تفكيك منظومات الاستبداد (٢٦): ما أشبه الليلة بالبارحة
ا.د. جاسر عودة
—
إذا أردنا توصيفًا واعيًا للواقع من منطلق إسلامي فهو التالي: الحرب الجارية هي حرب على الإسلام كدين وحضارة، تخوض هذه الدورة منها قوى الاستكبار العالمية المعاصرة في قلب الأمة الإسلامية في فلسطين، مستخدمين الكيان الصهيوني كمجرد أداة لتحقيق أهداف إمبراطورية الرجل الأبيض في التوسع والهيمنة، وهي أداة سوف يستعملونها حينًا ثم يضحّون بها ويغسلون أيديهم من عار ما تفعل في تلك الحرب. والأيام بيننا لمن يشكك في هذه الحقيقة.
والحرب الجارية حرب كاشفة وفاضحة للمنافقين من أفراد الأمة ومن حكام دويلاتها، ذلك لأن الولاية بمعنى النصرة للكافرين على المؤمنين في الحرب دليل لا ريب فيه على أن الموالين منافقون خُلَّص ليسوا من دين الله في شيء، وهذا هو التنزيل الواقعي اليوم لقول الله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء - آل عمران ٢٨)، وقد شهدنا في التاريخ البعيد والقريب سنة إلهية ماضية، وهي أن تفرق أهل الحق وانقسامهم إلى دويلات متنازعة واستعانة بعض تلك الدويلات بأعداء الإسلام على البعض الآخر هو بداية النهاية لهم جميعًا. ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة من التاريخ البعيد والقريب.
تفرقت أمة الإسلام أيام كان بنو إسرائيل يحملون راية الإسلام -مع ملاحظة انتقال هذه الراية من بعد إلى أمة محمد ﷺ بعد بعثته ﷺ وتحويل القبلة إلى مكة-، بدأ ذلك بوفاة سيدنا سليمان عليه السلام فتفرقت مملكته إلى ممالك متنازعة، فاستقل يربعام بمملكة الشمال التي سموها إسرائيل واستقل رحبعام بمملكة الجنوب التي سموها يهود أو يهوذا -وأخذوا بالمناسبة منها الاسم الذي اخترعوه لديانة جديدة لم تكن معروفة قبل تلك الدولة إلا باسم دين الإسلام-، وسرعان ما تقاتلت المملكتان إسرائيل ويهودا في أواخر القرن العاشر قبل الميلاد على أطماع الحكام المنافقين وسفاهاتهم، فلما أحس الجنوبيون من بني إسرائيل بانهزامهم من الشماليين من بني إسرائيل ذهبوا فتحالفوا مع الآراميين الوثنيين في دمشق للتغلب على إخوانهم من قومهم ودينهم، وكانت النتيجة أن غزا الآراميون المملكة الشمالية بعد غزوها أولًا على طريقة الغزو الثقافي كما نقول في عصرنا، وذلك بأن نشروا الوثنية في عقائدها فعاد بنو إسرائيل إلى عبادة العجول الذهبية ونشروا الانحرافات في أخلاق مجتمعاتها من زنا وخنا وفجور، وكان الأوان قد فات حين اكتشف ملوك المملكتين المتنازعتين -إسرائيل ويهودا- أنه كان عليهم أن يتحالفوا لحرب آرام دمشق الوثنية يدًا واحدة، ولكنهم كانوا قد ضعفوا عقديًا فعبدت شعوبهم الأوثان الذهبية التي كان حكامهم يبنونها لهم ليلهوهم بها، وضعفت أخلاقهم بعد أن انتشر فيهم الترف وأنواع الفواحش، ومضت سنن الله تعالى عليهم بأنهم خلال عقود من بعد سليمان عليه السلام كانت طوائف بني إسرائيل كلها قد هُزمت وذهب ملكهم شمالًا وجنوبًا وتشتتوا في الأرض. ما أشبه الليلة بالبارحة مع دويلات الإسلام اليوم.
ونقرأ في تاريخ دول الإسلام بعد عصر الخلافة الراشدة القصة تتكرر كَرة بعد كَرة، فها هي مثلًا علاقات الود والسلام والتعايش والوئام بين هارون الملك العباسي وشارلمان ملك الفرنجة، في نفس الوقت الذي حارب فيه شارلمان نفسه الدولة الأندلسية المسلمة وإمارة صقلية المسلمة في عشرات الغارات، دون أن يجد هارون العباسي إشكالًا في هذا ما دام شارلمان يحارب الدولة الأموية عدوتهم التاريخية اللدود. وردّ الحَكَم الثاني الملك الأندلسي أيامها بالتحالف مع نِقْفور الأول الملك البيزنطي، الذي كان بدوره محاربًا للدولة العباسية في نفس عهد هارون، ولم يجد الحَكَم الثاني غضاضة في أن يحارب نِقْفور الدولة العباسية عدوتهم التاريخية اللدود. ولا يخفى كيف أن ذلك العصر كان هو نفسه بداية الانحدار ثم السقوط للحضارة الإسلامية جميعًا شرقها وغربها، عباسيّها وأندلسيّها. وما أشبه الليلة بالبارحة.
ثم نقرأ كيف سقطت الدولة الأيوبية في القرن السابع الهجري بعد وفاة القائد البطل صلاح الدين الأيوبي الكردي رحمه الله، حين انقسمت دولته من بعده بين الكامل في مصر، والمعظم عيسى في دمشق، والأشرف موسى في باقي الشام، وكيف استعان كل منهم بأعداء الإسلام على إخوته في الإسلام، وكان على رأس ذلك الفضيحة التاريخية بتنازل الملك الكامل -وهو اسم علي غير مسمى كعادة الحكام الطغاة- عامدًا متعمدًا عن بيت المقدس كرشوة لفريدريك الثاني عام ٦٢٥ هـ ثمنًا لمساعدته ضد أخيه المعظم، بيت المقدس نفسه الذي بذل صلاح الدين وبذلت معه الأمة الغالي والنفيس لتحريره قبل ذلك باثنين وأربعين عامًا فقط. ثم استقوى الملك الأشرف -وهو اسم آخر على غير مسمى- بالصليبيين على إخوانه المسلمين، وهلم جرًا حتى سقطت دولهم جميعًا خلال عقود، وما أشبه الليلة بالبارحة.
ونقرأ في مرحلة الانحطاط من تاريخ الأندلس المجيدة كيف استعانت الدويلات الإسلامية الأندلسية كأشبيلية وطليطلة وسرقسطة بالملوك الأسبان على بعضهم البعض في مقابل أراضي وقلاع وأموال، إلى أن استقوى الكفار واتحدوا وأزالوا ممالك المسلمين كلها بعد ثمانية قرون من المجد الأندلسي، بل أزالوا الوجود الإسلامي كله وقتلوا وطردوا المسلمين من الأندلس إلى آخر رجل وامرأة وطفل، ثم دعم الملكان فرديناند وإيزابيلا السفاح كولومبس في أسطول بحري ليزيل الوجود الإسلامي -الأندلسي والأفريقي- من قارتي أمريكا أو الأرض الكبيرة كما كانت معروفة في ذلك العصر، ثم زعموا أنهم اكتشفوا أمريكا وحذفوا ذكر المسلمين الأصليين من تاريخ أمريكا أصلًا، فأصبح تاريخًا لا يعرفه أحد، وكل ذلك من مآلات مخالفة الأمر الصريح: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين).
واليوم يعيش العالم العربي في ظل نظام سياسي تشظت فيه الدول الإسلامية إلى عشرات الدويلات المتنازعة، بدأ هذا الوضع الغريب بمعاهدة سايكس-بيكو، التي وقعها الوزيران الفرنسي بيكو والبريطاني سايكس ليقتسما غنائم حقبة الاحتلال -الذي سموه زورًا بالاستعمار- ليصنعا بذلك عالمًا جديدًا يستمر فيه الاحتلال وإنْ كان في صور جديدة سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية، على أن يزخرف ظاهرها وطنيات زائفة وقوميات وهمية وتواريخ مفتراة تحلّ محل الهوية التاريخية السياسية الإسلامية وتحاربها.
وقد وصل سايكس وبيكو لاتفاقية سرية عام ١٩١٦م بمباركة من الإمبراطورية الروسية وقتها تقضي باقتسام الهلال الخصيب وبلاد الشام بين فرنسا وبريطانيا، ثم كشف عن تلك الاتفاقية الشيوعيون حين حكموا روسيا بعدها بعام، مما أثار الشعوب العربية شيئًا ما، ولكن التقسيم مضى على أي حال -مع غياب الشعوب عن صنع مقدراتها وضعفها العام في ذلك الوقت- بمؤتمر سان ريمون عام ١٩٢٠م، ثم بغيره من المعاهدات مثل معاهدة لوزان عام ١٩٢٣م، ورسمت تلك الاتفاقيات ومثيلاتها في ما تلا ذلك من عقود حدودًا -خاصة مع مؤامرة انهيار الخلافة الإسلامية العثمانية وتحولها بدورها إلى دولة وطنية محدودة- ظهرت لأول مرة في تاريخ المسلمين كحدود لدول -بل دويلات- ذات سيادة كما يزعمون، وهذه هي الحدود الحالية لما يسمى اليوم بدول تركيا والعراق وسوريا ولبنان والأردن، ثم السعودية، ثم فلسطين، والتي قامت دولة الاحتلال الصهيوني فوق أجزاء كبيرة منها سنة ١٩٤٨م.
وهناك قصص شبيهة بهذه القصة في فحواها وتلاعبات الاحتلال وموازين القوى العالمية بها في كل العالم الإسلامي شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، إلى أن وصلنا إلى كل التقسيمات والحدود الأخرى في العالم الإسلامي، والتي لا تكاد تخلو دولة واحدة منها من نزاع حدودي على خط من خطوطها التي رسموها على خريطة الأمة، حتى امتدت النزاعات السياسية اليوم من أقصى غرب الأمة بين دول المغرب والجزائر وموريتانيا، إلى دول الخليج العربي، مرورًا بكل دولة عربية تقريبًا مع جارة أو أكثر من جاراتها، إلى دول المسلمين التركية وفي دول البلقان وشمالها في المناطق الإسلامية في شرق أوروبا، إلى باكستان وبنغلادش والهند وكشمير، إلى أقصى شرق الأمة بين بلاد المالايو والجاويين، ناهيك عن دويلات أفريقيا التي واكب تقسيمها بين المستعمرين القدامى حركة تنصيرية واسعة. هكذا وصلنا إلى حالنا السياسي الذي لا يخفى ضعفه على أحد.
والحرب الدائرة اليوم يُرجى منها -بإذن الله تعالى- أن يعي المسلمون الصادقون في هذه الأمة أبعاد الصراع وعيًا جيدًا، وأن تستهدف الشعوب دفع حكامها إلى توحيد الأمة سياسيًا، ولو واكبت تلك الوحدة تقسيمات لمناطق وإدارات ودول ذات طبيعة خاصة ولكنها متعاونة وليست متصارعة بين بعضها، ولا متناقضة بين جيوشها الرسمية وبين حركات الجهاد السياسي والعسكري في أمتنا، وأن تنكشف الأقنعة الزائفة عن المنافقين الذين لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة، الذين لا يريدون لهذه الأمة ولا لشعوبهم خيرًا، وإنما يعملون لأنفسهم وكراسيهم، وليس عندهم إشكال في رشوة أعداء الأمة ببيت المقدس كما فعل الملك الذي لُقب زورًا بالكامل، ويُرجى من الحرب اليوم أن تنحاز جموع الأمة الإسلامية -إذا أرادت أن تقف على رجليها- إلى أبنائها المجاهدين الصادقين وإلى من يدافع عن شرفها ووجودها، وأن تتعاون في قضاياها العادلة مع كل الشرفاء من غير المسلمين وما أكثرهم في شعوب الشرق والغرب.
هذه معركة كاشفة وحاسمة على هذا المستوى، والحق منصور لا محالة، والفجر آت لا ريب، ولو أن سنن الله الغالبة المطردة اقتضت أن لا ينصر إلا الصالحين، وأن لا يصلح عمل المفسدين، وأن لا ينحاز أهل النفاق إلى أهل الإيمان، وإلا كانت علامة على خلل في موازين أهل الإيمان، لا سمح الله.
—