتهم ودولتهم.
* الشاهد الثاني: فتاواهم واجتهاداتهم في عدد من القضايا التي نزلت بهم في مختلف مجالات مراحلهم السياسية والاجتماعية والأسرية، ومنها قضية تدوين القرآن الكريم، ومواجهة حركة الردة، والمطلقة طلاقا ثلاثا في مجلس واحد، واتخاذ العملة، ووضع الدواوين وغيرها[1].
* الشاهد الثالث: اعتمادهم على الأصول والقواعد والمقاصد الشرعية، على نحو أصل القياس والمصلحة المرسلة والاستحسان والعرف، وقواعد المشقة والنية والضرر واليقين والضرورة، ومقاصد حفظ ضروريات الإنسان وحاجياته وتحسينياته، والحفاظ على الكليات الخمس (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، وإعمال الوسائل، وسد الذرائع، وإبطال الحيل، ومراعاة مآلات الأفعال، وفهم الواقع.
فوائد شواهد فقه المرحلة في عصر السلف
الفائدة الأولى: ثراء مرحلة السلف وضخامة أحداثها
مرحلة السلف مرحلة ثرية ومهمة، ولها واقعها وتحدياتها وإمكانياتها وإكراهاتها، وقد تطلبت من علماء السلف الفهم الدقيق والنظر العميق والمتابعة اللازمة للنوازل والقضايا وإصدار الآراء الشرعية والمواقف الاجتهادية والفتاوى الفقهية والمقاربات السياسية، كما تطلبت من عموم الناس في ذلك العصر الانتباه والعمل والتواصل مع علمائهم وحكمائهم، لإنجاح تلك المرحلة وتحقيق ما أمكن من أهداف في الدعوة والدولة والمعرفة والتنمية.
الفائدة الثانية: الوعي بفقه المرحلة صفةٌ للسلف
إعمال السلف لفقه المرحلة هو صفة من صفاتهم ونوع من أنواع عملهم، أو هو منهج سلفي مبارك يلزم الاقتداء به. ولذلك يلزم على كل من يعلن اتباع السلف أن يعمل بهذا المنهج، وأن يكون واعيا بمرحلته الحياتية والتاريخية وفاهما لظروفها وتحدياتها وإمكانياتها، وأن ينصت للعلماء في ما ينزلونه من أحكام وفتاوى فقهية.
الفائدة الثالثة: الوعي بفقه المراحل هو اتباع لمنهج السلف
إن اتباع السلف هو اتباع لمنهجهم وهديهم وليس الاقتصار على بعض المواقف الجزئية أو السمات المفردة. ومنهجهم في فقه الواقع ومراحله هو حسن فهمهم له وإحكام تنزيلهم لأحكامه الفقهية، بطريق إعمال الأدلة والقواعد والمقاصد الشرعية، وبما هو ممكن ومستطاع، وبإجراء التشاور والتنسيق والتعاون على البر والتقوى والتصور والتطبيق.
وعليه، فمن مقتضيات اتباع السلف إعمال فقه المراحل والوعي بمتطلباتها وحاجياتها، وتقديم مقارباتها اللازمة وحلولها الممكنة، وليس القفز على الواقع والمطالبة بالمحال والتشدد في المتعذر والمزايدة في الميسور والمجادلة في الواضح.
****
[1] تنظر تفاصيل هذه الأمثلة وغيرها في كتاب "التشريع والفقه في الإسلام: تاريخا ومنهجا"، للمؤلف مناع القطان، صفحة 133 وما بعدها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نور الدين بن مختار الخادمي: وزير تونسي سابق، أستاذ ورئيس وحدة البحوث بكلية الشريعة جامعة قطر، وعضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين