البحث

التفاصيل

((( ... إذا جاء نصر الله والفتح ... )))

الرابط المختصر :

((( ... إذا جاء نصر الله والفتح ... )))

الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

 

     قال الله سبحانه وتعالى { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } النصر 1-3 ، سورة قصيرة حملت بشارات مؤكدة ، وتضمنت إيحاءات حول دور الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بعض أحداث هذا الكون ، فهم وإن كانوا أبطال الفتح والنصر وجنودهما ؛ إلا أنه فتحٌ ونصرٌ من الله عز وجل يجيء به في الوقت الذي يقدره وبالصورة التي يريدها وللغاية التي يرسمها ، وليس له صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه رضي الله عنهم في هذا الأمر من شيء إلا أن يُجْرِيَ الله الفتح والنصر على أيديهم ويقيمهم عليه حراساً وأمناء ، وإنه لشرف عظيم ومكانة رفيعة ارتقوْا إليها هم ومن سار على نهجهم وهداهم : أن يكونوا أداة مشيئة الله عز وجل وتنفيذ قدره المقدّر .

     وفي تفسير ابن كثير أن الفتح هو فتح مكة المكرمة ، وقد فتحها صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة ، ثماني سنوات بعد خروجه منها حزيناً مرغماً ، فقد قال لها مودعاً { والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أُخْرِجْتُ منك ما خرجت } رواه الترمذي ، ثماني سنوات هي فترة طويلة على من أُخْرِجوا من ديارهم ووطنهم وأهليهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ، لكنها قصيرة في عمر الزمان سرعان ما مرت فانتهت بعودة محمد وصحبه إلى مدينتهم وأرضهم فأنستهم فرحة الانتصار مرارة الغربة وألم البعد ، وهنا نستحضر سنة الله التي لا تتوقف ، فاستضعاف الكفَّار للمؤمنين وإخراجهم مِن ديارهم وأموالهم كان من الأسباب المباشِرة التي وَرَّثَتِ المؤمنين أرضَهم وديارهم فدخلوها فاتحين ، قال تعالى { وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا  وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } الإسراء 76 ، وفعلاً لم يمكث المشركون بعد إخراجهم محمداً والمؤمنين به إلا قليلاً ، فقد هلك منهم من هلك في مواقع الجهاد ومعارك الحق ، ومن بقي منهم أسلم يوم الفتح أو قبله ، فانتهت قريش راعية الشرك والكفر وسقطت دولة الفساد والباطل ، وبعدها دخل الناس في دين الله أفواجاً ، فلم تمض سنتان حتى انضمت معظم جزيرة العرب إلى الإسلام وانتظمت في معسكر الإيمان ، فلم يبق في سائر قبائلها إلا مُظْهِرٌ للإسلام { ... وقد كانت العرب تَلَوَّمُ بإسلامهم الفتح فيقولون : اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق ، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم ... } رواه البخاري ، ومعنى تلوّم أي تنتظر .

     وأما قرار فتح مكة فقد اتخذه الرسول صلى الله عليه وسلم فور علمه بنقض قريش صلح الحديبية من خلال عدوان حلفائها من بني بكر على قبيلة خزاعة حليفة المسلمين ، فقد استمروا في ملاحقتهم حتى دخلوا الحرم فقتلوهم ولم يراعوا حرمته ، وكانت قريش تمدهم بالمال والسلاح وتعينهم على البغي ، فبعثت خزاعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بخبر هذه المجزرة النكراء والعدوان الغاشم ، فقرر نُصْرَتَها لأنها دخلت في حلفه بعد الحديبية ، والاعتداء عليها اعتداء عليه .

     أدركت قريش بعد فوات الأوان خطأها الاستراتيجي والأخلاقي ، فخرج أبو سفيان إلى المدينة لطلب العفو وتجديد العهد الذي عصفت به رياح الغدر والخيانة ، فلما بلغ المدينة استشفع بأبي بكر رضي الله عنه ليحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فرفض ، ثم استشفع بعمر رضي الله عنه فقال له [ أنا أشفع لكم عند رسول الله ؟ والله لو لم أجد إلا الذَّرّ لجاهدتكم به ] والذر هو النمل الأحمر الصغير ، فاستشفع بعلي رضي الله عنه فقال له [ والله يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه ] ثم نصحه أن يعود من حيث جاء ، فعاد أبو سفيان إلى قومه صفر اليدين .

     أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يتجهزوا مع السّرّيّة التامة والتكتم الشديد ، ودعا الله قائلاً { اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها } ولم يخبر أحداً بوِجهته حتى أهل بيته وحتى صاحبه الصّدّيق ، ولمزيد من تضليل قريش فقد بعث صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً من ثمانية رجال بقيادة الصحابي الأنصاري أبي قتادة بن ربعي رضي الله عنه إلى مكان يسمى بطن إضم شمال المدينة ، وهدفها تضليل المشركين وتمويه المقصد الحقيقي للجيش ، وتولى عمر التدقيق بهوية كل من يدخل المدينة أو يغادرها إلى مكة لضمان عدم تسريب خبر هذا التحرك إلى قريش وتحقيقاً لعنصر المفاجأة  ، بعد كل هذه الاحتياطات خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة بجيش ضخم قوامه عشرة آلاف مقاتل .

     وفي هذه الأثناء قرر العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الهجرة ، فخرج بأهله وعياله مهاجرين إلى المدينة ، وقد كان في مكة عيناً لرسول الله يوافيه بكل تحركات قريش ، فقابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق مقبلاً بجيشه على مكة المكرمة ، وخرج ثلاثة من كبار قريش : أبو سفيان وعبد الله بن أبي أمية وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار .

     عسكر الجيش في مر الظهران ونصبوا الخيام وأوقدوا النيران حتى أضاء منها الوادي ، كل ذلك وقريش لا تدري ماذا ينتظرها ، وانطلقت الاستخبارات النبوية  فعثرت خيالتهم على رجال قريش الثلاثة فأخذتهم أسرى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلحق العباس بالأسرى وأجارهم ، وظل يحادثهم عامة الليل حتى انشرحت صدورهم بالإسلام فأسلموا ، وتأخر إسلام أبي سفيان حتى طلع الصبح ، فلما أدخلهم العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه الأمان لقريش فقال { من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن }

     وفي ذات الوقت أوصى رسول الله العباس باحتجاز أبي سفيان في مضيق الوادي حتى يستعرض أمامه الكتائب والقوى الزاحفة ، قال العباس { فخرجتُ بأبي سفيان حتى حبستُه بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومرت القبائل على راياتها أمام أبي سفيان حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا حدق عيونهم من الحديد ، فقال سبحان الله ! يا عباس من هؤلاء ؟ قلت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار ، قال والله با أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً ، فرد العباس : يا أبا سفيان إنها النبوة ، قال فنعم إذن ] ، وكان الهدف من هذا الاستعراض العسكري زلزلة معنويات أبي سفيان وتحطيم أية رغبة في المقاومة لدى قريش وهو سيد مكة المتبوع ، وسميت الكتيبة الخضراء بذلك لسوادها من كثرة ظهور الحديد فيها ، فقد كان جنودها متدرعين دروعاً كاملة ، والعرب تسمي الأسود المختلط بغيره أخضر .

     وبالفعل دخل أبو سفيان مكة ، ورأى أهلُها الجيش الفاتح يقبل من بعيد رويداً رويداً ، فاجتمعوا على سادتهم ينتظرون أوامرهم بالقتال ، لكن أبا سفيان ثبَّطهم بقوله لهم [ يا معشر قريش ! هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ] فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد الحرام ، والجيش الزاحف يتقدم والرسول صلى الله عليه وسلم على ناقته وكأنه في موكب مهيب ، ورأسه خفيض من تواضعه وخشوعه لله فسار حتى دخل مكة من أعلاها ، قال عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه { رأيت رسول صلى الله عليه وسلم يوم الفتح على ناقة له يقرأ سورة الفتح ، قال فرجَّع فيها } رواه البخاري ، والترجيع في القراءة هو ترديد الصوت في الجهر بالقول مكرراً بعد خفائه ، ودخل خالد بن الوليد من أسفل مكة ، ودخلت سائر فرق جيش الفتح من أنحاء مكة الأخرى ، فكانت خطته صلى الله عليه وسلم تطويق مكة من جهاتها الأربع بهدف تشتيت قريش ومقاتليها .

     سكنت مكة واستسلم سادتها وأتباعها ، وعلت كلمة الله في رحابها وأرجائها ، ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت العتيق فطاف به وكسَّر الأصنام المصفوفة حوله فكانت تهوي على الأرض مهشمة متناثرة وهو يتلو قوله تعالى { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } الإسراء ٨١ ، ثم أمر بالكعبة ففتحت ، فإذا بالأصنام والصور فيها ، ذكر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة - يعني الأصنام - فأمر بها فأخرجت ، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قاتلهم الله ، لقد علموا ما استقسما بها قط } رواه البخاري ، وبعذ ذلك صلى فيها ركعتين ثم خرج .

     وأقبل صلى الله عليه وسلم على قريش وهو بباب الكعبة وهم صفوف يرقبون قضاءه فيهم ، وكل ظنهم أنهم سيُؤْخَذون بذنوبهم بحق محمد وأتباعه ، فسيطر عليهم الفزع والخوف أن يقضي عليهم بما يستحقونه من حساب وعقاب ، وحقٌّ لهم أن يفزعوا وكان الأولى بهم أن يحسبوا لهذا الموقف ألف حساب ، فما زالت جرائمهم شاخصة في النفوس وماثلة للعيون ، وما زالت أيديهم تقطر من دماء الشهداء ، وما أذاقوه للمؤمنين المستضعفين بمكة من ويلات وعذابات لم يُمحَ بعدُ من الذاكرة ، وهنا قال صلى الله عليه وسلم { الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، ماذا تقولون وماذا تظنون ؟  قالوا نقول خيراً ونظن خيراً ، أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريم ، وقد قَدَرْتَ فَأَسْجِحْ ، قَالَ فإني أقول كما قال أخي يوسف : لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين } ، ومعنى أسْجِحْ أي أحسن في العفو ،

     ولكن هناك بعض من دهاقين الكفر ومن صناديد قريش فاقوا غيرهم في محاربة الله ودعوته ورسوله والمؤمنين وإيذائهم ، فكيف لهؤلاء ان يستحقوا العفو وهم رؤوس الكفر وكبراؤه ؟ إن امثال هؤلاء لا يُعْفَى عنهم ، وقد أهدر صلى الله عليه وسلم دمهم وأمر بقتلهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة وهم تسعة ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن { رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم دخَل عامَ الفتحِ وعلى رأسِه المِغفَرُ ، فلما نزَعَه جاء رجلٌ فقال : إن ابنَ خَطَلٍ مُتعَلِّقٌ بأستارِ الكعبةِ ، فقال اقتُلوه } رواه البخاري . 

     ثم صعد بلال بن رباح رضي الله عنه فوق ظهر الكعبة فصدح صوته النديَّ بالأذان ، وأنصت أهل مكة لنداء الحق يدوّي من على ظهر بيت الله الحرام ، نداء جديد على مسامعهم وهم لا يكادون يصدقون ما ترى أعينهم ولا ما تسمع آذانهم ، لقد سقط الشركاء الذين اتخذهم المشركون آلهة من دون الله أو مع الله ، وعلت راية التوحيد المحض .

     فلما استقر الأمر شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس على الإسلام والإيمان والجهاد ، فجاءه الكبار والصغار والرجال والنساء ، فتمت البيعة على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا ، وكانت سنته في مبايعة النساء أن يأخذ عليهن الميثاق كلاماً لا مصافحة ، وأما بيعة الرجال فكانت مصافحة باليد ، دخل أهل مكة في الإسلام وحسن إسلام سوادهم والله أعلم بما في قلوبهم ، فإن كان بعضهم بقي على ريبته وجاهليته وكفره فالأيام كفيلة ببيان دخيلته أو شفائها ، فالمهم أن النظام الحامي للوثنية والشرك والبغي قد ذهب وتلاشى وسقطت دولته .

     يذكرنا يوم الفتح بمن لم يشهدوا هذا النصر المبين ، ولم يشهدوا الأصنام مسواة بالتراب ولم يروا عُبَّادها وقد اتجهوا إلى الإسلام وبايعوا نبيه ، ولم يشهدوا شفاء الصدور ولم يشعروا بذهاب غيظ القلوب ، فهم إما قد نالوا الشهادة في المعارك المشتعلة دوماً بين الحق والباطل ، وإما أنهم ماتوا ثابتين على الدعوة لم يغيروا ولم يبدلوا طوال الحروب التي دارت بين أهل الإيمان والكفر ، ولكن نصيبهم من هذا النصر محفوظ وجزاءهم عليه غير منقوص ، فقد مضت سنة الله أنْ ليس كل جنود الحق سيشهدون هذا الظهور والعلو لدين الله أو السقوط المدوي لأعداء الله ، بل المهم أن يكونوا قد ماتوا أو استشهدوا وهم على طريق الحق ، وقد نبه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال تعالى { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } غافر 77  .

     بهذا الفتح الأعظم تحطمت دولة الباطل وزالت وسقطت رايته وما ظن ضعيف أو مستضعف يوماً أنها ستسقط ، وأصبح المسلمون قوة عظمى في الجزيرة العربية لا يستطيع أي تجمع أن يقف في وجهها ، وما لبثت فارس والروم أن تهاوت على أيدي المجاهدين المؤيدين بقوة الله ونصره وهما أكبر إمبراطوريتين عالميتين في زمانهما ، وسقط أتباعهما الموالون من الغساسنة والمناذرة .





التالي
الصليب الأحمر: الدمار في مستشفيات غزة لا يُحتمل

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع