البحث

التفاصيل

حول صحة صلاة القاعد على الكرسي

الرابط المختصر :

حول صحة صلاة القاعد على الكرسي

بقلم: عصام تليمة

 

يكثر بين الحين والآخر، إثارة قضايا فقهية بناء على ما يكتبه البعض على وسائل التواصل الاجتماعي، بناء على ما يلاحظه من ممارسات الناس في المساجد والصلاة، فتراه يكتب منشورًا بأن ما يفعله الناس في الصلاة من كذا أو كذا يقضي ببطلان الصلاة، دون عودة الكاتب لآراء الفقهاء والمذاهب الفقهية جميعًا، فكثير منهم يبني رأيه وكلامه على تصوره الفقهي وحده، أو لشيخ أفتاه بذلك، بناء على قناعته الفقهية، وليس ذلك تخطئة لتبني أحد المشايخ رأيًا من الآراء الفقهية، لكن المشكلة هنا أن يطير بما تبناه فيكتبه للعامة، فيتشكك الناس في عبادتهم، وينقل كل شخص عن الآخر، دون العودة إلى المصادر الفقهية المهمة التي تفيد في الأمر.

من ذلك ما انتشر مؤخرًا عن أحد المتدينين، من كتابته على وسائل التواصل الاجتماعي: بأن معظم من يصلون على الكراسي في المساجد، صلاتهم باطلة، ثم فسّر السبب بأنهم يجلسون على الكراسي، وهم فقط يجلسون لعدم قدرتهم على الركوع أو السجود، وهم قادرون على القيام، والقيام في الصلاة ركن، وعدم الإتيان به يجعل الصلاة باطلة، فهل مثل هذا الكلام المنتشر صحيح فقهًا أم لا؟

كانت الصلاة على الكراسي قديمًا مرتبطة في أذهان الناس بكبار السن، حيث لا يتحملون الوقوف طويلًا أو قصيرًا، ولكن أمراض العظام والأعصاب كثرت في أزماننا، فطالت كبير السن وصغيره، الشيخ والشاب، ولم تعد مرتبطة بسن معينة، لكثرة الحوادث والإصابات التي تصيب عظام الإنسان، ولذا كثرت أسئلة الناس حولها، وكثرت وجود الكراسي في المساجد.

حكم القيام في الصلاة وسببه:

لقد اتفق الفقهاء على ركنية القيام في الصلاة للقادر عليه، وبخاصة القادر على أداء حركات الصلاة كلها من قيام وركوع وسجود، هذا موضع اتفاق بين الجميع، فإذا عجز عن القيام انتقل إلى القعود، وإذا عجز عن القعود صلى على جنبه، وذلك استدلالًا بالحديث الصحيح عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة، فقال: “‌صلِّ ‌قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب".

وقد اختلف الفقهاء في القيام في الصلاة، هل هو مقصود لذاته، أم مقصود لغيره، أي: لهدف غير القيام، فقال الحنفية والمالكية: القيام ركن مقصود لغيره، على خلاف بينهم في المقصود بالقيام، فقال المالكية: المقصود من القيام: القراءة، لأن القيام في حقه مقدر بقدر تكبيرة الإحرام، وقراءة أم القرآن، فدلّ على أن ذلك هو المقصود، ويسقط ما زاد على ذلك بسقوط القراءة، ولذلك المسبوق يسقط عنه القيام لسقوط القراءة عنه، وقال الحنفية: المقصود من القيام: التوصل به إلى السجدة، لما فيه من نهاية التعظيم، فالقيام ليس بركن مقصود، ولهذا جاز تركه في النفل من غير عذر.

وقد قدمت -هنا- بهذه التقدمة الفقهية، لأنها ستبين بناء على رؤية هذه المذاهب الهدف من القيام، لموقفه من عدم القيام عند الأعذار ولأصحابها، وهي مسألة مهمة تفتح أبوابًا كثيرة مغلقة أمام نظر الفقيه، أو طالب العلم المتفقه، وهي زاوية –للأسف– تغيب عن كثيرين ممن يتعرضون لمسائل فقيهة تتعلق بعبادات الناس أو معاملاتهم، ولو كلفوا أنفسهم قليلًا من القراءة فيما وراء الأحكام، ولماذا صدر هذا الرأي عن هذه المدرسة الفقهية؟ لاتسعت دائرة نظره، ودائرة اطلاعه، وليسّر على نفسه والناس كثيرًا من الأحكام.

صلاة مستطيع القيام جالسًا لعدم استطاعة الركوع:

أما موضع السؤال، أو النقاش، وهو صلاة الإنسان على الكرسي، لعدم قدرته على الركوع أو السجود، ولذا يجلس على الكرسي، فهنا حالتان لصاحب السؤال، أو للقائم بهذا الفعل، حالة علمه بالحكم الشرعي، وحالة عدم علمه به، وذلك على افتراضنا أن المسألة لا يوجد فيها إلا رأي واحد فقط، وهو بطلان صلاة من يجلس لعدم قدرته على الركوع أو السجود، وهو قادر على القيام، فإن كان يعلم وهذا احتمال ضعيف جدًا، إذ إن المريض الذي يتكلف عناء الذهاب للصلاة في المسجد، لا يغامر ببطلان صلاته، بعد هذه المشقة والتعب في الوصول للمسجد لصلاة الجماعة، وهذا معناه جهله بهذا الرأي الفقهي، وهنا يعذر بجهله بلا شك، وتعد صلاته السابقة صحيحة لا غبار عليها، ولا إعادة عليه.

وأما حالة علمه بهذا الرأي الفقهي، وإصراره عليه، فهنا حكم آخر، وهو البطلان بلا شك بناء على ذلك، لأمرين: لمخالفة الحكم الفقهي، ولتكبره وعناده على الالتزام به وفق شروط صحة الصلاة، ولكن السؤال الأهم هنا: هل في المسألة رأي واحد فقط؟ أم هناك آراء مختلفة؟

صحة الصلاة على مذهب الأحناف:

فعند جمهور العلماء: مالكية، وشافعية، وحنابلة، القيام ركن عند القدرة عليه، وتركه يبطل الصلاة، لكن الأحناف لهم رأي آخر مختلف تمامًا عن الجمهور، فعند الأحناف نجد رأيهم ما يلي: (‌وإن ‌قدر ‌على ‌القيام ‌ولم ‌يقدر ‌على ‌الركوع والسجود لم يلزمه القيام ويصلي قاعدًا يومئ إيماء، لأن ركنية القيام للتوسل به إلى السجدة لما فيها من نهاية التعظيم، فإذا كان لا يتعقبه السجود لا يكون ركنًا فيتخير، والأفضل هو الإيماء قاعدًا، لأنه أشبه بالسجود).

فإذن صلاة من قدر على القيام، ولم يقدر على الركوع أو السجود، فصلى جالسًا، ولم يقم، صلاته صحيحة، والمطلوب منه: أن يقوم عند تكبيرة الإحرام، وما تيسر له من وقت لقراءة الفاتحة أو آيات منها، حسب قدرته، ثم له أن يجلس بعد ذلك وفق المذهب الحنفي، وصلاته صحيحة لا غبار عليها.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. عصام تليمة؛ داعية إسلامي ومحاضر. عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين





البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع