الفارس المُلثّم والحلم العربي
بقلم: د. جمال نصار
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
يعيش العالم العربي والإسلامي، في هذه الآونة بعد طوفان الأقصى، حالة من البحث عن قائد يسترد له كرامته، ويرد له مقدراته وحقوقه، ويكون له التأثير في صُنع الأحداث، ويُلهم الشعوب اليَقظة بعد سُبات عميق، ويُحيي فيها الروح بعد غياب طويل، فكان ظهور أبو عبيدة (محمد الضيف) في غزة، من جديد، المتحدث العسكري باسم كتائب عز الدين القسام، بعد الـ 7 من أكتوبر باعثا للأمل في الشعوب مرة أخرى، بعد أن فقدته لسنوات.
أبو عبيدة وإخوانه الذين أعادوا القضية الفلسطينية إلى الواجهة مرة أخرى، هذا الرجل الذي يسرد تفاصيل الأحداث والمعلومات العسكرية والسياسية بدقة وفق الأولويات، ودون إطالة وبلا انفعالية زائدة، وبصورة يكسوها الانتصار على العدو المحتل للأرض، الذي سلب حريتهم، ودنّس مقدساتهم، وقتل الأجيال تلو الأجيال من النساء والرجال والأطفال، دون هوادة أو رحمة.
ولم يقتصر تأثير محمد الضيف (أبو عبيدة) على فلسطين أو العالم العربي والإسلامي، فحسب، بل تعدّاه إلى جميع أنحاء العالم، وخصوصًا أمريكا اللاتينية، فإذا أعلنت الفضائيات «ورود عاجل» بكلمة للرجل المُلثم تنقطع كل الأخبار والبرامج، وتذهب للإنصات إلى الصوت القوي، الذي يشرح ويبث المشاهد التي تبعث الأمل، وتشفي صدور قوم مؤمنين، الذين يرون بأعينهم (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)، هذه الفئة التي غيّرت وحوّلت ما أشاعه الاحتلال المغتصب أنه يمتلك الجيش الذي لا يُقهر.
ولا يخفى عليكم أن أجهزة العدو الاستخباراتية وغيرها في الشرق والغرب يتابعون ويحللون كل كلمة، وكل حرف، لهذا الملثم الذي يزعجهم بوعوده وتصريحاته التي تتحقق، وتزلزل المجتمع الإسرائيلي، وتدفعه إلى الانقلاب على القيادات السياسية والعسكرية الباهتة التي تبيع لهم الوهم، بل بات الإسرائيليون أنفسهم ينتظرون إطلالاته بمزيج من الخوف والتوجس، وهم يعرفون أنه جزء من حرب نفسية شديدة الوطأة عليهم، لكنهم للمفارقة باتوا يصدقونه أكثر من نتنياهو، وأدرعي، وقادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، منذ أحداث السابع من أكتوبر، الذي يُمثّل لهم صدمة نفسية كبيرة.
هذا هو الرجل الملثم الذي حيّر الاحتلال الإسرائيلي منذ ظهوره في عام 2006، فلا اسم ولا صورة أو ملف له لدى الموساد، أو الاستخبارات العسكرية (أمان)، أو جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) وتبقى شخصيته مجرد تخمينات إسرائيلية. وكان بروزه أول مرة ليعلن تنفيذ المقاومة عملية «الوهم المتبدد» شرق مدينة رفح، والتي أدت لقتْل جنديين إسرائيليين، وجرح اثنين آخرين، وأسر الجندي «جلعاد شاليط»، الذي تمّ إطلاق سراحه بعدها بــ 5 سنوات في إطار صفقة تبادل تحرر بموجبها 1027 أسيرًا وأسيرة من سجون الاحتلال.
هذا البطل يتابعه اليوم أكثر من 600 ألف على حسابه في تليغرام الذي أنشأه عام 2020، وليس لديه أي حسابات عبر مواقع التواصل الأخرى، وحين يُغرّد، فإن أكثر من نصف مليون شخص يقرؤون خلال دقائق معدودة ما كتب. ووفق تقرير نشره موقع يديعوت أحرونوت في 25 يوليو/تموز 2014، يتبين أن أبو عبيدة لديه وقت للدراسة، إذ حاز عام 2013 على درجة الماجستير من كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية بغزة عن عمله حول موضوع «الأرض المقدسة بين اليهودية والمسيحية والإسلام» كما يُعدّ درجة الدكتوراه في نفس السياق.
هذا هو النموذج الرمز والأيقونة التي أثّرت في المجتمعات العربية والإسلامية، وفي العديد من المجتمعات الغربية. لعل ذلك يكون بداية لتحولات مهمة على جميع المستويات في المرحلة القادمة، لإزالة الخبث، ووضع أسس البناء والنهضة حتى تعود أمتنا إلى كامل عافيتها، وتسترد استقلالها الوطني، وتترك التبعية للغرب.
فمتى تسترد الأمة العربية والإسلامية عافيتها، وتعود إلى سيرتها الأولى من النصر والتمكين؟
ومتى نرى الحُكام وولاة الأمور يسعون لمصلحة الشعوب وتطويرهم والرفع من شأنهم؟
متى نشاهد القائد العربي المسلم الذي يُعمل له ألف حساب في الشرق والغرب، بقوته وهيبته؟
ومتى نرى معتصمًا في عالمنا العربي، يتحرك لنجدة المنكوبين في غزة وغيرها؟
متى تعود لأمتنا الصدارة في المجالات العلمية التي كانت رائدة فيها في فترات سابقة؟
ومتى تنال الشعوب العربية والإسلامية كامل حرياتها، وتختار حُكامها بإرادتها؟
متى يعيش العالم في أمن وأمان بعيدًا عن الحروب والإبادة والعنصرية البغيضة؟
ومتى تعرف القوى الكبرى أن السيطرة العسكرية والهيمنة السياسية لن تحل مشاكل العالم؟
لعل ذلك يكون قريبًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين