كيف أنصف كيسنجر الإسلام.. وحسن البنا وسيد قطب؟! حياد أم دبلوماسية؟
بقلم: عصام تليمة
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
توفي وزير خارجية أمريكا الأشهر هنري كيسنجر، منذ أيام قليلة، في التاسع والعشرين من نوفمبر 2023، والحديث عنه لا ينفك عن الأحداث التي تعيشها الأمة الآن في المعركة بين المقاومة في فلسطين والاحتلال الصهيوني، حيث إن كيسنجر لم يدخر جهدًا طوال مسؤوليته –وبعدها– في خدمة الاحتلال الصهيوني، لأنه كما كتب في كتبه: أن إسرائيل تعيش على خط ضيق جدًا، ويحيط بها أعداء كثر من العرب والمسلمين، وأنه لأجل انتصارها في معاركها ينبغي من تحييد مصر، وهو ما سعى إليه ونجح فيه.
وظل الرجل حتى وفاته في مواقفه مؤيدًا وداعمًا للكيان الصهيوني، حتى الأحداث الأخيرة في غزة، فقد كانت تصريحاته الأخيرة، ضد المقاومة في غزة، بل عندما سئل عن رأيه في فرحة أشخاص يقيمون في ألمانيا بما حدث مع الاحتلال في السابع من أكتوبر، فأجاب بأنه لا يوجّه اللوم للألمان، بل يوجه اللوم لمن سمح لكل هذا العدد أن يوجد، كي يشكل ضغطًا في مثل هذه المواقف.
كتاب (النظام العالمي):
وعلى الرغم من مواقفه التي لا تخفى على دارس لشخصيته وللسياسة الدولية، إلا أنه في حديثه عن الإسلام والحركات الإسلامية في كتبه، نراه يتحدث بمستوى غريب من الإنصاف والحياد، وأهم تناول له للإسلام والإسلاميين، هو كتابه: (النظام العالمي).
وهو كتاب يطوف بقارئه في محاور مهمة عدة، ولرجل له هذه الخلفية التاريخية والسياسية، فيكون الكلام ذا درجة كبيرة من الأهمية، ليس في مستوى معلومات الرجل فقط أو لتاريخه، بل لما يمثله من مرجعية لدى واضعي السياسات العالمية، وبخاصة أمريكا، ورغم ركاكة ترجمة الكتاب في عدد من الجمل، تتضح أكثر في الجزء المتعلق بالإسلام والعالم الإسلامي، سواء من حيث الصياغة، أو من حيث ردها لأصلها، إلا أن الكتاب مهم في طرحه، وبخاصة في الجزء المتعلق كما ذكرت بالإسلام والإسلاميين.
حديثه عن الإسلام والنظام العالمي:
تحدث كيسنجر عن الإسلام وما قام به من إنشاء نظام عالمي بدأ بعهد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكيف تم توسعة هذا النظام؟ وكما يعبّر كيسنجر بقوله: “وفي رحلة بدأت بالنبوة في ثلاث وعشرين سنة، نجح فيها الإسلام في ظل الصراع الدائر بين الفرس والروم، في توحيد شبه جزيرة العرب، وفي مباشرة العمل لإحلال الديانة التي تضمنها الوحي الذي نزل عليه محل الديانات السائدة في الإقليم: اليهودية والمسيحية، والزرداشتية في المقام الأول”.
ولا يخفي إعجابه بهذا الإنجاز الهائل الذي قام به المسلمون، فيقول: أن تستطيع مجموعة صغيرة من الاتحادات العربية بعث حركة مؤهلة لكسر شوكة إمبراطوريتين عظميين، كانتا قد سيطرتا على الإقليم قرونًا من الزمن، كان من شأنه أن يبدو بعيدًا عن العقل، وغير قابل للتصور قبل عقود قليلة، رغم أنهم عاشوا حياة قبلية رعوية، شبه بدوية في الصحراء.
ويخلص كيسنجر لجملة تلخص مسيرة عقود من الإسلام، فيقول: “وتقدم الإسلام العاصف عبر ثلاث قارات أقنع المؤمنين بسماوية رسالته، ومدفوعًا بالإيمان بأن من شأن انتشاره أن يوحد البشر جالبًا لهم السلم، كان الإسلام دينًا أولًا، دولة متعددة الإثنيات ثانيًا، ونظامًا عالميًا جديدًا ثالثًا، في الوقت عينه”.
إنصاف كيسنجر للجهاد:
والأعجب أن ترى في كلام كيسنجر إنصافًا غريبًا لمفهوم الجهاد، ذلك المصطلح الذي جرى هضمه وظلمه لدى كثيرين من الساسة والمفكرين الغربيين، بل راح يتحدث عنه كأنه ينقل عن فقيه إسلامي كبير، أو لو شئنا الدقة يكاد يشعر القارئ أنه ينقل عن الإمام ابن القيم من كتابه: (زاد المعاد)، أو من المعاصرين من العلامة القرضاوي في كتابه: (فقه الجهاد)، حيث راح يعرّف الجهاد بتعريفه الشامل، ولا يحصره في القتال، كما يحدث من بعض جهلة المسلمين، أو من المتعمدين التشويه له من الغربيين.
فقال عن تحقيق النظام العالمي الجديد، ووسيلة تحقيقه: “والاستراتيجية المعتمدة لتحقيق هذا النظام كانت ستعرف باسم الجهاد، وهو فرض يلزم المؤمنين بتوسيع دائرة دينهم عبر الكفاح والنضال، وانضوى (الجهاد) على الحرب، غير أنه لم يكن محصورًا بأي استراتيجية عسكرية، كانت العبارة مشتملة أيضًا على وسائل أخرى لبذل طاقات المرء الكاملة لافتداء رسالة الإسلام ونشرها، مثل: المجادلة الروحية، أو الأعمال العظيمة الممجدة لمبادئ الدين -وتبعًا للظروف– وفي أحقاب وأقاليم مختلفة، كان التأكيد النسبي مختلفًا اختلافًا كبيرًا بوسع المؤمن أداء فريضة الجهاد بقلبه، بلسانه، بيديه، أو بسيفه”.
كيسنجر -هنا- يبين نقطة يقع فيها كثيرون من الباحثين الغربيين، تعمدًا منهم لشيطنة مصطلح (الجهاد)، ولكنه ينجو من هذا المزلق، ويقدم تعريفًا وشرحًا للمصطلح بمفهوم صحيح، ولا يختزله في القتال العسكري، بل يشمل كل ما يمكن أن يبذله المسلم من جهد لنصرة دينه والحق.
موقفه من الحركات الإسلامية:
وكذلك كان موقفه في الكتاب نفسه من الحركات الإسلامية المعاصرة، مثل: الإخوان المسلمين وغيرها، وفي حديثه عن قيادات الإخوان التاريخية والكبرى مثل: حسن البنا، وسيد قطب، كان كلامه بالدرجة نفسها، ففي فقرات عدة من كتابه، يتحدث عن مشروع حسن البنا، وتوصيف البنا كعالم منفتح، وبأنه في نهاية سنة 1947 رأى العالم الأوروبي يفشل في تقديم صيغة مناسبة للنظام العالمي العادل، وأن على الملك فاروق -ملك مصر آنذاك– أن يتبنى الإسلام، ليكون هو النظام العالمي البديل، ويعقب كيسنجر بأن البنا لم يسعفه العمر للإجابة عن الأسئلة المطروحة بهذا النظام، وتفاصيله.
وأن سيد قطب جاء فيما بعد وبكتابه: (معالم في الطريق)، قد كتب بمعاداة النظام العالمي الذي وضعه الغربيون، وبأنه مضاد تمامًا للنظام العالمي الذي يتوخاه الإسلام، ورغم خلاف كيسنجر الجذري مع قطب إلا أنه مقارنة بكتاب عرب يعادون قطب والإخوان، لم يكن حادًا في عباراته، ولم يتجن على قطب، بل ذكر مشروعه الذي يؤمن به قطب، وهو أنه: انتهى دور الرجل الأبيض، إشارة إلى الحضارة الغربية ونظامها، وأن سيد لم يكن يؤمن بأن هذا النظام الغربي يمكن أن يقدم منظومة للعدالة، أو يحقق للبشرية السعادة، وهو ما نعيشه بالفعل الآن فيما نراه من الغرب في موقفه مما يجري في غزة.
حياد وإنصاف أم دبلوماسية:
لست بصدد عرض كتاب كيسنجر، ولكني اكتفيت بالخطوط العامة والرئيسة لما طرحه في موقفه من الإسلام والنظام العالمي، وكيف كان في طرحه رغم جهوده مع الكيان الصهيوني، وأن العدو الأول لها كانت الحركات الإسلامية وفي القلب منها الإخوان المسلمون، والتيار الإسلامي بوجه عام، الذي يحمل فكرة الإسلام الشامل، ومع ذلك كان في طرحه منصفًا ومحايدًا.
ربما دافعه لذلك عمله بصفته دبلوماسيًا، وهو شخصية لم تكن دبلوماسية لفترة وانتهى دورها، بل استمر عطاؤه وأثره في هذا المجال إلى وفاته، ولكنه مال في طرحه إلى تبني المنهج الوصفي، وهو المنهج الذي يعتمد على عرض الحقائق مجردة، بغض النظر عن حبك لصاحب الأفكار وللفكرة أو بغضك، فلا تملك إلا أن تعرضها كما هي، كما لو كنت صاحبها، أو المدافع عنها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين