تدبر الإمام الفخر الرازي في معاني "التمكين"
من كتاب (فقه النصر والتمكين)
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة: 3
إن من أهم نماذج ومعاني التمكين التي وردت في القرآن الكريم هو ما ورد في قصة أصحاب القرية التي قال الله تعالى فيهم: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) [يس: 13- 18].
لقد أجاد الإمام الفخر الرازي (1) في الإشارة إلى بعض المعاني العظيمة التي تشير إلى تمكن دعوة التوحيد في قلب الرجل المؤمن الصادق المخلص.. وننقل إليك بعض هذه المعاني:
1- إن ارتباط الرجل المؤمن مع ما سبق من آيات القصّة له وجهان:
أحدهما: أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين، حيث آمن بهم الرجل الساعي، وعلى هذا ففي قوله: (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) بلاغة باهرة، فهو يدل على أن إنذار الرسل قد بلغ إلى أقصى المدينة.
الثاني: أن ذكر قصة الرجل المؤمن بالمرسلين تسلية لقلوب أصحاب الرسول وتثبيتهم على الدعوة، كما كان ذكر الرسل الثلاثة تسلية لقلب الرسول.
2- في تنكير (رَجُلٌ) فائدتان وحكمتان:
الأولى: أن يكون تعظيمًا لشأنه، أي رجل كامل في الرجوليّة.
الثانية: أن يكون مفيدًا لظهور الحق من جانب المرسلين، حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به، فلا يقال إنَّهم تواطأوا.
3- في قوله: (يَسْعَى) تبصير للمؤمنين وهداية لهم، ليكونوا في النصح باذلين جهدهم، ساعين فيه، مقتدين بالرجل الذي جاء يسعى.
4- في قوله: (يَا قَوْمِ) معنى لطيف، حيث يشير إلى إشفاقه عليهم، وإضافتهم إليه دليل على أنه لا يريد بهم إلا خيرًا.
5- في قوله: (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) دعوة منه لهم إلى اتباع المرسلين، ولم يقل: اتبعوني كما دعا مؤمن آل فرعون في سورة غافر، وذلك لأنه جاء من أقصى المدينة، ولم يكن معهم ولا بينهم، فدعا إلى اتباع المرسلين الذين أظهروا لهم الدليل، وأوضحوا لهم السبيل.
6- جمع في قوله: (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) بين إظهار النصيحة في قوله: (اتَّبِعُوا) وإظهار الإيمان في قوله: (الْمُرْسَلِينَ) وقدّم النصيحة على الإيمان لكونه أبلغ في النصح.
7- في قوله: (اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ) معنى حسن لطيف، واستخدام لأحسن الأساليب في النقاش والجدال والإقناع، حيث نزل فيه درجة لإقناعهم، وكأنه يقول لهم: افترضوا أنهم ليسوا مرسلين ولا هداة، ولكنهم مهتدون عالمون بالطريقة المستقيمة التي توصلهم إلى الحق، ثم هم لا يسألونكم أجرًا ولا مالاً، وهذا الأمر يدعوكم إلى اتباعهم والاستجابة لهم.
8- في قوله: (وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) استفهام استنكاري، وفيه إشارة إلى أن الأمر من جهة عبادة الله وحده لا خفاء فيه، وعلى الذي لا يعبده أن يقدّم السبب الذي يمنعه من عبادته، أما أنا فلا أجد مانعًا يمنعني من عبادته.
9- وفي قوله: (وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) لطيفة أخرى، حيث عدل عن مخاطبة القوم إلى الحديث عن نفسه، والحكمة في ذلك، وهو أنه لا يخفى عليه حال نفسه، ولذلك فهو لا يطلب العلة والدليل من أحد آخر، لأنه أعلم بحال نفسه.
10- جمع في قوله: (وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) بين أمرين يتعلقان بإيمانه بالله.
الأول: هو عدم المانع الذي يمنعه من الإيمان في قوله: (وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي).
والثاني: هو قيام المقتضى الذي يدعوه إلى الإيمان، وهو في قوله: (الَّذِي فَطَرَنِي)، فالله الخالق مالك ومنعم، وعلى العبيد عبادته وشكره.
11- قدم عدم المانع من الإيمان على المقتضى الذي يدعوه للإيمان في قوله: (وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) ولم يقل: (فطركم) لأنه هو الأهم من المقصود من السياق.
12- قال: (فَطَرَنِي) ولم يقل: (فطركم) لأنه يتحدث عن نفسه وليس عنهم، ولتناسقه مع قوله: (وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ)، حيث أسند العبادة إلى نفسه فناسب أن يسند الخلق إلى نفسه.
13- يتضمن قوله: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الخوف والرجاء في عبادة الله، فمن يكون إليه المرجع والمآب، يخاف منه ويرجى.
14- هناك حكمة لطيفة من الالتفات إليهم في قوله: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ليبين الفرق بينه وبينهم من الرجوع إلى الله، فرجوعه هو إلى الله ليس كرجوعهم هم.
رجوعه هو إلى الله رجوع العابد المؤمن بالله، ولهذا رجوعه للإكرام والإنعام، أما رجوعهم هم، فهو رجوع الكافر العاصي، ليحاسب ويعاقب ويعذّب، فرجوعهم للعذاب والإهانة وشتان بين رجوعين.
15- في قوله: (أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً) إشارة إلى كمال التوحيد، فقوله: (وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) إشارة إلى وجود الله، وفي قوله:(َأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً) إشارة إلى نفي الشرك به وعدم عبادة غيره.
16- في قوله: (مِن دُونِهِ آلِهَةً) إشارة لطيفة، فالدونية هنا مقصودة فبما أنه ثبت أن الله وحده هو الخالق المعبود، فكل غير الله هم (دُونِهِ) وهؤلاء جميعًا مشتركون في كونهم مخلوقين ضعفاء، محتاجين إلى الله، مفتقرين إليه؛ ولذلك يجب أن يكونوا جميعًا عابدين له، وبما أنهم كلهم (من دونه شركاء في الدونية) فكيف يكون من بينهم آلهة؟!
17- في قوله: (إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ) يخاطب الجميع، سواء كانوا من المرسلين أو من أهل القرية، لكنه أول ما يتوجه إلى أهل القرية، حيث يثبت لهم أن الله وحده ربُّهم.
18- في قوله: (فَاسْمَعُونِ) ما يدل على أنه كان مترويًا مفكرًا، فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين، فإنه يتفكر فيه، كما أنه يقصد أن يُسمعهم ليقيم الحجة عليهم، وكأنه يقول لهم: إني أخبرتكم بما فعلت، حتى لا تقولوا لم أخفيت عنا أمرك، ولو أظهرت أمرك لاتبعناك.
19- المراد بالسماع في قوله: (فَاسْمَعُونِ) ليس مجرد سماع الصوت، بل قبول الدعوة، والاستجابة لصوت الحق والدخول في الإيمان (2).
--------------------------------------------------------------------
مراجع الحلقة الثالثة:
( ) الوفيات (4/ 248).
(2) انظر: تفسير الرازي (26/54-60) مع التصرف.
يمكنكم تحميل فقه النصر والتمكين
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي
http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/655