المقال التاسع عشر- أهمية مَلَكَة العقل
بقلم: بدران بن لحسن
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
(اقرأ: المقال الثامن عشر- الإسلام والعقلانية)
ذكرنا في مقالاتنا السابقة حاجتنا إلى القرآن لضبط الصلة بين الدين والعلم؛ أي البحث في التكامل أو التداخل أو التناقض أو التضاد بين الدين والعلم. وكان المقصود بالدين هو الإسلام أساساً، باعتبار أن الإسلام هو الدين الحق، وفي قمة هرم الأديان، ثم تأتي الأديان الأخرى بعده من حيث تضمنها لعناصر الحقيقة إلى أن نصل إلى ملل ونحل وأيديولوجيات وأساطير آمن بها كثير من الناس[1]، ليس فيها من "أساس للتقديس" كما يقول الفخر الرازي إلا التقليد والانحراف عن الفطرة وعن هداية الأنبياء.
ولعل ما يجعل الحديث عن صلة الدين بالعلم مهمة، هو موقع العقل فيهما، ودوره في المعرفة ومصادرها ومناهجها وقضاياها ونتائجها[2]. ولعل الناظر في القرآن يجد -خلاف ما يشاع في الأدبيات الاستشراقية أو التي وقعت في القابلية لجلد الذات- أن القرآن أولى عناية كبيرة للعقل، ووضع فيه ثقة كبيرة لتمييز الحق من الباطل، ولتأسيس التدين، والعلم، والعمران.
ولكن الملفت للنظر أن القرآن ذكر العقل باعتباره ملكة؛ أي صفة وميزة يتميز بها الإنسان، أو وظائف تقوم بها القوى الإدراكية في الإنسان، وليس ذاتا أو ماهية أو جوهراً، كما يقول الفلاسفة. بمعنى أن القرآن ذكر وظائف متعددة تعبر عن العقل، ولكن نجد القرآن أيضا يمدح الذين يعقلون ويذم الذين لا يعقلون، وذلك في سياق دعوة القرآن الإنسان ليستعمل هذه القوى الإدراكية متكاملة ليعقل بها، ويدرك عالم الغيب وعالم الشهادة، ليصل الإنسان إلى بناء صلة صحيحة بالله تعالى وبالإنسان وبالكون، محققا العبادة على وجهها الذي لأجله تم تكليف الإنسان بتحقيق الاستخلاف.
فانظر إلى الآيات التي سنذكرها لترى كيف يؤسس القرآن للثقة في العقل، هذه الملكة العظيمة؛ سواء الفطرية منها أم المكتسبة، التي بها يستطيع الإنسان أن يكون إنساناً، ويحقق رسالته في الوجود. بل إن الهداية، والايمان، والضلال، والاستقامة، والانحراف، والنجاة من النار، والفوز بالجنة، وتحقيق العدل والخير، وتحقيق الفهم، وحصول العلم، والتزام الأخلاق الكريمة أو الانحدار عنها، كلها مرتبطة بهذه الملكة العظيمة التي زود بها الإنسان؛ فطرة واكتساباً.
كقوله تعالى في سبب جعل القرآن بلسان عربي ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [سورة الزخرف: 3]، وفي دعوته للتأمل في آيات الكون، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [سورة النحل: 12]، وفي مسؤولية بعض من أعرض عن الإيمان وحرّف الوحي ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [سورة البقرة: 75]، وفي ضرب الأمثال من أجل أن يتم تعقلها ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [سورة العنكبوت: 43]، وفي مساءلة الذين يناقضون بين قولهم وفعلهم ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [سورة البقرة: 44]، وفي اعتراف أهل النار بأنهم لم يستعملوا قواهم الإدراكية في التعقل ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [سورة الملك: 10]، وفي ذم من يعبد غير الله، ويغيّب عقله ﴿أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [سورة الأنبياء: 67].
وكذلك فإن القرآن يسأل المقلدين الذين يتبعون الموروث دون تمحيصه، ودون تمييز الهداية من الضلال فيه، لأنهم لم يستعملوا عقولهم؛ ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [سورة البقرة: 170]، وفي نفي العقل عمّن لم يهتد ولم يع ما جاء به الوحي؛ ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [سورة يونس: 100]، كما أن تغييب العقل يؤدي إلى التفرق والتشتت؛ ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [سورة الحشر: 14].
ليس هذا فحسب، بل إن الذي يستخدم ملكة العقل سيحقق الفوز في الدار الآخرة، لأنه باستخدام عقله سيدرك الفرق الكبير بين الدار الآخرة والدار الدنيا؛ ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [سورة يوسف: 109]. بل إن التفكر في الكون وفي الموجودات واستعمال وظائف هذه الملكة العقلية، يؤدي إدراك الحقائق، ومعرفة الظواهر وما تنطوي عليه من حقائق ظاهرة وباطنة فيها؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [سورة البقرة: 164]،
ولهذا دعا القرآن الإنسان إلى التعقل وإعمال العقل، والتخلي عن التقليد والغفلة والجمود ومتابعة السائد، حتى لا يصير مثل الدواب، قال تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [سورة الأنفال: 22]، بل إن عدم استخدام القوى الإدراكية التي زود الله الإنسان بها، ستقوده إلى الخسران المبين؛ ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [سورة الملك: 10].
إن هذه الآيات وغيرها كثير في كتاب الله، تدلنا على أهمية ملكة العقل، وضرورة إعمالها، والثقة فيها، لأنها مناط التكليف، ولأن إعمال العقل فريضة، والتفكير فريضة، كما يقول الأستاذ عباس محمود العقاد[3]. كما أن النظر في الثورة المعرفية التي أنتجها القرآن والسنة في تاريخ أمتنا، والأولوية الكبرى التي أولاها العلماء للعقل في مختلف العلوم وحقول المعرفة، تجعل من العقل ملك المواهب وملك القوى التي احتفى بها الإسلام، وأولاها عناية عظيمة، وشنّع على من عطلها.
[1] محمد خليفة حسن، تاريخ الأديان دراسة وصفية مقارنة، الدوحة: مركز القرضاوي للوسطية، كلية الدراسات الاسلامية، جامعة حمد بن خليفة، 1434هـ/2013م، ص36-37.
[2] أحمد محمد حسين الدغشي، نظرية المعرفة في القرآن وتضميناتها التربوية، دمشق: دار الفكر، 1425هـ/ 2004م، ص236-286
[3] كتاب الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد، صاحب كتب "العبقريات" كتاباً خصصه للحديث عن فريضة التفكير، سماه "التفكير فريضة إسلامية. أنظر: عباس محمود العقاد، التفكير فريضة إسلامية، ط6، الجيزة، نهضة مصر، 2007.