البحث

التفاصيل

تفكيك منظومات الاستبداد (٢٢): إذا نصحوا لله ورسوله

الرابط المختصر :

تفكيك منظومات الاستبداد (٢٢):  إذا نصحوا لله ورسوله

جاسر عودة

يقول تعالى في كتابه الكريم: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم - التوبة ٩١)، ولا نملك أن نشارك في الجهاد في سبيل الله -الذي تعين في هذه الأيام على كل أحد كما لا يخفى- إلا بالنصح لله ورسوله، ولذلك عدنا -بعد تحرّف لنزال فكري أعمق- لاستكمال سلسلة ”تفكيك منظومات الاستبداد“، والتي كانت قد توالت خلال العقد الذي تلا ”الربيع العربي“، بغرض الإسهام في تخليص أمتنا من أسوأ ما تعاني منه من بلايا في عصرنا، وهي نظُم الاستبداد أو الطغيان، وعلاقة تفكيك نظم الطغيان المعاصرة في كل صورها وأشكالها بما يحدث في فلسطين الأبية لا يخفى على عاقل.

وقول الله تعالى: (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون - التوبة ٤١) ينطبق على واقعنا دون داع للاختيار بين وجوه تفسير الخفة والثقل كما فعل بعض أهل التفسير، بين الشباب والشيخوخة، والرجال والنساء، ومشاغيل وغير مشاغيل، وأغنياء وفقراء، ونِشاطًا وغير نِشاط، وركبانًا ومشاة، وذي ضَيْعَة -أي عيال يضيعون بفراقه- وغير ذي ضَيْعة، والشجاع والجبان، وفي حال العسر واليسر، بل المقصود هو شمول الأمر بالنَّفرة لكل حالات الإنسان في كل سياق. ونقرأ ضمن تعليق أبي بكر بن العربي الإشبيلي الأندلسي رحمه الله على هذه الآية في كتابه أحكام القرآن قوله: ”قد تكون حالة يجب فيها نفير الكل إذا تعين الجهاد على الأعيان بغلبة العدو على قطر من الأقطار أو بحلوله بالعقر، فيجب على كافة الخلق الجهاد والخروج إليه فإن قصروا عصوا، ولقد نزل بنا العدو قصمه الله [أي القشتاليين في هجومهم على أشبيلية] سنة سبع وعشرين وخمسمائة، فجاس ديارنا وأسر جيرتنا وتوسط بلادنا في عدد هال الناس عدده، وكان كثيرا وإن لم يبلغ ما حددوه، فقلت للوالي والمولى عليه: هذا عدو الله وقد حصل في الشرْك والشبكة، فلتكن عندكم بركة ولتظهر منكم إلى نصرة دين الله المتعينة عليكم حركة فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع هذه الأقطار فيحاط به فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له. فغلبت الذنوب ووجفت القلوب بالمعاصي وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوي إلى وِجاره وإن رأى المكروه بجاره، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل“. وها نحن نشهد في حياتنا نزول أعداء الإسلام غازين لأرضه في فلسطين، وأحوالنا كما وصف ابن العربي أحوالهم تمامًا، فنقول كما قال.

ثم يقول تعالى بعدها: (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون - التوبة ٤٢)، فبعد الأمر بالجهاد بالأموال والأنفس في الآية الماضية ومقابله من تقاعس البعض ودعواهم بعدم استطاعة الخروج ولا استثمار الأموال ولا إهلاك الأنفس، تأتي هذه الآية لتفضح ما يستثمرون فيه أموالهم ويهلكون فيه أنفسهم عن طيب خاطر، ألا وهي المكاسب الدنيوية والمنافع التجارية، والـ ”عَرَض“ يشير إلى أطماع الدنيا بأنواعها قليلة أو كثيرة، ووُصفت بالعَرَض لأنها معروضة عليهم للنظر إليها من ناحية الدنيا وبريقها الذي قد يسع الأفق، ولو أنّ لها نواحي أخرى من الهلَكة والخسران، وهي أيضًا عارضة أي مؤقتة سريعة الزوال. وأما وصف السفر بالقاصد، فهو الذي يحقق المقصد أي الغاية على أفضل وجه، والقصد في السبل: (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر - النحل ٩) هو الخط المستقيم الذي يتوسط الخطوط الجائرة يمينًا ويسارًا لكي يصل إلى الغاية بأقصر وأقوم الطرق، والقصد في المشي: (واقصد في مشيك - لقمان ١٩) هو التوسط بين الإسراع والإبطاء لأنه أقرب لبلوغ الغاية، فالسفر القاصد هو الذي يبلغ أفضل غاياته ويحقق منافعه لأنه متوسط وليس طويلًا فيرهق ويكلّف ولا قصيرًا فلا يصل بالمسافر إلى بُعد يسمح بتحصيل المنافع المنشودة.

ولكن هذا السفر المطلوب اليوم بعيد وشاق، لا هو بالعَرَض البراق الذي يمر سريعًا ويحقق المنافع الجمّة، ولا هو بالسفر المتوسط المحسوب بدقة من أجل تعظيم المكاسب ونيل الأغراض، وهكذا بعُدت الشُّقة على الذين استُنفروا من أجل قتال الروم في تبوك حين نزلت سورة التوبة، وهكذا الجهاد اليوم في سبيل الله في كل صوره العسكرية والعلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتعليمية والتربوية والصحية والطبية والبيئية وغيرها، فالجهاد العسكري في ظل اختلال توازن القوى العالمي ليس عرضًا قريبًا ولا سفرًا قاصدًا، والجهاد العلمي في ظل استقرار النظام التعليمي العَلماني في مجتمعات المسلمين وغلبة التصورات الجاهلية على العلوم المختلفة وغربة اللغة العربية في أمم الإسلام ليس عرضًا قريبًا ولا سفرًا قاصدًا، والجهاد الثقافي بعد قرون من الإفساد للثقافة في المجتمعات الإسلامية والإنسانية بوجه عام إلى الحد الذي طبّع فيه المطبعون مع الخنا والخيانة والفساد بأنواعه ليس عرضًا قريبًا ولا سفرًا قاصدًا، والجهاد الاجتماعي في ظل سيادة الظلم والجهل في عادات اجتماعية كثيرة ليس عرضًا قريبًا ولا سفرًا قاصدًا، والجهاد السياسي في ظل تقسيم العالم الإسلامي إلى شذرات متصارعة وتقسيم كل شذرة إلى مكونات متنافرة ليس عرضًا قريبًا ولا سفرًا قاصدًا، والجهاد الاقتصادي في ظل طغيان نادي الواحد بالمائة المتوحش وسيطرته على المقدرات المالية والتجارية والموارد الطبيعية للعالم ليس عرضًا قريبًا ولا سفرًا قاصدًا، وقس على ذلك.

(وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون): وعند هذه الآية من سورة التوبة يبدأ أطول حديث في القرآن الكريم وأكثره تفصيلًا عن المنافقين -أعاذنا الله وإياكم من النفاق-، وأهمية فهم ظاهرة النفاق وأثرها في التاريخ وفي الواقع لا غنى للفقه الجهادي عنه، فهم الطابور الخامس للأعداء الذين يخذّلون الأمة ويضعفوها من الداخل على كل المستويات، وإذا تسلقوا مواقع البطانة في نظم حكمها لم يألوا الأمة خبالًا، كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر - آل عمران ١١٨)،  وإذا كانوا في صفوف المقاتلين لم تسلم الأمة من خبالهم: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة - التوبة ٤٧)، وخطورة المنافقين هو انخداع المؤمنين الطيبين حَسَني النية بهم، فمنافقو البطانة قال تعالى للمؤمنين عنهم: (ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم - آل عمران ١١٩)، ومنافقو الصفوف الجهادية قال تعالى للمؤمنين عنهم: (وفيكم سماعون لهم - التوبة ٤٧).

ولكن هناك استثناء من الحرج وبراءة من النفاق لحالة خاصة من التخلف عن الجهاد، وذلك في قوله تعالى: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم - التوبة ٩١). هذه حالات الضعفاء والمرضى و(الذين لا يجدون ما ينفقون). أما الضعف، فهو صفة أصيلة في الإنسان: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا - النساء ٢٨)، ولكنّ الضعف المقصود هنا هو افتقاد القوة التي بها يمكن للإنسان أن يحقق المقصود من الخروج إلى الغزو وهو النكاية في الأعداء، ولكن هذا الضعف الذي يمنع من القتال لا يمنع من النصح لله ورسوله ﷺ كما تأمر الآية. وأما المرض، فهو حالة تطرأ على صحة الإنسان تمنعه من الاشتراك في القتال، لأنه يفتقد للقوة مع مرضه أو لأن حالته المرضيّة ستسوء إذا خرج، وذلك شبيه بحالات المرض التي يؤخذ فيها بالرخص، مثل: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر - البقرة ١٨٥)، ولكن المرض الذي يمنع من القتال لا يمنع من النصح لله ورسوله ﷺ كما تأمر الآية. وأما (الذين لا يجدون ما ينفقون)، فكانت وما زالت حالة كثير من المؤمنين الذين يرغبون في القتال ولكنهم لا يملكون الإمكانات المادية التي تؤهلهم من التجهز له وليس هناك من يعينهم أو يحملهم، ولهذا كان الجهاد بالمال اليوم من أعظم القربات حتى يمكن لمن لا يجد إمكانات للتطوع للقتال أن يتطوع، ولكن افتقاد الوسائل الذي يمنع من دعم القتال ماديًا لا يمنع من النصح لله ورسوله ﷺ كما تأمر الآية.

(إذا نصحوا لله ورسوله): والنصح لله ورسوله الذي اعتبرته الآية تعويضًا عن عدم القدرة على الاشتراك فعليًا في القتال، هو زيادة على القوة الداخلية للأمة المجاهدة إذا لم يستطع المرء -رجلًا أو امرأة- أن يسهم في القوة الخارجية، وهذه القوة -التي يمكن أن تسمّى ناعمة بمصطلحات اليوم في مقابل القوة الخشنة في القتال- هي الصلابة القِيمية والتفوق الفكري والنقاء الأخلاقي للأمة، والنصح لله رسوله ﷺ في المفهوم القرآني توجيه الناس نحو كل أنواع الخير بدءً من أصل الإيمان بالله تعالى، إلى ما ينفعهم في حياتهم من منافع، وبيّنه النبي ﷺ في بعض ما رواه عنه أصحابه، فقال: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ)، قالوا: لمن؟ قالَ: (لله ولِكِتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ) [من حديث تميم الداري، مسلم ٥٥]، والأصل (ن ص ح) يعبر عن خلوص وتجرد وصفاء من الشوب والغلَظ، ومنه: (توبوا إِلى الله توبة نصوحا - التحريم ٨)، أي من القلب خالصة لله ليس فيها شوائب، ومنه الناصح وهو العسل الخالص من الشمع والشوائب، ومنه يقال الأرْض المنصوحة أي التي اكتفت من الماء النقي الصالح لزراعتها، ومعناه في الآية أنواع من الإرشاد والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويشمل أي جهد يبذله المرء لاقتراح المشروعات والمبادرات والأفكار والأبحاث وما إليها مما ينفع الأمة في جهادها. هذا إذن هو النصح الذي يعوض به كل مسلم غيابه عن ساحة القتال، بأن يشترك في الجهاد بمعناه الواسع، وفي كل صوره العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتعليمية والتربوية والصحية والبيئية. فإذا أحسن المسلم الجهاد في أي ضرب من ضروبه المذكورة فقد أعذر إلى الله تعالى: (ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم - التوبة ٩١). نسأل الله تعالى مغفرته ورحمته. اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا. اللهم كن لنا ولا تكن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، وخذّل عنا ولا تخذلنا. اللهم لا تدع لنا مجاهدًا إلا نصرته، ولا أسيرًا إلا فككته، ولا شهيدًا إلا تقبلته، ولا غمة إلا كشفتها برحمتك يا أرحم الراحمين.


: الأوسمة



السابق
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يندد بالتحريض على اغتيال الشيخ عكرمة صبري

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع