تفكيك منظومات الاستبداد (٢٤): جذور دعم المسيحية المتعصبة لحرب الإبادة الصهيونية
ا.د. جاسر عودة
—
للدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله نظرات تأسيسية في موسوعته ذات الأهمية التاريخية ”اليهود واليهودية والصهيونية“، تعيننا على فهم جذور ”الأيديولوجية الإمبريالية الإبادية“ على حد تعبيره، والتي تفسر سر دعم المسيحية المتعصبة المعاصرة لحرب الإبادة التي نشهدها في فلسطين، وقد أكد الدكتور المسيري رحمه الله إن ”الأيديولوجية الإمبريالية الإبادية“ تختلف عن القيم المسيحية المطلقة مثل المحبة والإخاء، بل إنها تجاهلت القيم المسيحية واستهدفت سيادة الرجل الأبيض على العالم بأي ثمن بشرِي، فكتب رحمه الله يقول (نقتبس من: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، القاهرة: دار الشروق، ١٩٩٩م: ٥ / ١٥٧-١٧٢):
”لنركز على التجربة الاستيطانية الغربية في جميع أنحاء العالم، خصوصًا في أمريكا الشمالية، وهي تجربة كانت تفترض ضرورة إبادة تلك العناصر البشرية الثابتة التي كانت تقف عقبة كَأْداء في طريق الإنسان الغربي وتحقيق مشروعه الإمبريالي. وقد قبلت الجماهير الأوربية عملية الإبادة الإمبريالية وساهمت فيها بحماس شديد، لأن هذه العملية كانت تخدم مصالحها كما أوهمتها الدول الإمبريالية ذات القبضة الحديدية في الداخل والخارج. وتُعدُّ العقيدة البيوريتانية (أو التطهرية) عقيدة المستوطنين البيض في أمريكا الشمالية هي أولى الأيديولوجيات الإمبريالية الإبادية التي كانت تغطيها ديباجات دينية كثيفة. فكان هؤلاء المتطهرون يشيرون إلى الوطن الجديد باعتباره «صهيون الجديدة» أو «الأرض العذراء» فهي «أرض بلا شعب»، وكان المستوطنون يشيرون إلى أنفسهم باعتبارهم «عبرانيين»، وللسكان الأصليين باعتبارهم «كنعانيين» أو «عماليق» (وكلها مصطلحات توراتية إبادية، استخدمها معظم المستوطنين البيض فيما بعد في كل أرجاء العالم متجاهلين تمامًا القيم المسيحية المطلقة مثل المحبة والإخاء). وكان كل هذا يعني في واقع الأمر إبادة السكان الأصليين حتى يمكن للمستوطنين البيض الاستقرار في الأرض الخالية الجديدة! وقد تم إنجاز هذا من خلال القتل المباشر أو نقل الأمراض المختلفة .. وكانت الحكومة البريطانية في عصر الملك جورج الثالث تعطي مكافأة مالية لكل من يحضر فروة رأس هندي قرينة على قتله، واستمرت هذه التقاليد الغربية الإبادية بعد استقلال أمريكا، بل تصاعدت .. (يُقدر البعض أن العدد الفعلي الذي تم إبادته منذ القرن السادس عشر حتى بداية القرن العشرين قد يصل إلى عشرات الملايين). وقد تكرر نفس النمط في أستراليا التي كان يبلغ عدد سكانها الأصليين ٢ مليون عند استيطان البيض للقارة في عام ١٧٨٨ لم يبق منهم سوى ٣٠٠ ألف. ولا تزال عملية إبادة السكان الأصليين مستمرة في البرازيل وأماكن أخرى (وإن كان بشكل أقل منهجية وخارج نطاق الدولة). وترتبط بالتجربة الاستيطانية في أمريكا الشمالية عمليات نقل ملايين الأفارقة السود للأمريكتين لتحويلهم إلى عمالة رخيصة، وقد تم نقل عشرة ملايين تقريبًا، ومع هذا يجب أن نتذكر أن كل أسير كان يقابله بوجه عام عشرة أموات كانوا يلقون حتفهم إما من خلال أسباب «طبيعية» بسبب الإنهاك والإرهاق وسوء الأحوال الصحية أو من خلال إلقائهم في البحر لإصابتهم بالمرض. وكانت أعمال السخرة الاستعمارية في أفريقيا ذاتها لا تقل قسوة .. ويمكن أن نتذكر أيضًا حفر قنال السويس بنفس الطريقة وتحت نفس الظروف وبنفس التكلفة البشرية. وقد ورد في إحدى الدراسات أن عدد المواطنين الأوربيين الذين لهم علاقة بعمليات التطهير العرْقي والإبادة داخل أوربا (إما كضحايا أو كجزارين) يصل إلى مائة مليون، فإذا أضفنا إلى هذا عدد المتورطين في عمليات القمع والإبادة الاستعمارية في الكونغو وفلسطين والجزائر وفيتنام وغيرها من البلدان فإن العدد حتمًا سوف يتضاعف. ولكن الإمكانية الإبادية الكامنة التي تحققت بشكل غير متبلور وجزئي في التجربة الإمبريالية والاستيطانية الغربية، تحققت بشكل نماذجي كامل في الإبادة النازية أو في «اللحظة النازية النماذجية» في الحضارة الغربية .. وكما يقول المؤرخ جون تولاند إن هتلر، في أحاديثه الخاصة مع أعضاء الحلقة المقرَّبة إليه، كثيرًا ما كان يعبِّر عن إعجابه بالمستوطنين الأمريكيين وطريقة "معالجتهم" لقضية الهنود الحمر .. ولذا في مجال تبريره للحرب الشرسة التي شنها على شرق أوربا قال هتلر: "إن هناك واجبًا واحدًا: أن نؤلمن هذه البلاد من خلال هجرة الألمان الاستيطانية وأن ننظر إلى السكان الأصليين باعتبارهم هنودًا حمرًا". ولعل أكبر دليل على أن الإبادة إمكانية كامنة، تضرب بجذورها في الحضارة الغربية الحديثة، أنها لم تكن مقصورة على النازيين وإنما تشكل مرجعية فكر وسلوك الحلفاء، أعداء النازيين الذين قاموا بمحاكمتهم بعد الحرب! .. (وتشبه في كثير من الوجوه الحملة التي شنها الغرب ضد العرب في الستينيات والتي يشنها ضد المسلمين والإسلام في الوقت الحاضر) .. ومثل هذا الحديث لا يختلف كثيرًا عن الحديث عن عبء الرجل الأبيض وعن الخطر الإسلامي .. كما يجب أن نتذكر عمليات الإبادة التي قام بها النظام الستاليني ضد الشعوب الإسلامية في الخانات التركية (التي أصبحت الجمهوريات السوفيتية الإسلامية). وكان عدد شعب التتار وحده يساوي عدد سكان روسيا، أما الآن فهو لا يُكوِّن سوى نسبة مئوية ضئيلة، ومصيره بهذا لا يختلف كثيراً عن مصير السكان الأصليين في أستراليا وأمريكا الشمالية. وقد استمر النظام الستاليني في عمليات الإبادة المنهجية والمنظمة .. وبعد حوالي نصف قرن لا تزال عمليات الإبادة والتطهير العرْقي على قدم وساق في البوسنة والهرسك والشيشان ولا تزال بعض الدول الغربية تراقب هذا بحياد غير عادي .. وقد بلغت سطوة هذا المفهوم [أي مفهوم الشعب صاحب الرسالة] حدًا جعلته يبتلع المنظومة الدينية نفسها، فاختلطت الديباجات الدينية بالقيم القومية، بحيث تطلَّب الانتماء للشعب العضوي الألماني الانتماء إلى المسيحية البروتستانتية ..“. انتهى الاقتباس.
وقد اقتبست هنا مطولًا من الدكتور المسيري رحمه الله لنقارن بين المعركة القديمة في عصر الرسالة مع المسيحية الرومانية حين تخلت عن قيمها وقتلت سفير النبي ﷺ إليها واستكبر أساقفتها على نصيحة هرقل باتباع الإسلام وبين ما نراه اليوم من سياسات مسيحية الرجل الأبيض الإمبريالية الإبادية بتعبير المسيري، والتي يقبع في قلبها اليوم أباطرة الربا وعائلات المُلْك وتجار الدين.
ونقرأ في سورة التوبة: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون - التوبة ٨١)، وسورة التوبة في عمومها تتناول أحداث غزوة تبوك -أو غزوة العسرة- في شهر رجب سنة تسع هجرية، وهذه الآية منها تشير إلى الطقس الحار في نهاية الصيف، وهو التوقيت الذي اختار فيه النبي ﷺ أن يجمع هذا الجيش الكبير -نحو ثلاثين ألف جندي- والتوجه لقتال الروم، رغم ما هو معهود من القيظ في ذلك الموسم في جزيرة العرب، مما جعل مجرد الرحلة إلى أرض المعركة ”ساعة عسرة“ كما تصفها هذه السورة. والسؤال: لماذا اختار النبي ﷺ هذا التوقيت الصعب وهذا الجيش الضخم؟ إجابته أنه أراد أن يكون الرد سريعًا ومتكافئًا على ما جمعه الروم لمهاجمة المسلمين، نظرًا لخطورة التهديد الصليبي في ذلك السياق وميله إلى الإبادة في سياساته الاحتلالية.
ولنقرأ من السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون لنور الدين الحلبي، ٣/١٨٣): ”بلغ رسول الله ﷺ أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام، وأنهم قدموا مقدماتهم إلى البلقاء المحل المعروف. وذكر بعضهم أن سبب ذلك أن متنصّرة العرب كتبت إلى هرقل: إن هذا الرجل الذي قد خرج يدعي النبوّة هلك وأصابت أصحابه سنون أهلكت أموالهم. فبعث [أي هرقل] رجلا من عظمائهم وجهز معه أربعين ألفا“. وهذا التجهيز الضخم لم يكن سرًا أنه كان يستهدف المدينة نفسها ليبيد أهلها.
وقد جمع الشيخ المباركفوري بين الروايات وصوّر مقدمات غزوة تبوك، وكتب رحمه الله يقول (الرحيق المختوم، ٣٩٤): ”بداية هذا التعرض كانت بقتل سفير رسول الله ﷺ الحارث بن عمير الأزدي على يدي شرحبيل بن عمرو الغساني، حينما كان السفير يحمل رسالة النبي ﷺ إلى عظيم بصرى، وأن النبي ﷺ أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بالرومان اصطدامًا عنيفًا في مؤتة، ولم تنجح في أخذ الثأر من أولئك الظالمين المتغطرسين، إلا أنها تركت أروع أثر في نفوس العرب، قريبهم وبعيدهم. ولم يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من الأثر الكبير لصالح المسلمين، وعما كان يطمح إليه بعد ذلك كثير من قبائل العرب من استقلالهم عن قيصر ومواطأتهم للمسلمين، إن هذا كان خطرًا يتقدم ويخطو إلى حدوده خطوة بعد خطوة، ويهدد الثغور الشامية التي تجاور العرب، فكان يرى أنه يجب القضاء على قوة المسلمين قبل أن تتجسد في صورة خطر عظيم لا يمكن القضاء عليها، وقبل أن تثير القلاقل والثورات في المناطق العربية المجاورة للرومان. ونظرًا إلى هذه المصالح لم يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة، حتى أخذ يهيئ الجيش من الرومان والعرب التابعة لهم من آل غسان وغيرهم، وبدأ يجهز لمعركة دامية فاصلة، وكانت الأنباء تترامى إلى المدينة بإعداد الرومان للقيام بغزوة حاسمة ضد المسلمين، حتى كان الخوف يتسوّرهم كل حين، لا يسمعون صوتًا غير معتاد إلا ويظنونه زحف الرومان“.
إذن، الخروج في حر آخر الصيف بأكبر قوة ممكنة لم يكن سوء تخطيط ولا خبط عشواء، وإنما كان ضرورة عسكرية وسياسية لمواجهة ما سماه أستاذنا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ”المسيحية المتعصبة“. كتب رحمه الله في فقهه للسيرة عن غزوة تبوك بصعوبتها وتوقيتها الحرج يقول (فقه السيرة، ٤٣٥-٤٣٦):
”الذي يعترض زحف الإسلام إلى الشمال يجب أن يسأل نفسه قبل ذلك: لم سكت عن زحف الرومان إلى الجنوب؟ وعن الطريقة التي يباشرون بها حكم هذه الأقطار المغلوبة على أمرها؟ والمقارنة المنصفة تجعل ما يطلبه النبي ﷺ شيئًا لا غبار عليه. دعُوا العقائد المختلفة تبين عن نفسها وتجذب الشعوب إليها أو تصرفهم عنها. لكن هذا الطلب قوبل بالرد المسلح. فلا دولة الروم تفتح أبواب المصيدة عن الفرائس التي تضطرب بين جدرانها ولا كنيسة الروم ترحب بهذا الجو الجديد. قلنا في كتابنا ”التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام“ في صدد غزوة تبوك: والكنيسة لا تطيق أن يعيش بجانبها رأي يخالف في الفروع التافهة فكيف تسمح بالبقاء لدين ينكر سلطة رجالها؟ لأنه لا يرى بين العباد وربهم وسائط وينكر عقيدة الفداء التي تتركز عليها لأنه يبني الجزاء على عمل الإنسان وحده. فليس للإنسان إلا ما سعى، ولا تزر وازرة وزر أخرى. ثم هو ينكر مبدأ الشركة في الألوهية، فليس للعالم إلا رب واحد يخضع له عيسى وأمه. لذلك رأى الروم أن يعيدوا الكَرة ويضربوا الإسلام في شمال الجزيرة ضربة تردّه من حيث جاء، وتوصد عليه أبواب الحدود فلا يستطيع التسرب منها. وتضمن الكنيسة بعدئذ انفرادها بالضمير البشري، حتى إذا قرعت أجراسها لم يشب رنينها صدى لمؤذن يهتف بتكبير الله وتوحيده ويدعو للصلاة والفلاح .. وقتال الروم ليس صدامًا مع قبيلة محدودة العدد والعدة، بل هو كفاح مرير مع دولة تبسط سلطانها على جملة قارات وتملك موارد كثيرة من الرجال والأموال. على أن أصحاب العقيدة لا ينكصون أمام الصعاب، والسكوت على تحدي النصارى لهذا الدين ورغبتهم الملحة في القضاء عليه يعتبر انتحارًا وبوارًا، فليتحامل المسلمون على أنفسهم إذن ليواجهوا مستقبلهم بما يفرض من تحديات وتفديات“.
والشيخ الغزالي رحمه الله كتب هذا الكلام منذ عقود وهو واع بالدروس التي تنطوي عليها هذه الغزوة في سياق المواجهة المعاصرة بين الإسلام و”المسيحية المتعصبة“ كما سماها ليس فقط في سياق بعض الجماعات المتطرفة المتآمرة من المسيحيين العرب -وكان للشيخ معهم صولات وجولات خاصة في مصر-، بل إن الذي يدرس واقع النظام العالمي الحالي بشيء من العمق سوف يدرك أن المستوى الأعلى من الطغيان في عالمنا هو النظام العنصري الاحتلالي (الكولوني أو الإمبريالي كما يقال باللاتينية) الذي يمثّل تلك المسيحية المتعصبة نفسها! هكذا نفهم جذور تلك السياسات التي نشهدها من حكومات أوروبية وأمريكية، والتي لا يمكن أن توصف إلا بأنها امتداد طبيعي وواضح لكل ذي عينين لسياسات الإبادات التاريخية على طريقة ”الأيديولوجيات الإمبريالية“ بتعبير المسيري رحمه الله في موسوعته عن الصهيونية المعاصرة ودورها بالأساس كأداة في يد ”الأيديولوجيات الإمبريالية“.
(ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين - الأنفال ٣٠).
—