البحث

التفاصيل

اتحاد العلماء والمواقف السياسية!!

الرابط المختصر :

اتحاد العلماء والمواقف السياسية!!

بقلم: التهامي مجوري

 

أمام الشعار المعلن عنه في الجمعية العمومية للإتحاد المنعقدة في الدوحة أيام 6 إلى 11 جانفي 2024، "من المؤسس إلى المؤسسة"، أجدني كعضو في هذا الأتحاد، أمام مسؤولية أشعر بها منذ مدة، وهي البحث في الكيفية التي ينبغي أن يمارس بها الاتحاد أنشطته السياسية، ولكنني لم أجد الفرصة المناسبة، وها قد جاءت الفرصة في ظل قيادة جديدة، وفي ظل تحولات يشهدها العالم، تتطلب المزيد من الحيطة والحذر والوعي والدقة؛ لأن المواقف السياسية ليست كغيرها من المواقف كما سنحاول توضيح ذلك في هذا المقال.

إن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، يمثل أمة، ويمثل رسالة، ويمثل قيما تتطلع إليها الإنسانية، وأمام هذا الانسداد التام الذي يعاني منه العالم في صمت، ويظهر بين الحين والآخر، في شكل تصريحات متأسفة، وتحذيرات من مستقبل مظلم، وتخوفات كبيرة من سقوط الغرب نهائيا بسبب إخفاقاته الكثيرة على جميع الأصعدة.

وأمام هذا الواقع الثقيل، لا يسع الاتحاد إلا أن يكون في مستوى الأمة والرسالة والقيم التي ينتظرها العالم منه ومن رجاله بمواقفهم من الأحداث والوقائع.

أما على مستوى الأمة فقد أراد الله لهذه أن تكون أمة الشهادة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) [البقرة 143]. وأقل ما توصف به الشهادة العدالة في الموقف والحضور، والاتحاد ممثلا للأمة، لا يسعه إلا أن يكون في مستوى من الحضور والعدالة في مواقفه ليكون شاهدا مقبول الشهادة في هذه الدنيا، ولتكون لشهادته مصداقية، مؤثرة في العالم كله، في داخل الأمة وخارجها، لا بد من أن تكون في مستوى الحدث، شكلا ومضمونا.

وأما على مستوى الرسالة، فهي رسالة الإسلام الخاتمة التي كانت على فترة من الرسل، التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم، هداية للبشرية كافة، فلا يمكن للأتحاد في خطابه أن يصف بأقل من ذلك، بوصفه حاملا رسالة هداية ورشد وإنقاذ للناس كافة.

وأخيرا على مستوى القيم، فالعالم اليوم يعيش مأساة كبيرة بسبب الانحرافات التي تغطي الحياة البشرية والاختلالات التي تغطي الحياة البشرية عامة والغرب خاصة. فلا يليق بالاتحاد الذي يمثل الأمة الإسلامية، أمة الشهادة والأمة الوسط، وحامل الرسالة الخاتمة، أن يكون في قيمه أقل من المطلوب الذي يتطلع إليه البشر عموما.  

ورجال الاتحاد يعرفون بلا شك هذا وأكثر، فهم علماء ودعاة وممارسون للشأن العام، في الأطر الدعوية والسياسية والاجتماعية، ومقالي هذا ليس لإعطاء الدروس لهذه الفئة من الأمة، وإنما ما أريد تناوله هنا هو موضوع التفاعل السياسي مع واقع الأحداث المحلية والدولية؛ لأن المجال السياسي فيه من المتغيرات والتقلبات ما ليس في المجالات الأخرى، وما تعاني منه الأمة في المجال السياسي، لم تعان منه في مجالات أخرى؛ بل إن ما خلفته الخلاقات السياسية في الأمة من الآثار السلبية والمآسي والاختلالات، أكثر بكثير من الأمور التي نعاني منها في القضايا الأخرى، وكما قال السهريتاني "ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان" [الملل والنحل 1/3].

والمطلوب من الاتحاد ليس الغفلة عن الواقع السياسي أو القفز عليه وتجاهله، وإنما المطلوب هو الاهتمام به وفق منظور الهيئة وخصوصياتها المختلفة عن المباشرين للنشاط السياسي الحزبي الفئوي، في السلطة كانوا أو خارجها. 

على أن الاتحاد لإعتبارات سالفة الذكر وثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه، وثقله في واقع الأمة وما ينتظر منه من مواقف وأراء ومبادرات، لا بد من أن يكون حضوره دائما ومستمرا في واقع الناس، ولكن بطريقته كهيئة علمائية دعوية إصلاحية، وليس كحزب سياسي أو طرف منافس لجهة من الجهات السياسية الرسمية والشعبية.

ذلك أن الموقف العلمائي ليس كموقف غيره من الجهات الأخرى... فهو يمارس النشاط السياسي، ولكن ممارسة الداعية إلى الخير، وليس كمنافس لطرف أو أطراف سياسية محلية او دولية، أو داعما لها أو حاقدا عليها...

عندما أسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في سنة 1931، وفي ذهن الرواد الأوائل ومنهم على وجه الخصوص الشيخين ابن باديس والإبراهيمي، مشروع بناء جيل على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل، وذلك بتصفية الاذهان من افكار عششت فيها، من غلبة الاستعمار، وخرافات الطرق الصوفية، ومطاردة الفقر والجهل...إلخ.

وذلك لأن الجزائر قد مر عليها قرن من الاستعمار الاستيطاني، أعلنت فيه السلطات الاستعمارية عن تشييع جنازة الإسلام من الجزائر، وقد فشلت محاولات حركات جهادية استمرت أكثر من ثمانين سنة، ونشأة حركة سياسية محتشمة، بعضها في داخل البلاد على يد الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر، وبعضها الآخر في الخارج ومنها على وجه الخصوص نجم شمال افريقيا الذي انتقل إلى البلاد في سنة 1937 بتسمية جديدة هي حزب الشعب الجزائري، وكان شعار هذا الحزب الأبرز هو "المطالبة بالاستقلال".

وفي إطار الجدل السياسي الذي كان في سنة 1936، حيث كانت الحركة السياسية تغطي الساحة الوطنية في الجزائر، عيب على جمعية العلماء عدم الاهتمام بالنضال السياسي على طريقة الأحزاب السياسية، ومن ذلك المطالبة بالاستقلال الذي يقوم به نجم شمال إفريقيا وحزب الشعب بعد ذلك، وجمعية العلماء يومها كانت المؤسسة الوحيدة التي تغطي كل التراب الوطني، ولها من الاتباع ما لا يوجد في أي تنظيم آخر بمن في ذلك التيار السياسي الوطني الاستقلالي. فرد ابن باديس رحمه الله بقوله: "ونحن نحترم رأي هذه الأقلية ونؤمل بقاءها على رأيها، وهي تطالب بالاستقلال وأي إنسان يا سادة لا يحب الاستقلال؟ إن البهيمة تحن إلى الاستقلال الذي هو أمر طبيعي في وضعية الأمم" [أنظر: عبد الحميد ابن باديس حياته وآثاره 4/334].

فعدم اهتمام الجمعية بالمطالبة بالاستقلال في خطاباتها، لا يعني أنها لا تهتم به، وإنما اختارت طريقا آخر وهو العمل للإستقلال وتهيئة إطاراته الذين سيحققونه؛ لأن الاستقلال لا يتحقق بالمطالبات السياسية، وإنما يتحقق بالعمل والجد والاجتهاد والجهاد، وذلك ما حصل بالفعل، فالتربية على التضحية والاجهاد والجهاد هي التي أثمرت الثورة المباركة 1954/1962.

لا شك ان الاهتمام بالشعار السياسي جزء من العملية التعبوية، ولكنه ليس من المهام التي يصلح للقيام بها كل الناس، فليس كل الناس يصلحون لكل شيء!!

إن القضايا والمواقف السياسية، من اكثر الأمور تقلبا؛ لكونها تعاملا مع امور آنية في الغالب، إضافة إلى كونها ليست نوعا واحدا، يقوم به كل الناس كيفما اتفق...، لا سيما بالنسبة لمؤسسة في مقام الاتحاد الذي -كما أسلفنا- ليس من مهامه الوقوف عند الأمور الآنية العاجلة، بقدر ما يعنيه الأمور الاستراتيجية ذات الأبعاد الكبرى، للأمة وللرسالة واقيم، ومن ثم قد يحسن به غض الطرف عن بعض الأمور في سبيل تحقيق الأولى، كما قد يكون الأفضل تجاهل بعض القضايا المهمة في سبيل تحقيق الأهم، والضابط في ذلك لا بد من وضع خطة تحدد فيها أولويات الاتحاد في إطار مهامه المتعلقة بالأمة والرسالة والقيم.

تحتوي الخطة في تقديري ما يلي:

-        أولويات الأمة في هذه المرحلة الحرجة

-        ابعاد الرسالة الدعوية والحضارية

-        دور الاتحاد في العمل على إشاعة القيم الفاضلة

وذلك يتطلب وضع الخطة العملية التنفيذية في جميع هذه المجالات كلها، حتى لا يقع التناقض بين هذه الجوانب كلها.

ذلك ان للاتحاد ثلاث مساحات يعمل على التأثير فيها وتوجيهها والمساهمة في إصلاحها، وهذه المساحات في تقديري لا تتجاوز ثلاث ساحات: ساحة الشعوب، وساحة الأنظمة، وساحة الغرب.

أما ساحة الشعوب، وأقصد بالشعوب شعوبنا الإسلامية التي تعاني مظالم النظم الجاثمة على صدرها، وموقف الاتحاد في ذلك، موقف متناغم مع خيارات الشعوب بشكل عام، وهذا في الواقع لا يحتاج إلى تدليل وتبرير، اما ساحة الأنظمة فالأمر مختلف؛ لأنها أنظمة استبدادية على العموم وليست عادلة مع شعوبها، ومع ذلك فهي مستويات وليست نمطا واحدا، ثم إن هذه الأنظمة، في عموما ليست أنظمة حرة هي الأخرى؛ بل هي أنظمة تعيش تحت ضغط قوى الاستكبار الدولية، ولكنها بدلا من ان تستعين بشعوبها على تلك القوى، فقد اختارت الاستبداد بشعوبها، ففرضت عليها ما تعاني منه من القوى الاستكبارية.

والاتحاد هنا وفي ظل هذه الثنائية، يعيش في ظل خيارات شعوب وضرورات أنظمة كما يقول الدكتور محمد عمارة رحمه الله، ومن ثم على الاتحاد مراعاة هذا الأمر، فليس ضروريا أن يتخذ الموقف الحدي أو الاصطفافي إلى أحد الطرفين على حساب الآخر؛ لأن مهمته الأفضل هي البحث عن مداخل تمكنه من افتكاك بعض حقوق الشعوب، سواء بالتدخل وسيطا بين الشعوب وأنظمتها بطريقة ما، أو بالمواقف المفضية إلى مساعدتهما على تحقيق الأولى والأفضل في مواجعة العدو الحقيقي للأمة، بحيث يخفف من الحدة التي بينهما، ويهون مما بينهما من توترات، وإذا اصطف الاتحاد إلى أحد الطرفين، فإنه لا يصلح لتلك المهمة الأفضل.

ومبرر ذلك أن مكانة الاتحاد ووظيفته، ليست من السذاجة بحيث، تحرص على إرضاء الجماهير على حساب المواقف والخطط الاستراتيجية الكبرى...، او مساندة الأنظمة على حساب حقوق الشعوب المسحوقة.

فشعار المطالبة بالاستقلال الذي لم يكن من اهتمام جمعية العلماء في خطاباتها الجماهيرة العامة، لا يزال محل إدانة إلى اليوم من قبل الكثير ممن درسوا تاريخ الجزائر، ولكن خطة جمعية العلماء وحكمائها، لم يندموا على ذلك؛ بل إن الحقيقة التي يعترف بها كل الجزائريين وغيرهم ممن درسوا حركة جمعية العلماء، أن دور جمعية العلماء في التهيئة للثورة ومتطلباتها لم يقم به أحد من الحركات الجزائرية السياسية والنقابية والخيرية الأخرى. روى لي أحد المجاهدين في الثورة، أنه كان من الشباب المكلفين بالعمليات التنفيذية، وكان مرشدهم واحد من معلمي جمعية العلماء، فكانوا يذهبون إليه مرتين في الأسبوع، لتعبئهم وإرشادهم... قال لي هذا الرجل: في أول لقاء قال لنا ذلك المرشد، أنا مهمتي معكم هي أنهكم إذا مِتُّمْ تموتون شهداء، ولا تموتون جيف!!

ولكن كيف العمل مع هذه المظالم التي تطوق شعوب العالم الإسلامي من كل جهة، من الاستعمار والأنظمة الاستبدادية؟

التعامل مع هذا الواقع يقتضي الكثير من الحكمة والحيطة، وربما لا نوفق في وضع موقف واحد يصلح لكل الحالات، ومع ذلك لا بد من وضع محاور كبرى تكون بمثابة الخط العام الذي تندرج تحته جميع المواقف، وهذه المحاور في تقديري لا تتجاوز الثلاثة.

المحور الأول: هو المواقف القيمية، وهي المواقف التي تمليها مبادئ الإسلام وقيمه، لا سيما فيما يتعلق بالأمور الأخلاقية والعلمية التي هي محل جدل عالمي عجز الفكر الإنساني بصوره الحالية عن الاستجابة للمطلوب، وهذا من مهامنا بما نمتلك من القيم والتنظير لها ما يفتقر إليه العالم.

المحور الثاني: الموقف من أعداء الأمة وواجب الأمة تجاههم، مثل الموقف من المقاومة في مواجهة الصهاينة، مواقف لا يقبل التغير أو التحول، ومثل ذلك في جميع قضايا الأمة في مواجهة الاستعمار، على خلاف ما بين الأنظمة الإسلامية من خلافات، فلا ينبغي إنزالها نفس المنزلة، ولو كان الأمور فيها غلبة ظن؛ لأن واقع الأمة لا يتحمل المزيد من الانقسام والتشتت.

المحور الثالث: الموقف من خلافات الأمة داخل المجتمعات الإسلامية، فيما بين الفئات والجماعات والفرق والطوائف، وما بين الأنظمة والشعوب، لا ينبغي أن نصطف؛ بل إن الموقف المناسب هو الوساطة؛ لأن المعارك بين أطراف الأمة معارك الرابح فيها خاسر، ولذلك الموقف المناسب هو العمل على الوساطة وتكثيفها من أجل انتزاع فتيلها، اقتصادا في الأموال والأرواح، وتقريبا بين الأطراف المتنازعة.

وهذا لا يعني السكوت عن الباطل؛ بل لا بد من تسجيل الموقف بموقف عام، يدين كل ما يضر بالأمة ومصالحهما العاجلة والآجلة.

المحور الرابع: لا ينبغي أن يضطر الاتحاد إلى الكلام دائما؛ لأن السكوت عن بعض الأمور أحيانا يكون موقفا أبلغ من الكلام.

 

ـــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين   


: الأوسمة



التالي
رغم الحظر والقيود.. مظاهرات تجتاح شوارع إيطاليا دعمًا للشعب الفلسطيني
السابق
المغرب.. مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تستعد لإطلاق مسابقة "الحديث النبوي الشريف"

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع