البحث

التفاصيل

طوفان الأقصى؛ المجاهدون يستفيدون من تاريخنا المجيد

الرابط المختصر :

بسم الله الرحمن الرحيم

طوفان الأقصى؛ المجاهدون يستفيدون من تاريخنا المجيد

 

الدكتور أحمد الإدريسي –المغرب،

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

مـقدمــة:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله سلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى ءاله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يم الدين.

نستفيد من غزوة بدر الكبرى أن القلة لا تضر شيئا في جنب كثرة أعدائهم، إن كانوا صابرين ومتقين، قال الله تعالى: "كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَة بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين" (البقرة:249)، ونستفيد من غزوة حنين أن الكثرة أيضا لا تفيدهم إذا لم يكونوا صابرين متقين، موقنين بأن النصر من عند الله.

لقد استفاد المجاهدون في غزة وفي طوفان الأقصى، من تاريخ الأمة المجيد بدءا من السيرة النبوية، وإلى زماننا المعاصر، فانتصروا بإذن الله، رغم قلة عددهم وقلة عُـدّتهم، حيث كان النصر بعد تدبير وتخطيط واتخاذ كل الأسباب، ولأنهم كانوا مسلحين بالإيمان القوي، والإرادة الصلبة والعزيمة القوية، واليقين في موعود الله عز وجل. وسأذكر في هذا المقال ثلاثة مواقع عظيمة (لعل الذكرى تنفع المؤمنين)، وهي؛ غزوة بدر (2هـ) وغزوة حنين(8هـ) ومعركة ملاذكرد (463هـ).

أولا: من دروس غزوة بدر.

يمكن أن تستنبط من غزوة بدر عبر ودروس كثيرة، ومنها دروس رأيناها متجلية في المجاهدين في غزة في طوفان الأقصى، ومن ذلك على سيبل المثال لا الحصر:

- أهمية الدعاء، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء، وكذلك المجاهدون في غزة، ويدعو معهم المسلمون من كل أرجاء العالم.

- التنويع في استخدام الأساليب الحربية المختلفة، ومباغتة العدو في مناسبات عديدة.

- حب الشهادة والتعلق بالجنة، ومنه ما فعله عُمَير بن الحمام الأنصاري، حين رمى التمرات من يده لما قال صلى الله عليه وسلم: "قُومُوا إِلى جَنة عَرْضُهَا السَمَوَاتُ وَالأَرْض".

ثانيا: من دروس غزوة حنين.

نستفيد إذن من هذه غزوة خطورة الغرور والإعجاب بالنفس، والركون إلى الأسباب الدنيويّة، إذ أنهم كادوا أن يُغلبوا ويهزموا، لولا نزول السكينة الإلهيّة على المؤمنين في ساحة المعركة، ولولا أن جاء المدد من الله بالملائكة الكرام، فالغرور من أسباب الهزيمة والخذلان، قال الله تعالى: "وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ" (التوبة:25)، فقد كانت غزوة حنين درسا هاما من دروس من السيرة النبوية، تعلم منه الصحابة والمسلمون من بعدهم أن النصر ليس بكثرة العدد والعدة، رغم أهميتهما، كما قال تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ" (الأنفال:60).

ولعل هذا الدرس من أهم الدروس التي انتفع بها الصحابة رضوان الله عليهم من غزوة حنين، واستفادوا بها بعد ذلك في حروبهم ضد أعدائهم، وهذا ما عَبَّرَ عنه عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في غزوة مؤتة بقوله: (يا معشر الناس! إن الذي تخافون منه هو الذي خرجتم له، الشهادة!، والله ما نقاتِلهم بقوة ولا بكثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به). قال سيدنا عمر رضي الله عنه بعد سنوات طويلة في رسالة إلى جنوده في فارس، يشرح لهم أسباب النصر مبنية على ما حدث في يوم حُنَيْن: (إنكم لا تُنصرون على عدوِّكم بقوة العدة والعتاد، إنما تنصرون عليهم بطاعتكم لربكم، ومعصيتهم له، فإن تساويتم في المعصية، كانت لهم الغلبة عليكم بقوة العدة والعتاد).

وقال ابن القيم، إشارة إلى بعض ما تضمنته غزوة حنين من دروس وعبر: (كان الله عز وجل قد وعد رسوله وهو صادق الوعد، أنه إذا فتح مكة دخل الناس في دينه أفواجا ودانت له العرب بأسرها، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام، وأن يجمعوا ويتألبوا لحرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمين، ليظهر أمر الله وتمام إعزازه لرسوله، ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شُكْراناً لأهل الفتح، وليظهر الله سبحانه رسوله وعباده، وقهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها، فلا يقاومهم بعد أحد من العرب، ولغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين وتبدو للمتوسمين)[1].

ثالثا: مع دروس معركة ملاذكرد[2].

في هذه المعركة كان الانتصار العظيم لفئة قليلة من المؤمنين الصادقين، على فئة كثير من الكفار والمنافقين، بإذن الله وتوفيقه وتأييده، ومن أهم نتائجها؛ الخسارة الكبيرة للجيش البيزنطي وأَسر الإمبراطور رومانوس الرابع ديوجينيس دورا مهما في ضعضعة الحكم البيزنطي في الأناضول وأرمينيا، وتمكن السلاجقة من مد نفوذهم اتجاه الأناضول.

جاء في كتاب البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله: (في أحد الأيام اجتمعت أوروبا في جيش بلغ عدده 600 ألف مقاتل، ومعهم ألف منجنيق، وكل منجنيق يجره مائة ثور، لهدم الكعبة وإبادة المشرق الإسلامي، وكان الجيش يضم البابا ومعه 35 ألف بطريك، وما لا يحصى عدده من القوات والسلاح والعدة والعتاد، وأعلنوا الحرب المقدسة، وتوجهوا لديار المسلمين من أجل إفنائهم وإبادتهم...!!! وكانت الخلافة العباسية في أسوأ أيامها، من فقر وضعف وكانت الخلافة لا تضم سوى 3000 جندي يخرجون في موكب الخليفة الذي لا اسم له ولا صفة سوى الدعاء له في صلاة الجمعة...!!

كانت هناك إمارة صغيرة اسمها دولة السلاجقة، كانوا يقفون كحرس حدود على مشارف الخلافة، يصُدّون غارات البيزنطيين تارة، وينهزمون تارة، وكان قائد تلك الإمارة شاب صغير اسمه ألب أرسلان، وبالعربية يعني: (الأسد الشجاع). كان هذا البطل عائدا من خراسان، من حرب بجيش قوامه 21 ألف رجل، ما بين مصاب وفاقد لسلاحه، وسمع بمجيء الجيش الصليبي، فأسرع بالعودة وحاول أن يُقنع أرمانوس الإمبراطور البيزنطي بالرجوع، عبر التنازل عن أراض لإمبراطوريته تارة، وبجزية يدفعها له تارة ويغريه تارة بغنائم وأموال. ولكن إمبراطور الروم يرفض، ويخبره أن مجيئ تلك الجيوش الزاحفة وتكلُفتها، لا تتسع لها أموال المسلمين كلها، وأن إبادة المسلمين وهدم مقدساتهم في فلسطين والحجاز هي الثمن الوحيد.

أُسقِط في يد البطل، وأرسل للخليفة يسأله العون والمدد، فلم يُجبه، معللا له سوء الحال وقلة الجند، وحاول ألب أرسلان أن يستثير حماسة المسلمين، ويرسل الرسل للأقطار كلها، فلم يجبه سوى القليل .. ذهب أرسلان الى شيخه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري يسأله المشورة في هذا المصاب الجلل، فحثه على الجهاد والكفاح لدين الله، بما أُوتي من قوة .. وهنا يخرج أرسلان، لجيشه الصغير ويُخيرهم ..من أراد الجهاد فليبق، ومن أراد الإنصراف فليقدم عذره لله وينصرف !!!

 وهنا يقف الشيخ العظيم وسط الجيش يقول لهم: (هذا يوم من أيام الله لا مكان فيه للفخر أو الغرور، وليس لدين الله وحرمة دم المسلمين ومقدساتهم في كل الدنيا سوى سواعدكم وإيمانكم ..) ويلتفت الشيخ الى الأسد الشجاع ويقول له: اجعل المعركة يوم الجمعة حتى يجتمع المسلمون لنا والخطباء بالدعاء في الصلاة.

وبالفعل استجاب أرسلان، لهذه النصيحة التي تشرح بأقلّ العبارات أسباب الانتصار المادية والمعنوية، فالمجاهدون يحتاجون تماماً للدعاء، مثلما يحتاجون إلى السيف والرمح، وفي يوم الجمعة 7 ذي القعدة 463 هجرية الموافق 26 أغسطس 1071م، قام ألب أرسلان، وصلى بالناس وبكى خشوعاً وتأثراً، ودعا الله عز وجل طويلاً، ومرغ وجهه في التراب تذللاً بين يدي الله، واستغاث به، وعقد ذنَب فرسه بيديه، ثم قال للجنود: (من أراد منكم أن يرجع فليرجع فإنه لا سلطان ها هنا إلا الله).... ثم امتطى جواده، ونادى بأعلى صوته في أرض المعركة: "إن هزمت فإني لا أرجع أبداً، فإن ساحة الحرب تغدو قبري". وبهذا المشهد استطاع ألب أرسلان، بإذن الله أن يحول 21 ألف جندي، إلى 21 ألف أسد .!!!

وفي مكان اسمه ملاذكرد جنوب شرق تركيا، يُقسّم أرسلان قواته، ويعزل ويرص الرُماة بين جبلين، ويتقدم بقواته ليستقبل طلائع الرومان البيزنطيين، بينما تأخر بقية الجيش الأوروبي... انقضّ الرومان بقوات بلغت ستين ألف مقاتل، فتقهقر أرسلان وانسحب إلى الممر (بين جبلين) .. وخرج منه، وانتشر خلفه، وقسّم قواته إلى فرقة تصدّ المتقدمين، وفرقة تتقدم وتلتفّ من جانب الجبل، وتغلق الممر من الأمام، وبهذا يغلق الممر تماماً، ويحاصرهم في كمين من أحكم الكمائن في تاريخ الحروب... دخلت القوات البيزنطية، وانتظر حتى امتلأ بهم الممر، وأشار للرُماة، فانهالت عليهم السهام كالمطر، وهنا يقول العميد الركن محمود شيت بخطاب معلقا علي تلك الحالة: (إن الرماة كانوا رماة استثنائيين وفوق العادة، فقد أبادوا ستين ألفا من المحاربين في ظرف ساعتين، لدرجة أن فرقتين حاولوا الصعود على جانبي الممر لإجلائهم ولكن السهام ثبتتهم، واخترقت أجسادهم بالمَمرّ فغطّته بجثثهم... ومن حاول الخروج من فتحتي الممر كان السلاجقة في انتظارهم يذبحونهم أحياء. علم الأوربيون بالهزيمة، فتقدمت قوات أرمينية وجورجية وروسية، فاستقبلتهم فرقة المقدمة فأبادتهم... فاشتد الخلاف بين قادة الجيش الأوروبي، وتبادلوا الاتهامات وحدث الخلل، ورجعوا لبلادهم وانسحبوا منهزمين، وتركوا بقية البيزنطيين فانقضّ عليهم ارسلان، فقُضيَ عليهم وأبادهم عن بكرة أبيهم، ووقع الإمبراطور البيزنطي في الأسر... وكان يوماً من أيام الله..!)[3].

فهل بالعقل والمنطق والحسابات الأرضية، من يتصور أن يصمد 21 ألف مقاتل، أمام النصف مليون مقاتل أوربي مُتشبّع بالكبر والعجب، وبالدم والحقد الدفين على الإسلام والمسلمين.

خاتمة:

لقد مضت سنة الله تعالى في خلقة بتدافع الحق والباطل، وأن تكون الغلبة بين الحق والباطل وفقًا لسنن الله تعالى في الغلبة والانتصار، والله تعالى يؤيد أهل الحق ويُمدهم بما يستلزم نصرهم وغلبتهم على الباطل وأهله بعد أخذهم بالأسباب الأخرى المادية. ويحتاج المسلمون إلى تجديد النية لنصرة دين الله، قال عز وجل: "ولينصرن الله من ينصره".

إن نتائج المعارك لا يحسمها العدد والعدة، وإنما ثمة أمور أُخَر لا تقل شأنا عنها، إن لم تكن تفوقها أهمية واعتبارا، وقد علمتنا غزوة بدر أن القلة لا تضر المؤمنين الصادقين بجانب كثرة أعدائهم، وفي المقابل، علمتنا غزوة حُنين أن كثرتهم لا تنفعهم شيئا إذا لم يكونوا مؤمنين صادقين، ولم يكونوا موقنين بأن النصر من عند الله. قال الله تعالى: "وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ" (آل عمران:126)، وقال: "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (الأنفال:17).

وينبغي أن نستفيد من تاريخ أمتنا المجيد، ومن انتصارات المؤمنين الصادقين، وأولهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم؛ في الغزوات والفتوحات، وكذلك فعل المجاهدون في هذا الطوفان العظيم؛ "طوفان الأقصى".

اللهم كن لأهل فلسطين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في غزة،

اللهم كن لهم وليا ونصيرا ومعينا وظهيرا. ءامين والحمد لله رب العالمين.



[1]- ابن القيم، زاد المعاد. ج:3 / ص:477.

[2]- ملاذكرد: هي ملازغرد حاليا؛ منطقة توجد في محافظة موش، بتركيا.

      ومعركة ملاذكرد؛ هي معركة دارت بين الإمبراطورية البيزنطية والسلاجقة المسلمين في 26 أغسطس 1071 بالقرب من ملاذكرد. (قبل 952 عاما).

[3] - ابن كثير، البداية والنهاية. ج:12/ص:101. (بتصرف).


: الأوسمة



التالي
كيف نجح السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بالمحافظة على فلسطين في ظل الضغط الغرّبي واليهودي؟
السابق
"Gilles Devers يجمع جيشًا من المحامين العالميين لمحاكمة الكيان الصهيوني"

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع