البحث

التفاصيل

العلوم الإسلامية: التداخل والتكامل

الرابط المختصر :

المقال السادس عشر- العلوم الإسلامية: التداخل والتكامل

بقلم: بدران بن لحسن

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

(المقال الخامس عشر- في حقيقة نظرية العلم الإسلامية وأهميتها)

 

ذكرنا في مقالنا السابق أن العلوم الإسلامية؛ أي العلوم التي نشأت في ظل الحضارة الإسلامية نابعة من الرؤية الإسلامية للكون والحياة، ونشأت مستمدة خلفيتها الفلسفية ومنهجيتها من التوحيد باعتباره مبدأ للمعرفة والقيم والاجتماع كما هو مبدأ للاعتقاد[1].

ولكن نشأة العلوم المعاصرة في جو الصراع بين الدين والعلم، أدى إلى تفكك وتناقض حقول المعرفة، وتباعدها عن بعضها البعض. كما أن توسع المعرفة ونشأة حقول معرفية كثيرة جديدة، أدى إلى أزمات معرفية كثيرة، ودفعت فلاسفة العلم والعلماء في مختلف التخصصات للانتباه إلى أن كثيرا من العلوم بينها صلة وتداخل، وأن بعضها يكمل بعضا، مما جعلهم يدعون إلى ما يسمى بالبحث البيني أو التناول البيني للعلوم (interdisciplinarity)، الذي صار اتجاها رائجا في المعرفة المعاصرة، لعدم كفاية العلوم منفردة لتناول الظواهر والقضايا المتعددة الأبعاد المتشابكة العوامل.

والدراسات البينية التي ذكرناها في الفقرة السابقة، بحوثٌ علميةٌ مُعمَّقةٌ، لا يقنعُ أصحابُها بالاكتفاء بالتخصص الدقيق؛ منفردًا، بل يتوخَّون الكشفَ عن مناطق التخوم: (التجاور، التلاقي، التقاطع، التشابك، التقارب) بين العلوم، وهي دراساتٌ تجمعُ بين النظرة التخصصية الدقيقة، والنظرة الموسوعية الشاملةِ، وتؤمنُ بالتكامل المعرفي بين كافة العلوم، وترى أن هذا التكامل بات ضرورةً من ضرورات المنهج العلمي النافع، في هذا العصر.

فالدراسات البينية لا تقتصر على صِنْف من العلوم، دون آخر، بل يمكن اكتشافُها، وتسخيرُها، بين كافة العلوم الإنسانية من جهة، وكافة العلوم الكونية من جهة أخرى، وكافة العلوم التطبيقية من جهة ثالثة. وتكمن أهميتُها في كونها تُبَشِّرُ بمنهاجية جديدة؛ تتضافرُ فيها كافةُ العلوم؛ لخدمة الإنسان، وتيسير استخلافه في الأرض، وتفعيل التسخير الرباني لما في السماوات وما في الأرض لمنفعة بني آدم، ومصالحهم العاجلة، والآجلة[2].

ولهذا، فإن النظر في نشأة العلوم الإسلامية وفلسفتها وتاريخها، يساعدنا كثيرا على اكتشاف أمر بالغ الأهمية منهجيا؛ وهو أن العلوم الإسلامية تتميز بالتداخل والتكامل.

إن العلوم الإسلامية عرفت منذ نشأتها أنها علوم تتداخل وتتكامل فيما بينها داخليا وخارجيا؛ فهذه العلوم مبني بعضها على بعض، إضافة على أنها منفتحة على العلوم التي تم "تقريبها" كما يقول ابن حزم وإدراجها في "المجال التداولي الإسلامي" كما يقول طه عبد الرحمن، من خلال ممارسة عملية النقد لأسسها الفلسفية، وبناها المنهجية، ولموضوعاتها ومسائلها، وإخضاعها للرؤية الإسلامية التوحيدية، وتخليصها من خلفياتها الفلسفية غير المنسجمة مع عالمية الرسالة وكلية الحقيقة التي جاء بها الإسلام.

وعند دراستنا لتاريخ العلوم الإسلامية، سنجد التداخل والتكامل الداخلي الذي حصل بين "العلوم الملية" بتعبير ابن خلدون؛ حيث تداخلت وتكاملت علوم الفقه، وعلوم اللغة، وعلوم الحديث، وعلوم القرآن، وعلوم العقيدة، وغيرها، واستطاعت أن تشكل منظومة معرفية متكاملة، تقارب قضاياها من منظورات متعددة، وتخدم الحقيقة الواحدة.

أما التداخل والتكامل الخارجي فكان مع "العلوم العقلية" أو "علوم الأوائل" بتعبير ابن خلدون، في انفتاح على الخبرة العلمية الإنسانية بطريقة نقدية، جعلت حقول المعرفة الإسلامية تستعمل آليات التقريب المتعددة لعلوم الأوائل، لتدرجها ضمن حقول المعرفة الإسلامية. وبهذا كانت العلوم الإسلامية تمارس التواصل المبدع مع تراث الإنسانية، في ظل مركزية الرؤية التوحيدية، التي أمدت العقل المسلم بمبادئ الادراك والعقلانية والانفتاح والتسامح كما يقول الفاروقي في كتابه "أطلس الحضارة الإسلامية"[3]، مما مكن من الاستفادة القصوى من الخبرة الحضارية الإنسانية.

ولعل الدكتور طه عبد الرحمن واحد من فلاسفة المسلمين المعاصرين ممن بذل وسعه في التأسيس للتداخل والتكامل المعرفي بين العلوم، تأسيسا على فلسفة العلوم الإسلامية وتجربتها التاريخية، ونقدا للمعرفة المعاصرة في انقساماتها بين مختلف العلوم وفي سعيها للبينية بين العلوم.

ففي كتابه تجديد المنهج في تقويم التراث[4] بسط الحديث عن آليات التقريب والتداخل، التي أنتجت حقول المعرفة الإسلامية، وكيف أن التفريط في آلية التداخل وآلية التقريب أدى بالعلوم الإسلامية إلى فقدان فعاليتها وقدرتها على الإبداع في عصورها المتأخرة. بل أدى إلى عجز تلك العلوم عن الإيفاء بمتطلبات الرؤية المعرفية الإسلامية نظريا، والعجز عن الإيفاء بمتطلبات حركة الاجتماع الإنساني والعمران البشري الذي شهد حركية كبيرة، أفضت إلى أن تلقف ريادتها الحضارة الغربية لتنشئ علوما وتطور معارف خدمت الإنسانية، ولكنها أيضا أفضت إلى تساؤل الإنسان عن إمكانية أن تتكامل العلوم بدل أن تتناقض أو تتضاد أو تعيش في جزر معزولة عن بعضها، لأن الظواهر الطبيعية والإنسانية والاجتماعية ظواهر متشابكة ومتداخلة ومتعددة الأبعاد، فلا يستطيع علم واحد الإيفاء بمقتضياتها.

إن الكلام أعلاه، وبربطه بالمقالات السابقة، يدعو الباحثين إلى بذل الوسع في دراسة النظام المعرفي[5] الإسلامي، والنظام المعرفي المعاصر، دراسة نقدية، واكتشاف البنى المؤسسة لهما، وإحداث نوع من التصفية والتفاعل المتبادل، من أجل مواكبة متطلبات فهم الواقع وتطويره، وبناء جسر بين النظامين المعرفيين الإسلامي والغربي، ومن أجل إحداث تفاعل إيجابي، بتوظيف آليات التداخل والتكامل التي قامت عليها العلوم الإسلامية لإحداث تفاعل مبدع بين مختلف حقول المعرفة لصالح الانسان والحضارة الإنسانية.

 



[1] الفاروقي، التوحيد، ص 131 وما بعدها.

[2] محمد صالحين، الدراسات البينية تفتح آفاقًا جديدة في البحث العلمي، في حوار مع الأستاذ السنوسي محمد السنوسي، 2019. أنظر

https://islamonline.net/محمد-صالحين-الدراسات-البينية

[3] الفاروقي، أطلس الحضارة الإسلامية، ص134-137.

[4]  وخاصة في البابين الثاني والثالث. انظر:

طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، دون تاريخ.

 

[5]  من الكتب المهمة التي تناولت هذا الموضوع، الحلقة النقاشية التي أقامها المعهد العالمي للفكر الإسلامي في مدينة عمان بالأردن، بعنوان: "نحو نظام معرفي إسلامي" أيام 10-11 يونيو 1998. أنظر:

فتحي ملكاوي (محرر)، نحو نظام معرفي إسلامي، ط1، عمان: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1420هـ/ 2000م.


: الأوسمة



مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع