جهود القائدين نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي في التوحيد والتحرير (9)
(إسقاط الخلافة الفاطمية، وتوحيد مصر والشام والعراق في جبهة إسلامية واحدة)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
بعد فشل الحملة الصليبية ـ البيزنطية المشتركة على دمياط، أصبحت هذه الحادثة نقطة تحوُّل هامة في تاريخ الشرق الأدنى؛ لأنَّه لو نجح التحالف النَّصراني في تحقيق غايته لكان من الممكن أن يمنع اتحاد بلاد الشام ومصر، والذي يشكِّل خطراً مباشراً على وجود الصليبيين في الشَّام، ويعرقل جهود المسلمين في التصدِّي للصليبيين، وإخراجهم من المنطقة، كما يُعدُّ فشل الحملة النَّصرانية نقطة تحول هامة أيضاً في مستقبل صلاح الدين؛ الذي ظهر بمظهر المتمكِّن في حماية مصر، وأقنع الدولة الفاطمية المتداعية بأنه يستطيع حماية البلد من غارات المعتدين بالإضافة إلى حماية مركزه من دسائس المتآمرين، وبذلك حاز على إعجاب الكثير.
وبات المسلمون يهدِّدون بشكلٍ مباشر الإمارات الصليبية؛ بحيث شعر الصليبيون يوماً بعد يوم بازدياد تضييق المسلمين عليهم، وبعد أن كانوا يَحصرون نشاطهم ضدَّ خطر نور الدين محمود من ناحية الشمال؛ أضحوا يوزِّعون قواتهم بين الشَّمال والجنوب، لمواجهة نور الدين محمود في الشام، وقائده صلاح الدِّين في مصر.
وإذا كانت تولية صلاح الدين منصب الوزارة بداية النهاية للدَّولة الفاطمية؛ فإن هزيمة النَّصارى أمام دمياط شكَّلت خطوةً أخرى نحو القضاء على هذه الدولة؛ حيث تطلَّع الخليفة العاضد إلى التحرر من نفوذ صلاح الدين، ولكن المصير الفاشل الذي الت إليه خيَّبت أمله، وأتاحت لصلاح الدين فرصة الانفراد بالسُّلطة في مصر، وتوجيه اهتمامه نحو إضعاف المذهب الشيعي الإسماعيلي، وفقدت الدولة الفاطمية الأمل الأخير من التخلُّص من قبضته القويَّة، وأضحى سيِّد مصر دون منازع.
- وصول نجم الدين أيوب إلى مصر
طلب صلاح الدين من نور الدين (رحمهما الله) إرسال والده نجم الدين أيوب إليه، فوافق نور الدِّين على ذلك، وطلب من نجم الدين أن يستعدَّ للسفر إلى مصر، وحَمَّله رسالةً إلى صلاح الدين يأمره فيها بالتعجيل في إلغاء الخلافة الفاطمية، وإعلان الخطبة للخليفة العباسي، ووصل والد صلاح الدين إلى القاهرة في الرابع والعشرين من رجب سنة خمس وستين وخمسمئة، وخرج العاضد ـ صاحب القصر لاستقباله، وبالغ في احترامه، والإقبال عليه، ولما اجتمع صلاح الدين بأبيه؛ سلك معه من الأدب ما جرت به عادته، وفوَّض إليه الأمر كلَّه، فأبى ذلك عليه أبوه، وقال: يا ولدي! ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت كفؤ له، فلا ينبغي أن تغيِّر مواقع السعادة (دور نور الدين في نهضة الامة، عبد القادر أبوصيني، ص115).
- إسقاط الخلافة الفاطمية (العُبيدية)
تعتبر هذه الخطوة من أعظم المهام التي أنجزها صلاح الدين، فقد كان نور الدين حريصاً كلَّ الحرص على إنهائها ـ فكتب إلى نائبه صلاح الدين يأمره بإقامة الخطبة للخليفة العباسي المستضيء ـ فاعتذر صلاح الدين، بالخوف من قيام أهل مصر ضدَّه لميلهم إلى الفاطميين، وبأنَّه لم يتهيَّأ لذلك بعد، إلا أن نور الدين أرسل إلى نائبه: يلزمه بذلك إلزاماً لا فسحة فيه. وكان الخليفة العباسي قد أرسل إلى نور الدين يعاتبه في تأخير إقامة الدعوة له بمصر، فأحضر الملك العادل نجم الدين أيوب، وحمَّـله رسالةً، وكان صلاح الدين متهيباً متردِّداً في إسقاط تلك الخلافـة، حيث إنَّ ميراث العبيـدين في مصر كان عمره أكثر من مئتي سنة، وكان نور الدين يعتبر: أنَّ فتح مصر نعمةٌ من نعم الله عليه، وعلى المسلمين من أجل توحيد البلاد على منهـج أهل السنة، وإزالة البـدع، والرفض، وكان نور الدين متفهِّماً لظروف صلاح الدين، وكان يخاطبـه بالأمير (أسفهلار) ولو أراد لأرسل خطـاباً بعزله عن مصر، وتوليته قطراً اخر، وهذا ما صرَّح به نجم الدين لولده صلاح الدين في مصر: إن أراد عزلك... يأمر بكتاب مع نجَّاب حتى تقصد خدمته، ويولي بلاده مَنْ يريد، ومن دلائل احترام نور الدين لصلاح الدين ما جاء في خطابه لابن أبي عصرون يوليه قضاء مصر، ويقول فيه: تصل أنت، وولدك حتى أسيِّركم إلى مصر، وذلك بموافقة صاحبي، واتفاقٍ منه، صلاح الدين، وفقه الله، فأنا شاكر له كثيراً كثيراً كثيراً، جزاه الله خيراً، وأبقاه، ففي بقاء الصالحين، والأخيار صلاح عظيم، فحقيقة العلاقة بين القائدين احترام متبادل، وتقدير عظيم (الروضتين في أخبار الدولتين، عبد الرحمن المقدسي، ص209).
- التعديلات الإصلاحية في مصر، والتدرُّج في إلغاء الخطبة للعاضد الفاطمي
اِستفاد صلاح الدين من الرجل الفذ الكبير القاضي الفاضل، فقد ساعده على إحكام خطةٍ مدروسة للقضاء على الدولة الفاطمية، والمذهب الشيعي الرافضي الإسماعيلي، وشرع صلاح الدين في تنفيذها بدَّقةٍ متناهية، وبعد أن هيَّأ صلاح الدين المصريين للانقلاب، وقلَّم أظفار المؤسسة الفاطمية عزل قضاة الشيعة، وألغى مجالس الدَّعوة، وأزال أصول المذهب الشيعي، ففي سنة 565هـ/1169م، أبطل الأذان بحيَّ على خير العمل، محمدٌ، وعليٌّ خير البشر. ويعلق المقريزي بأنَّ هذه أول وصمةٍ دخلت على الدَّولة، ثمَّ أمر بعد ذلك، في يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة 565هـ/1169 ـ 1170م بأن يذكر في خطبة الجمعة الخلفاء الراشدون وأمر بعد ذلك بأن يُذكر العاضد في الخطبة بكلام يحتمل التلبيس على الشِّيعة، فكان الخطيب يقول: اللهم أصلح العاضد لدينك، وولَّى القضاء في القاهرة للفقيه عيسى الهكاري السني، فاستناب القضاة الشافعيين في جميع البلاد، وأنشأ المدارس لتدريس المذاهب السُّنية، وهو في الوقت نفسه يضيق الخناق على العاضد، وعمد إلى الخطة نفسها مع أمراء الجيش، فأخذ يحدُّ من نفوذهم شيئاً، فشيئاً، ثم قبض عليهم في ليلةٍ واحدةٍ، وأنزل أصحابه في دورهم، وفرَّق إقطاعاتهم عليهم.
وكان العاضد يتابع ذلك كلَّه بقلبٍ حزين، ونفسٍ كئيبة، وقد خابت الآمال؛ التي عقدها على صلاح الدين، وانزوى في مخدعه فريسةً للهَمِّ، والمرض، وأدرك صلاح الدين: أن الفرصة باتت مؤاتيه للقضاء على الدولة الفاطمية المحتضرة، فعقد مجلساً كبيراً حضره أمراء جيشه، وقواده، وفقهاء السُّنة، ومتصوفوها، وسألهم الرأي، والنصيحة، وقد اتفق رأي الحاضرين على اتخاذ تلك الخطوة الفاصلة في حياة البلاد، وفي بداية سنة 567هـ/1171 ـ 1172م، قطع صلاح الدين الخطبة للفاطميين، وكان قطعها بالتدريج أيضاً، ففي الجمعة الأولى من محرم 567هـ/1171 ـ 1172م، حذف اسم العاضد من الخطبة، وفي الجمعة الثانية خطب باسم الخليفة المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله، وقطعت الخطبة للعاضد لدين الله، فانقطعت، ولم تعد بعدها إلى اليوم الخطبة الفاطمية(، والملاحظ: أنَّ الخطبة للعباسيين قد تمَّت بالإسكندرية قبل القاهرة، ومصر بنحو أسبوعين، وذلك لأنها ظلَّت على المذهب السني طوال العصر الفاطمي (صلاح الدين الأيوبي، علي الصلابي، ص191).
2 ـ وفاة العاضد عام 567هـ:
قال ابن كثير: والعاضد في اللُّغة: القاطع، ومنه: لا يعضد شجرها. فيه قطعت دولتهم، واسمه عبد الله، ويكنى بأبي محمَّد بن يوسف الحافظ بن محمَّد بن المستنصر بن الظاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي أوَّل ملوكهم. وكان مولد العاضد في سنة سِتٍّ وأربعين، فعاش إحدى وعشرين سنة، وكانت سيرته مذمومةً، وكان شيعياً خبيثاً، لو أمكنه قتل كلِّ مَنْ قدر عليه من أهل السُّنة؛ لفعل، وقد توفي العاضد في العاشر من محرم 567هـ/1171 ـ 1172م.
3 ـ فَرَحُ المسلمين، واِتعاظهم بزوال الدولة الفاطمية وتوحيد الجبهة الإسلامية:
لما انتهى الخبر إلى الملك نور الدين بالشام؛ أرسل إلى الخليفة العباسي يُعلمه بذلك مع ابن أبي عصرون، فزينت بغداد، وغلقت الأبواب، وعُملت القباب، وفرح المسلمون فرحاً شديد، وكانت الخطبة قد قُطِعت من ديار مصر سنة تسع وخمسين وثلاثمئة في خلافة المطيع العباسيِّ حين تغلب الفاطميُّون عليها أيام المعزِّ الفاطمي، باني القاهرة إلى هذا الأوانِ، وذلك مئتا سنة، وثماني سنين.
كانت مدَّة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسراً، فصاروا، كأمس الذَّاهب وكأن لم يَغْنَوا فيها، وقد كان الفاطميون من أغنى الخلفاء، وأكثرهم مالاً، وأجبرهم، وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرةً، وأخبثهم سريرةً ؛ ظهرت في دولتهم البدع، والمنكرات، وكثر أهل الفساد، وقلَّ عندهم الصالحون من العلماء، والعبَّاد، وكثر بأرض الشام الحشيشية، وتغلَّب الفرنج على سواحل الشام بكامله، حتى أخذوا القدس الشريف، ونابلس، وعجلون، والغَوْرَ، وبلاد غَزَّةَ، وعسقلان، وكَرك الشَّوبك، وطبرية، وبانياس، وصور، وعثليت، وصيدا، وبيروت، وعكَّا، وصَفَدَ، وطرابلس، وأنطاكية، وجميع ما وَالَي ذلك إلى بلاد إياس، وسيس، واستحوذوا على بلاد آمد، والرُّها، ورأس العين، وبلاد شَتَّى، وقتلوا خلقاً لا يعلمهم إلا الله، وسَبَوا من ذراري المسلمين من النِّساء، والولدان مالا يُحَدُّ، ولا يوصَفُ، وكادوا أن يتغلبوا على دمشق، ولكن صانها الله بعنايته، وسلَّمها برعايته، وحين زالت أيامهم، وانتقض إبرامهم؛ أعاد الله هذه البلاد كُلَّها على أهلها من السادة المسلمين، وردَّ الله الكفرة خائبين، وأركسهم بما كسبوا في هذه الدنيا، ويوم الدين (نور الدين زنكي، علي محمد الصلابي، ص 361).
................................................
مراجع
1. البداية والنهاية، ابن كثير، ط1، بيت الأفكار الدولية، لبنان، 2004م.
2. تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام،محمد سهيل طقوش، ط1، دار النفائس، الكويت، 2020م.
3. الجهاد والتجديد، محمد حامد ناصر، ط1،مكتبة الكوثر،الرياض، 1998م.
4. دور نور الدين في نهضة الأمة، عبد القادر أبو صيني، أطروحة دكتوراه، معهد التاريخ العربي والتراث العلمي، بغداد، جامعة اتحاد المؤرخين العرب، 2000م.
5. صلاح الدين الايوبي، علي الصلابي، ط1، دار المعرف، بيروت، لبنان، 2013م.
6. عيون الروضتين في أخبار الدولتين، عبد الرحمن المقدسي، ط1، وزارة الثقافة، دمشق، 1991م.
7. القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني العسقلاني، هادية شكيل، ط1، مؤسسة الدراسات الفلسطينية،1999م.
8. نور الدين الزنكي شخصيته وعصره، علي محمد الصلابي، مؤسسة اقرأ للنشر، القاهرة، ط1، 2007.