تفكيك منظومات الاستبداد (٢٥): إما اعتدلت وإما اعتزلت - دعوة لإحياء الربيع العربي!
ا.د. جاسر عودة
—
نعم! كان ربيعًا ولو دارت عليه الأيام سريعًا فتحول إلى شتاء قارس، ولكنه كان شرعيًا وكان كاشفًا وكان مصيريًا وكان مدرسة تعلمنا منها الكثير رغم الثمن الباهظ. الربيع العربي قامت شرعيته على أساس أن حكام المسلمين -في التصور الإسلامي- ليسوا فئة مختلفة عن الأمة، بل مكاناتهم وامتيازاتهم منوطة بأن يخدموا الأمة ويمثلوا إرادتها. لا يمكن أن تكون الأمة في واد وحكام الشعوب المسلمة -إلا حالات نادرة- في واد، وكأنهم يعلمون ما لا نعلم ويفهمون ما لا نفهم، وإلا طالبتهم شعوبهم بتحمل مسؤولياتهم أو التنحي!
في مثل موقف الحرب التي يراد بها الإبادة الجماعية لمئات الألوف من الناس -وهو ديدن لا يتخلف عن الحروب الصليبية كما قلنا في المقالة السابقة- تأتي لحظة إثبات أحقية القيادة، ويحين أوان دفْع حكام المسلمين لثمن ما يحوزونه لأنفسهم من مقدرات الأمة بصفتهم حكامها. المعادلة الشرعية ليست هي "التغلب" على الشعوب المستضعفة بالسلاح لكي يحكمها حكامها حكم كسرى وقيصر. هذه بدعة ظهرت في بلاد المسلمين منذ القرن الأول الهجري للأسف، وكانت بدعة باطلة وستظل بدعة باطلة. شرعية الحكام -وسلطاتهم وامتيازاتهم وعدم الخروج عليهم- منوطة بإثبات أنهم حريون بهذه المكانة ويقومون بأبسط واجباتها، وإلا عزلتهم الأمة أو أهل الحل والعقد فيها من العلماء الشرفاء وأصحاب الرأي وأصحاب الدين والشأن والخبرة والنسب، حسب السياقات المختلفة للدول المختلفة. هذا هو مقتضى فقه السياسة الشرعية، وهذا ما ننادي به اليوم.
هو النداء الخالد للخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز لأحد ولاة الجور: "إما اعتدلت وإما اعتزلت". وليس للأمة عمر ولا خلافة اليوم، ولكن الخليفة على أي حال إنما هو نائب عن الأمة وناطق باسمها وممثل لإرادتها ومفوّض عنها، والأمة موجودة لم تمت، ويمكن أن تنطق عن نفسها إن لم ينطق عنها أحد، وحري بها أن تخرج فتقول لولاتها: "إما اعتدلت وإما اعتزلت".
أيها الشباب الواعي من أمتنا المجيدة! لا يمكن أن تتغير خطة إبادة وتغيير لخريطة منطقة بأكملها كما نرى بأم أعيننا، في قتل وتهجير شعب كامل -والآن لا مجال لإنكار هذه الأهداف وقد أصبحت معلنة- لا يمكن أن يتغير هذا المسار بمزيد من الاحتجاجات المدنية التقليدية والتغريد على منصة إكس وتبادل الرسائل الحماسية على واتساب وصنع الفيديوهات على يوتيوب، خاصة في الدول غير "الديمقراطية" حيث لا تمثل تلك الاحتجاجات المدنية التقليدية أصواتًا انتخابية ولا مصالح اقتصادية ولا ضغطًا ذا بال. هذه الأفعال قد فات أوانها اليوم. ولا يحتمل أن يكون رد الحكام الفارغ بأنهم يحافظون على أمن بلادهم! لأن هذا يعني انفراد الغزاة بالبلاد واحدًا تلو الآخر -إلا الذي يسجد لهم ويقدم فروض الطاعة والولاء-. اقرأوا التاريخ وستجدون سيناريو الأندلس يعود بحذافيره، هي قصة الثور الذي قال حين عاد موعد أكله: "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض". لا ينبغي أن تغيب هذه الحقائق عن الشباب الواعي من أمتنا المجيدة!
الحق الذي لا مراء فيه هو أنه لا بديل اليوم عن أفعال لا تملكها إلا الحكومات في الدول الوطنية الحديثة، والحديث تحديدًا هو عن أمرين: ١ - العقوبات الاقتصادية و ٢ - الفعل العسكري، ولابد أن تنهر الأمة بكل شعوبها حكامها في الدول المختلفة عن مجرد الكلام السياسي والخطاب الذي يناسب التظاهرات والاحتجاجات المدنية! غير مقبول أن يخرج حكام المسلمين فيغردوا على منصة إكس أو يهتفوا على اليوتيوب أو يتظاهروا أمام السفارات أو يقفوا وقفة جماعية في الأمم المتحدة أو يعلقوا الشارات ويلبسوا الكوفيات ويرفعوا الأعلام كما يفعل المدنيون! ما هذا؟
الحكام يا سادة ليسوا مواطنين مدنيين عاديين. الحكام في الدول الحديثة -أيها الشباب الواعي من أمتنا المجيدة- دورهم أن يملكوا مفاتيح الاقتصاد (اتفاقات التجارة، والمواد الخام من غاز وبترول ومعادن، وأموال البنوك، والموارد البشرية، إلى آخرها) وأن يملكوا القرار العسكري والأمني (بما فيه الأمن المعلوماتي والغذائي والبيئي والمائي، إلى آخرها). الحكام يا سادة -واختلاف أشكال الحكومات وأنواعها من ملكيات وجمهوريات لا يهم- هم المفوضون من شعوبهم ومن الأمة عمومًا بإدارة هذه الملفات نيابة عن الناس وليس افتئاتًا عليهم ولا جبرًا لهم. لابد أن نوجه كشعوب إسلامية رسالة "إما اعتدلت وإما اعتزلت" لحكام المسلمين، أي أرونا ماذا فعلتم بمقدراتنا الاقتصادية والعسكرية نيابة عنا في معركتنا المصيرية الجارية؟
ننادي الشعوب العربية خصوصًا بالخروج لإحياء الربيع العربي، والعودة إلى الهتاف الخالد: الشعب يريد! في هذه المرة: الشعب يريد إغاثة فلسطين! الشعب يريد عقاب المعتدين! الشعب يريد ردع الغزاة! الشعب يريد حفظ المسجد الأقصى! وإلا: فالشعب يريد إسقاط النظام!
—