فقه المرحلة عند أئمة المذاهب وعموم الفقهاء
بقلم: نور الدين بن مختار الخادمي
ازداد مشروع الإسلام بعد عصر السلف انتشارا واتساعا، وتزايدت أقضيته ونوازله، وتداخلت مجالاته وملفاته، وتفرعت علومه وتخصصاته، وتكاثرت شعوبه وفئاته، وتداخلت مصالحه ومنجزاته. وهو الأمر الذي أوجب على أئمة المذاهب ومجموع الفقهاء والعلماء واجب التعامل مع واقعهم ومختلف مراحلهم، بالفهم والتشخيص والمعالجة والتوجيه؛ وبطرق الفتوى والاجتهاد والإرشاد والسياسة والقضاء والتقنين والترتيب، وفي مجالات الإصلاح والتغيير بوجه عام.
كما أنهم أَصّلوا لمواقفهم وفرّعوا التفريعات وذكروا الضوابط واستحضروا التحديات، واستفادوا من الإمكانات وتعاملوا مع الإكراهات والضغوط، ووازنوا بين المصالح والمفاسد، واختاروا ما هو أوْلى وأنسب، ولاحظوا الاستثناء والاستدراك، وجمعوا وفرّقوا، وقدّموا وأخّروا، وعملوا بالعزائم والرخص، وقاسوا وأجمعوا، وحكموا الأعراف والعادات، وأبطلوا الحيل والذرائع، وأعملوا المصالح والمقاصد.
ولهذا من الشواهد ما لا يكاد يُحصى ويُحصر، وهي مبثوثة في كتب السير والتاريخ والفقه، والنوازل، والسياسة الشرعية، والأصول، والقواعد، والمقاصد، وفي دراسات وأعمال علمية كثيرة ومتداخلة وزاخرة. ويمكن أن نبرز أجلى بعض الشواهد الإجمالية التي تدل على أصالة فقه المرحلة في تاريخنا الإسلامي والفقهي والعلمي، وضرورته في التعامل مع الواقع والتصدي لمشكلاته وتحدياته، والاستجابة لحاجياته ومصالحه.
وعليه، فيلزم على قراء المذاهب وأتباعها أن يَعُوا الفقه المرحلي لها، وأن لا يقتصروا على سرد الأحكام وحفظ الفروع وتقليد الأئمة بمعزل عن الاستبصار والاعتبار، وخارج منهج الفهم الواعي والتمثل المثمر والعمل بالصحيح والتنزيل، الموفّق للنصوص والأحكام على مختلف مراحلها ومجموع أطوارها؛ بما يجلّي صلاحية الدين وشموله، وبما يجّسد منهج الاجتهاد الموزون الذي يجمع بين فقه الدليل وفقه الواقع وفقه تنزيل الدليل على الواقع. ومن أبرز هذه الشواهد نذكر ما يلي:
"يلزم على قراء المذاهب وأتباعها أن يعوا الفقه المرحلي لها، وأن لا يقتصروا على سرد الأحكام وحفظ الفروع وتقليد الأئمة بمعزل عن الاستبصار والاعتبار"
شواهد فقه المرحلة عند أئمة المذاهب وعموم الفقهاء
الشاهد الأول: تدوين المذاهب الفقهية والعلوم الشرعية وضبط قواعد الفهم والتفسير والتأويل والاجتهاد والاستنباط، ومواجهة ما قد يخلّ بهذه العلوم وبمنهجها في تصحيح الأفهام، وترشيد التصرفات، وتجديد الأنظار، وتحرير المصطلحات، وتقدير المصالح ومراعاة المآلات، والاعتبار بالنيات، والاستئناس بالسياقات.
فقد وضعوا علم الأصول لضبط منهج الاستنباط والاجتهاد، ووضعوا علم القواعد الفقهية لجمع الفروع الفقهية الكثيرة وحصرها وتيسير استحضارها، ووضعوا علم الكلام للدفاع عن العقيدة الإسلامية ومنع تحريفها وتهميشها، ووضعوا علم اللغة العربية لضبط قانون الدلالة والنحو والصرف والإعراب ومنع اللحن والضمور والتراجع اللغوي والحضاري، ووضعوا علم الحديث لضبط الصحيح والضعيف وتبين الضعيف والموضوع والحفاظ على السنة البيضاء التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك في الفهم والتمثل والنية والعمل، ووضعوا علم التأويل والتفسير لتحقيق وعد الله -تعالى- بحفظ كتابه العزيز امتثالا لقوله: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، (سورة الحجر- 9).
إن فقه تلك المراحل تمثل في تقرير حكم التدوين ووضع القواعد والضوابط في الفهم والتفسير وفي العمل والسلوك، وتمثل في تقديم الأجوبة عن الأسئلة الملحة المتعلقة بضرورة الحفاظ على تلك العلوم والمذاهب والمعلوم الديني بأنواعه، لا سيما أمام التحديات التي واجهتها وكادت تعصف بها، أو تخلّ بها لولا فضل الله -تعالى- الذي سخّر هؤلاء الأئمة والأعلام، للوعي الدقيق والفقه العميق بطبيعة تلك المراحل وتحدياتها ومستلزماتها.
كما تمثل فقه تلك المراحل في محتويات ما تم تدوينه وتأليفه، من فتاوى وآراء وتعريفات وأقسام وشروط وضوابط وحقائق وأمثلة وحجج وتفسيرات، وما وجّهت به الناس في مراحل حياتهم وإصلاحهم، وتحقيق حاجياتهم وتأمين معاشهم، وفقا لمقاربات ذلك واختياراته وإمكاناته.
الشاهد الثاني: إقامة نظام العيش وتحقيق إنجازاته المختلفة؛ بناء على أحكام ذلك وخطابه العلمي الفقهي الموجه إلى ذلك النظام وإلى إنجازاته.
وما عرفته المجتمعات الإسلامية في كثير من أطوارها ومراحلها من الاجتماع الوطني، والسلم الاجتماعي، والازدهار الحضاري، والتقدم السياسي، والرخاء الاقتصادي، والتأثير الإقليمي والعالمي، إنما مردّه إلى الفقه الواعي بتلك المراحل، والفقه المتبصّر بالحلول المقدمة، والاختيارات المطروحة التي تُجمع فيها النصوص مع المقاصد والمأمول مع الممكن، والخاص مع العام، والحال مع المآل، وليس الفقه الذي يردد المحفوظات ويرفع الشعارات، ويغض الطرف عن التحديات، ويعيش في الطموحات، ويعاكس الواقعات، ولا يعبأ بالإمكانات.
وحديثنا عن منجزات حضارتنا عبر عصورها إنما هو حديث عن ألوان طيف وحصائد صيف في مستوياتها ومقاديرها وأحوالها من حيث التقدم والتراجع والتأثر والتأثير.
"ما عرفته المجتمعات الإسلامية في كثير من أطوارها ومراحلها من الاجتماع الوطني والسلم الاجتماعي والازدهار الحضاري والتقدم السياسي والرخاء الاقتصادي والتأثير الإقليمي والعالمي، إنما مرده إلى الفقه الواعي بتلك المراحل والفقه المتبصر بالحلول المقدمة"
الشاهد الثالث: الامتداد بالمشروع الإسلامي دعوة وحضارة، وعبادة وعمارة، وكرامة وعدالة.
وقد أقيم ذلك على الوعي الدقيق بمراحل الحياة وبيئات الحضارة، وأوضاع البلدان المفتوحة والمتعاقد معها، وأقيم كذلك على مراعاة الإمكانات البشرية، والمقدرات الطبيعية، والميسورات السياسية والدولية، وعلى الاعتداد بالنصوص والأصول، وبالقواعد والمقاصد في أبعادها الإنسانية والأخلاقية، وبإعمال المنهج العملي والترتيبي الذي يحوّل المطلقات إلى منجزات، والطموحات إلى متاحات؛ بقصد التقريب والتقارب، والتقرب أكثر من الله -سبحانه- ومراده وسداده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نور الدين بن مختار الخادمي: وزير تونسي سابق، أستاذ ورئيس وحدة البحوث بكلية الشريعة جامعة قطر، عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين