الإسلام وصناعة القيم (1) "في بيعة العقبة الثانية تجسيد قيم الاجتماع السياسي والالتزام الأخلاقي"
بقلم: الدكتور علي محمد الصلابي
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مدركاً تمام الإدراك للدور الذي تلعبه السلطة في عملية النهوض التاريخي، والتغيير الحضاري الضخم، ولكنه لم يدرك ذلك مقولة ذهنية فحسب، بل مارس تلك الحقيقة ممارسة الواعي بخطه الاستراتيجي، المدرك لتقلبات النظم السياسية، الراصد للتحولات العرفية والإنسانية، العارف بالضرورة الإنسانية والحاجة الفطرية لذلك؛ حيث إنه كان حريصاً على إقامة السلطة السياسية، وبناء الدولة الإسلامية قبل هجرته للمدينة، وذلك أثناء بيعة العقبة الأولي التي ركزت علي الجانب الإيماني والعقدي، والثانية التي ركزت على تأسيس مقومات الدولة، وقيام أركان الاجتماع السياسي بصورة لم يسبق لها مثيل ولا نظير في تاريخ التحول البشري، والاجتماع السياسي وبالتالي رسخت بيعىة العقية الثانية قيما سياسية وأخلاقية عالية يمكن أن نجمل بعض نقاطها فيما يلي:
- «كانت هذه البيعة العظمى بملابساتها، وبواعثها، وآثارها، وواقعها التَّاريخي، (فتحَ الفتوح)؛ لأنَّها كانت الحلقة الأولى في سلسلة الفتوحات الإسلاميَّة، الَّتي تتابعت حلقاتها في صورٍ متدرِّجة، مشدودةٍ بهذه البيعة؛ منذ اكتمل عقدها، بما أخذ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عهودٍ ومواثيق على أقوى طليعةٍ من طلائع أنصار الله؛ الَّذين كانوا أعرف النَّاس بقدر مواثيقهم، وعهودهم، وكانوا أسمح النَّاس بالوفاء بما عاهدوا الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم عليه؛ من التَّضحية، مهما بلغت متطلبَّاتها من الأرواح، والدِّماء، والأموال، فهذه البيعة في بواعثها هي بيعة الإيمان بالحقِّ، ونصرته، وهي في ملابساتها قوَّةٌ تناضل قوًى هائلةً تقف متألِّبةً عليها، ولم يَغِبْ عن أنصار الله قدرها، ووزنها، في ميادين الحروب، والقتال، وهي في آثارها تشميرٌ ناهضٌ بكلِّ ما يملك أصحابها من وسائل الجهاد القتاليِّ في سبيل إعلاء كلمة الله، على كلِّ عالٍ مستكبرٍ في الأرض؛ حتَّى يكون الدِّين كلُّه لله، وهي في واقعها التَّاريخيِّ صدقٌ، وعدلٌ، ونصرٌ، واستشهاد، وتبليغٌ لرسالة الإسلام».(عرجون، 1995، ج2/400)
- إنَّ حقيقة الإيمان، وأثره في تربية النفوس، تظهر آثارها في استعداد هذه القيادات الكبرى لأن تبذل أرواحها، ودماءها في سبيل الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا يكون لها الجزاء في هذه الأرض كسباً، ولا منصباً، ولا قيادةً، ولا زعامةً، وهم الَّذين أفنوا عشرات السِّنين من أعمارهم، يتصارعون على الزَّعامة، والقيادة، إنَّه أثر الإيمان بالله، وبحقيقة هذا الدِّين، عندما يتغلغل في النُّفوس.(الغضبان، 1998، ج2/108)
- يظهر التَّخطيط العظيم في بيعة العقبة؛ حيث تمَّت في ظروفٍ غايةٍ في الصُّعوبـة، وكانت تمثِّـل تحدِّيـاً خطيراً، وجريئـاً لقـوى الشِّرك فـي ذلـك الوقت، ولذلك كان التَّخطيط النَّبويُّ لنجاحها في غاية الإحكام والدِّقَّة على النَّحو التَّالي:
أ- سِرِّيَّة الحركة، والانتقال لجماعة المبايعين؛ حتَّى لا ينكشفَ الأمر، فقد كان وفد المبايعة المسلم سبعين رجلاً وامرأتين من بين وفدٍ يثربيٍّ قوامه نحو خمسمئة ممَّا يجعل حركة هؤلاء السَّبعين صعبةً ، وانتقالهم أمراً غير ميسورٍ، وقد تحدَّد موعد اللِّقاء في ثاني أيام التَّشريق، بعد ثلث اللَّيل، حيث النَّوم قد ضرب أعين القوم، وحيث قد هدأت الرِّجْل، كما تمَّ تحديد المكان في الشِّعْب الأيمن، بعيداً عن عين مَنْ قد يستيقظ من النَّومِ لحاجةٍ.(البر، 1997، ص61)
ب - الخروج المنظَّم لجماعة المبايعين، إلى موعد، ومكان الاجتماع، فقد خرجوا يتسلَّلون مستخفين، رجلاً رجلاً، أو رجلين رجلين.
ج - ضرب السِّرِّيَّة التَّامة على موعد، ومكان الاجتماع، بحيث لم يعلم به سوى العبَّاس بن عبد المطلب، الَّذي جاء مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ليتوثَّق له، وعليُّ بن أبي طالبٍ، الَّذي كان عيناً للمسلمين على فم الشِّعب، وأبو بكر الَّذي كان على فم الطَّريق - وهو الآخر - عيناً للمسلمين، أمَّا مَنْ عداهم من المسلمين، وغيرهم فلم يكونوا يعلمون عن الأمر شيئاً، وقد أمر جماعة المبايعين ألا يرفعوا الصَّوت، وألا يطيلوا في الكلام؛ حذراً من وجود عينٍ تسمع صوتهم، أو تجسُّ حركتهم.(البر، 1997، ص62)
د - متابعة الإخفاء والسِّرِّيَّة حين كشف الشَّيطان أمر البيعة، فأمرهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يرجعوا إلى رحالهم، ولا يحدثوا شيئاً؛ رافضاً الاستعجال في المواجهة المسلَّحة؛ التي لم تتهيَّأ لها الظُّروف بعد، وعندما جاءت قريش تستبرئ الخبر؛ موَّه المسلمون عليهم بالسُّكوت، أو المشاركة بالكلام الَّذي يشغل عن الموضوع.
هـ اختيار اللَّيلة الأخيرة من ليالي الحجِّ، وهي الليلة الثالثة عَشْرة من ذي الحجَّة؛ حيث سينفر الحجاج إلى بلادهم ظهر اليوم التَّالي، وهو يوم الثالث عشر، ومن ثَمَّ تضيق الفرصة أمام قريش في اعتراضهم، أو تعويقهم؛ إذا انكشف أمر البيعة، وهو أمرٌ متوقَّع، وهذا ما حدث.(البر، 1997، ص62)
- كانت البنود الخمسة للبيعة من الوضوح، والقوَّة بحيث لا تقبل التَّمييع والتَّراخي، إنَّه السَّمع، والطَّاعة في النَّشاط والكسل، والنَّفقة في اليسر، والعسر، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، والقيام في الله لا تأخذهم فيه لومة لائم، ونصرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحمايته؛ إذا قدم المدينة.
لقد صدق هؤلاء الأنصار عهدهم مع الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فمنهم من قضى نحبه، ولقي ربَّه شهيداً، ومنهم من بقي حتَّى ساهم في قيادة الدَّولة المسلمة، وشارك في أحداثها الجِسَام، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبمثل هذه النماذج قامت دولة الإسلام، النَّماذج الَّتي تعطي، ولا تأخذ، والَّتي تقدِّم كلَّ شيءٍ، ولا تطلب شيئاً إلا الجنَّة، ويتصاغر التَّاريخ في جميع عصوره، ودهوره، أن يحوي في صفحاته أمثال هؤلاء الرِّجال والنِّساء.(الغضبان، 1998، ج2/140)
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، 1425ه،2004م،صص 396-387
محمَّد رسول الله، لمحمَّد الصَّادق عرجون، دار القلم، الطَّبعة الثانية، 1415 هـ 1995 م.
منير الغضبان، التَّربية القياديَّة، دار الوفاء المنصورة، الطَّبعة الأولى 1418هـ 1998م.
عبد الرحمن البر، الهجرة النَّبويَّة المباركة، الطبعة الأولى، دار الكلمة، المنصورة،القاهرة، مصر، 1997