البحث

التفاصيل

وبيت المقدس أرض رباط وجهاد في سبيل الله إلى يوم القيامة

الرابط المختصر :

وبيت المقدس أرض رباط وجهاد في سبيل الله إلى يوم القيامة

بقلم: الشيخ د. تيسير رجب التميمي

 

علم حبيبنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال عنه ربه عز وجل: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} <النجم 3-4>؛ علم هذا المصطفى المختار ما لبيت المقدس وأرض فلسطين المباركة من فضل ومكانة؛ إذ إنهما جزء من بلاد الشام، وبلاد الشام هي مُهاجَرُ الأنبياء وبالأخص سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وبرهان ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى أصحابه وأتباعه بسكناها كما ورد في كثير من أحاديثه النبوية الشريفة ومنها:

1- فقد قال الصحابي ذو الأصابع رضي الله عنه: {قلتُ يا رسول الله إن ابتلينا بعدك بالبقاء أين تأمرنا؟ قال عليك ببيت المقدس فلعله أن ينشأ لك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون} رواه احمد.

ومسجد بيت المقدس هو المسجد الأقصى المبارك، وفي هذا الحديث حثٌّ واضح وصريح للأمة على إعمار مدينة القدس بالمرابطة والسكنى فيها وبالأخص في هذه الأيام لمواجهة مخططات تفريغها من سكانها العرب المسلمين لصالح المحتلين الغاصبين الذين يخططون علانية لتهجيرهم منها قسراً بهدف إحلال المغتصبين الصهاينة مكانهم.

2- وقال صلى الله عليه وسلم: {سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنوداً مجندة: جند بالشام وجند باليمن وجند بالعراق، قال ابن حوالة: خِرْ لي يا رسول الله إن أدركتُ ذلك، فقال عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده، فأما إن أبيتم فعليكم بيمنكم واسْقُوا من غُدُرِكم، فإن الله توكَّل لي بالشام وأهله} أخرجه أبو داود، وابن حوالة رضي الله عنه هو واحد من الصحابة، والأمر هو الإسلام والمقصود انتشار هذا الدين، ومعنى قول ابن حوالة  "خِرْ لي" أي اخترْ لي ، ومعنى قول الرسول "واسْقُوا من غُدُركم" الغُدُر جمع غدير وهو النهر الصغير أو حوض الماء، والمقصود اشربوا منها أنتم ودوابّكم، ومعنى "توكَّل لي بالشام وأهله" أي تكفَّل لأجلي بحفظ الشام وأهلها من بأس الكفار وأذاهم سواء بالاحتلال وغيره ، وبنيلهم الأجر والمثوبة من الله على صبرهم ورباطهم في سبيله، وصدقت هذه البشارة النبوية وشهدناها في التاريخ الإسلامي الزاهر ، فقد كان لأهل الشام دور عظيم في تطهيرها وتطهير كثير من أراضي المسلمين من الفرنجة والمغول على أيدي القادة بيبرس وقطز وابن قلاوون.

3- وقال صلى الله عليه وسلم:{ستكون هجرة بعد هجرة ، فخيار أهل الأرض ألزمهم مُهاجَرَ إبراهيم...} رواه أبو داود، ومُهاجَر سيدنا إبراهيم عليه السلام أي المكان الذي هاجر إليه والثابت تاريخياً بأنه فلسطين من بلاد الشام، فقد كان في بابل بالعراق ومكث فيها يدعو قومه إلى دين التوحيد لكنهم قابلوه بالإعراض والتكذيب وبالإنكار ومحاولة الحرق والتعذيب، لكن الله تعالى جلَّت قدرته نجاه منهم، فقرر مغادرتهم والهجرة إلى الله [بقلبه وعقيدته قبل أن يهاجر بلحمه ودمه، هاجر إلى ربه ليخلص له عبادته ويخلص له قلبه ويخلص له كيانه كله في مهجره بعيداً عن موطن الكفر والضلال بعد أن لم يبق رجاء في أن يفيء قومه إلى الهدى والإيمان بحال] قال سبحانه على لسانه: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ِإِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} العنكبوت 26.

4- وقال صلى الله عليه وسلم: {إني رأيت كأن عمود الكتاب انْتُزِعَ من تحت وسادتي فأتبعته بصري فإذا هو نور ساطع عُمِدَ به إلى الشام، ألا وإن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام } رواه أحمد ، وفي رواية الطبراني رحمه الله أنه صلى الله عليه وسلم قال { رأيت ليلةَ أسري بي عمودا أبيض كأنه لؤلؤة تحمله الملائكة ، قلتُ ما تحملون ؟ قالوا : عمود الإسلام أمرنا أن نضعه بالشام } ، ومعنى عمود الكتاب في الحديث الأول أي عمود الدين والإسلام كما بينه الحديث الثاني.

فنستدل من هذه الأحاديث النبوية الشريفة مدى إهتمامه صلى الله عليه وسلم بنصح أصحابه ومن بعدهم المؤمنون من أمته بأن يسكنوا الشام وفلسطين وأن يأووا اليها عند اشتداد الخطوب والمحن ونزول البلاء والفتن ، فسيجدون فيها الأمن والطمأنينة والإيمان في أرضها وبين أبنائها ، وستكون حينئذٍ خيراً للمؤمنين من أي أرض غيرها ، وسيكون أهلها سوط الله تبارك وتعالى في أرضه ينتقم بهم ممن يشاء من عباده العتاة والجبابرة ، وسيكونون أيضاً كنانة الله فإذا غضب من قومٍ رماهم بسهم منها ، والكِنانة هي وعاء من الجلد توضع فيه السهام والنبال لاستخدامها في الرمي.

فبلاد الشام وفلسطين إذن هي أرض الجهاد والرباط في سبيل الله إلى يوم القيامة ، ومعنى الرباط في سبيل الله أي ملازمة الثغور لحراسة وتقوية المسلمين ودفع العدو عنهم ، والثغور هي الحدود التي تفصل بين المسلمين والكفار ، والأماكن التي يُخَافُ على أهلها من العدو لقربه جداً منهم ، وما هذه المنزلة للمرابطين في الثغور إلا لكونهم في نحر العدو وقريبين من عقر داره.

والرباط هو من توابع الجهاد، وبما أن الجهاد في سبيل الله فرض كفاية على المسلمين فالرباط في سبيل الله كذلك فرض كفاية عليهم حماية لحدودهم وديارهم وأمتهم، قال تعالى في فرضيته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران 200.

     وفي فضل الرباط قال صلى الله عليه وسلم: {رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وَأَمِنَ الْفَتَّانَ} رواه مسلم، والفتان المقصود به فتنة القبر، والحديث يفيد عدم انقطاع أجر المرابط بعد موته بل يضاعف له إلى يوم القيامة،

ومن الأحاديث النبوية التي نصت صراحة على أن فلسطين وبلاد الشام أرض رباط:

1- قوله صلى الله عليه وسلم: {أهل الشام وأزواجهم وذراريهم وعبيدهم وإماؤهم إلى منتهى الجزيرة مرابطون، فمن نزل مدينة من المدائن فهو في رباط أو ثغراً من الثغور فهو في جهاد} رواه الطبراني، والحديث واضح في النص على فضل المرابطين في بلاد الشام وفلسطين.

2- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أول هذا الأمر نبوة ورحمة ثم يكون خلافة ورحمة ثم يكون ملكاً ورحمة ثم يكون إمارة ورحمة، ثم يتكادمون عليه تكادم الحمر فعليكم بالجهاد، وإن أفضل جهادكم الرباط وإن أفضل رباطكم عسقلان} رواه الطبراني، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعقيباً على هذا الحديث [وفضل عسقلان أنها كانت ثغراً من ثغورِ المسلمين، كان صالحو المسلمين يقيمون بها لأجل الرباط في سبيل اللَّه].

3- وروى عمير بن هانئ انه سمع معاوية رضي الله عنه يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك، قال عمير: فقال مالك بن يَخامر: قال معاذ وهم بالشام، فقال معاوية: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول وهم بالشام} رواه البخاري، وجاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله بعدها: {قالوا يا رسول الله وأين هم؟ قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس}.

     فأرض فلسطين أصبحت أرضاً للمسلمين منذ ان باركها الله عز وجل وبيّن قدسيتها، وستبقى كذلك على الرغم مما يحل بها في كل عصر من نكبات بتحكّم الظَّلَمَةِ وعدوان الكفار عليها، وهي أرض رباط دائم منذ الفتح الإسلامي الأول على يد الصحابة الكرام رضي الله عنهم والتابعين رحمهم الله من بعدهم وحتى قيام الساعة، بل إن رباطهم هذا هو أوكد الرباط في سبيل الله، وهي أرض جهاد في سبيل الله ماضٍ إلى يوم الدين لا يتوقف أبداً على مر الأزمان وتتابعها.

     وزيادة في الخير لهذه الأرض فقد زادها خصلة أخرى منه، فجعل المقام بها أو الهجرة إليها للسكنى ومجاورة المسجد الأقصى المبارك وتقوية المؤمنين فيها تعدل أجر المهاجرين الى المدينة المنورة زمن النبي صلى االله عليه وسلم ، وجعل أهلها والمقيمين فيها من أهل الصلاح والخير، والذين يأتونها للمرابطة فيها خير أهل الأرض ، فمجرَّد بقاء المسلم في أرْض فلسطين المباركة هو من الرِّباط في سبيل الله ، وإقامته في أرضها يعتبر جهاداً في سبيل الله ، والميّت فيها على هذه الحالة والنية شهيد بإذن الله ، ولأن هذه الأرض عرضة للغزو في كل وقت لمكانتها وشرفها فهي محل أطماع أعداء الأمة، ولذلك فهي بأمسّ الحاجة إلى أن يرابط فيها المرابطون وأن يكونوا دوماً على أهبة الاستعداد لأي طارئ بهذا الحضور التعبّديّ فيها والغائظ لأعدائها المتربّصين بها شراً، ولهذا كان قدر أهل الشام وفلسطين أنهم مرابطون إلى يوم القيامة، وهو من أجمل الأقدار لأنه يورثهم الجنة ومرافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فهم قد خرجوا يحرسون في أرض الخوف يتهددهم الرصاص والقنابل ويواجهون خطر الموت الذي يرتقي بهم لنيل وسام الشهادة، ويحيط بهم جنود العدو المدججة ظهورهم بالسلاح والتي تفيض صدورهم بالحقد والإرهاب.

     ولكنني أنوه هنا بأنه من الضروري جداً لنيل هذه الدرجة أن يستحضر المقيم في أرض الشام وفلسطين نية الرباط في سبيل الله إذا كان من أهل النية والاختيار، فلا يعتبر كل مقيم فيها مرابطاً في سبيل الله إلا إذا احتسب أجره وثوابه على الله سبحانه وتعالى ، قال صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنية ولكل امريء ما نوى...} رواه البخاري، فلا تصح عبادات المؤمن ولا أعماله الصالحات ولا جهاده ولا رباطه إلا إذا ارتبطت بالإخلاص لله تعالى والحرص على مرضاته، فبلاد الشام وأرض فلسطين اليوم فيها كثير من الفاسقين والعصاة والظالمين، وحاشا لله سبحانه أن يعدّ هذه الفئات من المرابطين.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. قاضي قضاة فلسطين. رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً. أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس.

 * ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


: الأوسمة



التالي
أهل السنّة بين حجمهم التاريخي وواقعهم المعاصر.. التحديات والواجبات.
السابق
لجنة التزكية والتعليم الشرعي بالاتحاد تعلن عن دورة مميزة في "علم القواعد الفقهية"

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع