الدعاء من جنود الله
الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس
حثَّنا الله تعالى على الدُّعاء في كثير من آيات القرآن الكريم ، وأوصانا به صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه النبوية الشريفة ، والدعاء هو مناجاة الله تعالى وإظهار غاية التذلُّل والافتقار إليه والاستكانة والخضوع له ، وحقيقته أنه توجه المؤمن إلى ربه جل وعلا وتضرعه إليه طلباً للرحمة ورغبة بالعون والتوفيق في شؤون الدين والدنيا والآخرة ، وهو من أفضل العبادات في ديننا الحنيف ، قال صلى الله عليه وسلم { الدعاء هو العبادة } رواه ابو داود ، أي أنه روحها وجوهرها ولبها ، وفي رواية أخرى { الدعاء مخ العبادة } رواه الترمذي ، فبالمخ تكون القوة للجسم ولأعضائه .
فالدعاء هو سلاح المؤمن القوي وسط المشاكل والهموم والكروب التي يواجهها فى حياته ، وهو سر قوة العبادة لأن المؤمن يوقن أن الله عز وجل هو ملاذه الوحيد وملجأه الآمن ، وعنده وحده الأمل الذي لا ينقطع والرجاء الذي لا يخيب ، وبالإكثار من الدعاء والمداومة عليه يشعر الداعي بلذة القرب من الله تعالى وعمق الصلة به وعنوان التعلق به والإخلاص له في كل ما يعمل ، لذلك فهو سبب عظيم للخير وباب وأسع من أبوابه :
* فالدعاء من دلائل الإيمان ومن أسس إحكام الصلة بالله عز وجل وتوثيقها ، لأن المؤمن موقن بأنه يطلب ممن هو وحده أهل للعطاء ، ويتوجه إلى من بيده وحده الخير كله ، وأنه لا ناصر ولا رازق ولا حافظ ولا معين سواه ، وهذا يدفعه إلى طلب ذلك منه وحده على الدوام ، وهذا عنوان التقوى : أن يجدك الله حيث أمرك وأن لا يراك حيث نهاك ، فالإحجام عن الدعاء والتوسل إلى الله هو استكبار عن عبادته ودليل خللٍ في الإيمان بصفات الكمال التي يتصف بها الله عز وجل ، قال تعالى { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } غافر 60 .
* وبالدعاء يقضي الله عز وجل حوائج عباده ويؤتيهم من فضله العظيم ، وبه يدفع عنهم النوازل والمصائب والمحن والابتلاءات ، ويزيل من طريقهم العقبات والشدائد والمعوّقات ، قال سبحانه وتعالى { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ } النمل 62 .
* وفي الدعاء طمأنينة للقلوب وسكينة للأرواح وصفاء للنفوس ، وشعور المؤمن بالرضا عن الله عز وجل بعيداً عن القلق والضيق والاضطراب والحزن واليأس ، لأن المؤمن يكون بالدعاء قد أفضى إلى ربه بمعاناته وآلامه وشكواه التي يفيض بها قلبه مباشرة دون واسطة أو إذن من أحد ، فهو يوقن أن لا أحد يقف حاجباً على أبواب رحمة ربه يمنع هذا ويمنح ذاك ، قال تعالى { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } البقرة 186 .
* والدعاء يعلم المؤمن الصبر والاحتمال إذا حلت به المصائب وأقبلت عليه الشدائد ، لأنه يلجأ حينها إلى الله مصدر النصرة والحماية والرعاية ، فيصبر ويحتمل واثقاً بربه عز وجل منتظراً رحمته وفرجه القادر على كل شيء فهو الركن الشديد الذي يأوي إليه ويفوض امره إليه ، قال صلى الله عليه وسلم { إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء } رواه الترمذي .
* وبالدعاء يكون المؤمن قد أقر بالعبودية المطلقة لله ، وشكر نعمه التي لا تعد ولا تحصى ، ويكون قد أحس أيضاً بفضل الله عليه وإكرامه له ، مما يزيده نعماً وإكراماً من الله تعالى ، فبالشكر تدوم النعم .
يقبل المسلمون دوماً من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدعاء إلى الله تعالى ، بل من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، ويبتهلون إليه إذا ضاقت بهم الدنيا وضاقت عليهم ، والقرآن الكريم مليء بالأدعية التي وردت على لسان الرسل والأنبياء والصالحين ، فمن أدعية الرسل دعاء سيدنا نوح عليه السلام بقوله { ... رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّاراً } نوح 26-27 ، ومنها دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام بقوله { رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ } إبراهيم 35 ، ودعاء سيدنا موسى عليه السلام بقوله { ... قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } القصص 21 ، ومنها دعاء سيدنا يونس عليه السلام { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } الأنبياء 87 ، ومنها دعاء سيدنا لوط عليه السلام { رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ } العنكبوت 30 ، وأمر الله سيدنا محمد بالدعاء في مواضع كثيرة منها مثلاً قوله تعالى { قُلِ اللَّـهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } آل عمران 26 ،
وقد علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن ندعو الله في كل أوقاتنا : في الشدة والمصيبة والظروف الصعبة ، وفي أيام النعمة والرخاء والأمن ، ذلك أن الدعاء عنوان الصلة بالله ، والمؤمن يحرص في كل أحواله أن يكون على صلة وثيقة بالله سبحانه وتعالى ، فالشدة تشعره بأنه ضعيف وفقير إلى الله تعالى فالدعاء سلاحه لتفريج الشدائد والكرون ، والرخاء يشعره بفضل الله عليه وأن النعمة لن تدوم إلا بفضل الله ورحمته وشكره ، أما من يعرض عن الدعاء وقت الرخاء فالغرور بالمتاع الدنيوي الزائل كالمال أو السطوة والسلطة والجاه هو الذي يمنعه ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم { من سره أن يستجيب الله له في الشدة فليكثر من الدعاء في الرخاء } رواه الترمذي ،
ومن أدعيته صلى الله عليه وسلم في الشدائد ما كان في بدر ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه { نظر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى أصحابه وهم ثلاث مئة ونيف ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة ، فاستقبل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم القبلة ، ثم مد يديه وعليه رداؤه وإزاره ثم قال : اللهم أين ما وعدتني؟ اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً ، قال فما زال يستغيث ربه عز وجل ويدعوه حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رداءه فرَدَاهُ ، ثم الْتزمه من ورائه ثم قال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك ، وأنزل الله عز وجل "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين" الأنفال 9 ، فلما كان يومئذ والْتَقَوْا فهزم الله عز وجل المشركين ... } رواه مسلم .
وبعد انكفاء المشركين من أحد وما أصاب المسلمين يومها من شدة قال صلى الله عليه وسلم { اسْتَوُوا حتى أثني على ربي عز وجل ، فصاروا خلفه صفوفاً فقال : اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت ، ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ، ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت ، ولا مقرب لما باعدت ولا مبعد لما قربت ، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك ، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ، اللهم إني أسألك النعيم يوم العَيْلة والأمن يوم الخوف ، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا ، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين ، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين ، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك ... } رواه أحمد والنسائي .
وفي يوم الخندق دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب بقوله { اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وزلزلهم } رواه البخاري ، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه { قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر ؟ قال نعم : اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ، قال : فضرب الله عز وجل وجوه أعدائنا بالريح ، فهزمهم الله عز وجل بالريح } رواه أحمد ، وفي نهاية الغزوة دعا عليهم صلى الله عليه وسلم بقوله { ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس } رواه البخاري .
ويشترط لقبول الدعاء مجموعة من الشروط ، منها :
* أن يكون المؤمن ملتزماً أحكام الله وشرعه حريصاً على رضاه بطاعة أوامره ، وأن يكون بعيداً عما يغضبه بترك نواهيه والبعد عن كل المعاصي والآثام ، وقد { ذكر لنا الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنَّ يستجاب لذلك } رواه مسلم
* ألاَّ يدعو المؤمن بإثم أو قطيعة رحم أو بكل ما هو محرم ، قال صلى الله عليه وسلم { لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قَطيعة رحم ... } رواه مسلم ، ويستثنى من ذلك المظلوم فدعوته ليس بينها وبين الله حجاب ، قال تعالى { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيماً } النساء 148 ، وقال صلى الله عليه وسلم { ثلاثة لا ترد دعوتهم : الصائم حين يفطر ، والإمام العادل ، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب : وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين } رواه الترمذي .
* أن يدعو المؤمن وهو موقن بالإجابة وأن الله لن يرده خائباً ، قال صلى الله عليه وسلم { ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهـٍ } رواه الترمذي ، وإجابة الدعاء قد تكون بأن يعجل الله تعالى لعبده الداعي ما سأله من ربه ، وقد تكون بأن يصرف عنه من السوء مثله ، وإما أن تكون بادخاره له أجراً وثواباً ودرجات يوم القيامة ، واستعجال الإجابة آفة الدعاء وتركه بسبب ذلك دليل اليأس ، قال صلى الله عليه وسلم { يستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَل ، يقول دعوتُ فلم يستجب لي } رواه البخاري .
* ان يدعو الله عز وجل بما شاء مهما كان عظيماً فإنه لا مستحيل عليه ، قال صلى الله عليه وسلم { إذا دعا أحدكم فلْيَعْزِمْ المسألة ولا يقولَنَّ اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له } رواه البخاري ، وقال في المعنى ذاته { إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ، ولكن لْيعزمْ المسألة ولْيعظمْ الرغبة ، فإن اللَّه لا يتعاظمه شيء أعطاه } رواه البخاري ، ومعنى عزم المسألة أي الشدة والجزم في طلبها من غير ضعف أو تعليق على مشيئة ونحوها ، ومعني ليعظم الرغبة أي يبالغ في طلبها ويكررها مهما عَظُمَتْ أو كثرت .
* أن يتخير لدعائه أفضل أوقات الاستجابة ، التي منها يوم عرفة وشهر رمضان المبارك وليلة القدر ، وعقب الصلوات وفي وقت السحر وعند نزول المطر ، وعند الجهاد والالتحام مع الأعداء فهو وقت شدة وكرب ، قال صلى الله عليه وسلم { ثنتان لا تُردَّان أو قلَّما تُردان : الدعاء عند النداء ، وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً } رواه أبو داود ، فالله سبحانه وتعالى يتجلى في هذه الأوقات على عباده بالرضا والرحمة والمغفرة لإقبالهم عليه والانشغال بعبادته وتضحيتهم الصادقة في سبيله وإعلاءً لكلمته .
فلْنتوجه إلى الله دوماً وبالأخصّ في هذه الأيام بالسؤال والطلب والإلحاح أن ينصر شعبنا المظلوم الذي تكالبت عليه أعداؤه وأعداء الله وأعداء الأمة ، ندعوه أن ينصره في مصابرته ومرابطته في أرضه المقدسة وعلى تراب وطنه السليب في القدس وفي غزة وفي سائر فلسطين ، وأن يتقبل تضحياته وجهاد أبنائه الشهداء والجرحى والأسرى ، فالدعاء أصلاً والاستغاثة بالله هو سبب لثباتهم وتمسكهم بقضيتهم العادلة ، وهو من أعظم أسباب نصرهم لأنهم يعلمون يقيناً أن ربهم جل وعلا قريب مجيب لن يردهم خائبين ، وسينجز لهم ما وعد به المجاهدين في سبيله ، وفي دعائنا مؤازرة لهم عند العجز عن نصرتهم فالدعاء من جند الله ، قال تعالى { ... وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ... } المدثر 31 .