المسؤولية الشخصية في الحرب الباردة بين التراث والمُترجَمات
بقلم: محمد خير موسى
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
وأنتَ تتابع عموم المشتغلين في قضايا العلم والفكر الإنساني، فإن عينك لا تخطئ حالة متقدمة من الاستقطاب الشديد انعكاسا للحرب الباردة المستمرة بين الوافد والموروث، ترى فيها صنفين متقابلين.
الصنف الأول أغرقَ في التراث ومصادره، فهو لا يقبل المساس به، ويراه مقدَّسا لا يقبل الانتقاد، ويتعامل مع كل دعوة لنقد التراث أو تمحيصه وتنخيله على أنها مؤامرة تستهدف الأمة في هويّتها، وتطاولٌ على العمالقة الذين لن ينجب الزمان لهم مثيلا على مرّ العصور، ومحاولة لهدم حضارة الإسلام العظيم وكنوز العرب المكنونة. أما الصنف الثاني، فذهب إلى أقصى الطرف المقابل، إذ أسكرته المُترجَمات الوافدة، ورأى فيها ضالّته المنشودة لبناء فكره وسعة وعيه ونهضة أمته، فتماهى معها وغابت فيها شخصيته وانطبع بطريقتها سلوكه الحواريّ والكتابي والتفكيري، ونبذَ التراث وما كلّف نفسه عناء الغوص في تعقيداته، وكفر بالموروث وقدرته على صناعة النهضة، ورَكَن إلى ما تجود به أقلام المترجمين يستقي منها ثقافته، ولا يصدر رأيه إلا عنها.
بين هُبَل وزيوس واللات وأفروديت
وكما في كل معركة ينزع الجنود إلى تقديس الجهة التي يذودون عنها، ورمي الجهة الأخرى بكل منقصة؛ فإنك ترى مُقدِّسي التراث لا يتوقفون عن تسمية الوافد بالغزو الفكري، واتهامه بالاختراق الثقافي والتحذير منه كونه ترويجا للتغريب، واستدعاء نظرية المؤامرة لشيطنته والتنفير منه؛ وفي المقابل لا يفتأ الذين صنّموا المُترجَمات ينعتون المتعاملين مع التراث بجمود العقل، وجفاف الوعي، والتقوقع في الزمن الماضي، والغرق في التاريخ، والعجز عن مواكبة مشكلات العصر.
إن حالة التعارُك التي يعيشها الطرفان حيال الوافد والموروث، أدّت إلى تحويل الأفكار ومصادرها على حد سواء إلى اللّات والعزّى ومناة وهبَل، أو إلى هيرا وزيوس وأبراكسيس وأفروديت، ويصير التراث والمُترجَمات على حد سواء عند المتصارعين عليهما ولأجلهما محض أصنام يشعلون حولها البخور ويذودون عنها بعقولهم المولّهة، وهنا يوهِم كل فريق منهما نفسه بأنه ينتصر للفكرة، وهو في الحقيقة إنما ينتصر للصنم الذي بناه في عقله وشيّده في أعماقه.
وإن أخطر أثر لهذا التقديس والتصنيم هو الحيلولة دون انتهاء المعركة المُرهِقة بين الموروث والوافد، هذه المعركة التي تحول دون الإفادة الحقيقية من التراث الذي يمثّل عمق هويتنا الحضارية، ومن المُترجَمات التي هي الخزان المعرفي الضخم الذي لا غنية لباحث عن عقله وفكره عن ثرائها الحقيقي وتنوعها الثَّرّ.
العلاقة المعقّدة
وإن لم تنتهِ هذه الحالة من الاستقطاب الصنميّ، فإن غاية ما يمكن تحقيقه في العلاقة بين الوافد والموروث هي التطبيع أو التعايش او الانتقائية الرغائبية، وكل ذلك لا يحقق الصورة المثلى التي يجب أن تكون عليها الحال بين الوافد والموروث.
إن العلاقة بين الوافد والموروث علاقة معقّدة، وهذا يدفع كلا الطرفين إلى انتهاج الوجهة الواحدة، التي تكفي صاحبها مؤنة الأخذ العام ومشقة التلقّي الشامل.
ولا يمكن في عجالة من الحديث أن نحيط بشؤون هذه المعركة الممتدة، غير أن عدم القدرة على إطفاء نار الحرب لا يعني أن لا يُخاطَب الأفراد المتصارعون بما يجب عليهم فعله كي يتجنبوا الانصهار في أتون معركة قد تحرق أفكارهم وتأكل عقولهم، وهم واهمون بأنهم جنود الفكرة وحرّاس الثقافة، ليكتشفوا بعد فوات الأوان أنهم كانوا مجرد بيادق تحركها شهوة الانتصار للصنم المقدّس.
المسؤولية الشخصيّة في المعركة
ما أُشير إليه يفرض على الشباب والباحثين والناهلين من ينابيع الفكر والمرتادين رياض العلم، أن يتعاملوا مع هذه المعركة بحذر يجنّبهم حريقَها وينعموا فيه بغنائمها، فيتعاملوا على مستواهم الشخصي بتوازن يقيهم التقولب الذي يحجب عنهم رؤية الآخَر والإفادة مما عنده.
وهنا يغدو من الضروري على من يريد بناء عقله ووعيه أن يكوِّن علاقة بين التراث والمُترجَمات، تقوم على التمازج الراشد القائم على منهجية واضحة؛ تعتزّ بالهوية وتتّصل بالماضي، وفي الوقت نفسه تنفتح على الآخر وتفيد من كل حرف يبني الوعي، وهذا التمازج يقتضي أن ينوّع المرء آباره التي يلقي فيها دلاءه، فيلقي دلوا في جبّ الماضي فيستقي من تراثه عذبا نميرا، ويلقي دلوا في بئر الوافد حتى إذا سحبه صاح يا بشرى هذا عقل جديد!.
ولقد صدقت العرب إذ قالت: مَن أخصبَ تخيَّر ومن أجدبَ انتجع، والخصب لا يكون إلا بالتنوع، والتخيُّر لا يكون إلا عن ظهر غنى، والشعور بالحاجة يلزم منه الانتجاع، أي البحث والتنقّل، وكل هذا في المعرفة بابه بناء علاقة تصالحية داخل عقل المرء وقلبه بين التراث والمُترجَم.
ولا بد أن نعي أن العلاقة بين التراث والمُترجَمات هي كالعلاقة بين الأمم والشعوب، خلقها الله متنوّعة لتتعارف فيما بينها، وهذا التعارف هو عملية تفاعلية تقتضي الوصل لا الهَجر، والتصافح لا الانكفاء، والإقبال لا الإدبار، والتكامل لا التنافر، وهذا كله يقتضي التعامل الراشد بعيدا عن التقديس والتصنيم. كما أن القراءة الناقدة، والتلقي الحرّ، والتمحيص الواعي، والانتقاء المنهجي، والغربلة العلمية، لا تستقيم مع عقلية التعارك القائمة على النبذ وعقدة المؤامرة تجاه الوافد، أو على التسخيف والاتهام الجاهل للموروث.
ليس مطلوبا من الشاب الذي يريد أن يبني عقله وفكره أن ينهي المعركة بين الوافد والموروث في ميادين الفكر العامة، ولكن المطلوب منه أن لا يُنشِب الحرب في أعماقه، وأن يخمدها بالإيغال في المعرفة، فالمعرفة تبني الاحترام لا التقديس، وتشكّل الإجلال لا التصنيم، وتمدّ جسورا يمرّ عليها العقل بخطىً وئيدة إلى الغد الأجمل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين