واجبات الاتحاد تجاه فلسطين
بقلم: التهامي مجوري
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
لقد أعاد طوفان الأقصى القضية إلى مربعها الأول، وهو أن القضية الفلسطينية، قضية احتلال، تشملها المقررات الدولية، لتصفية الاستعمار، ولكن التآمر الغربي الذي أراد بعد الحرب العالمية الثانية، زرع النبتة الصهيونية الخبيثة في منطقة الشرق الأوسط، عمل على خلاف ذلك، متجاهلا ما أقره العالم بمبدإ تصفية الاستعمار.
ولكن ها هو طوفان الأقصى بعد ما يقرب من ثمانية عقود من المعاناة، يعيد القضية إلى مربعها الأول، فأسقط كل المساعي والجهود الغربية الداعمة للمساعي الصهيونية ومن وراءها، التي بذلت خلال العقود السبعة الماضية، من أجل تثبيت الدولة الصهيونية في قلب العالم الإسلامي، كما أبطل كل ما في معناها من مبادرات التسوية والتطبيع والمجاملات المختلفة.
إن ما حققته عملية السابع من أكتوبر، مكسب للقضية لم تحلم به الأمة من قبل؛ ولم يُرَ مثله منذ حرب أكتوبر 1973، ولكن هذه المكاسب، إذا لم تجد محاضن لحسن الإستثمار فيها ستذهب أدراج الرياح، مثلما ذهبت الكثير من مكاسب الأمة والفرص الكثيرة، التي لم تلق الرعاية الكافية من قبل إطارات الأمة ونخبها.
والشواهد كثيرة على مكاسب الأمة في تاريخها الطويل، في مقارعة الغرب بجهود حركات التحرير الوطني، مثل الانتصارات التي حققتها حركات التحرر الوطني، في الجزائر والعراق ومصر...إلخ، او في إطار انتصارات العطاء الإسلامي بإضافاته االثقافية والأخلاقية في مقاومة الفساد، كجهود الحركة الوهابية في الجزيرة العربية، والإخوان في مصر، وجمعية العلماء في الجزائر وغير ذلك من الحركات التي لم تخل منها بقعة في العالم الإسلامي، فجميع هذه الخبرات التي يعرفها الجميع، لم تجد طريقها لتتربع على الكرسي الذي يليق بها، بسبب عدم احتضانها بالقدر الكافي والواعي لطبيعة المعركة بيننا والغرب، إعلاميا وسياسيا وثقافيا؛ بل تحولت المغانم التي حققتها الأمة بجهود تلك الحركات المتناغمة في غاياتها الوطنية التحررية، إلى مغارم بسبب الصدامات التي شهدها العالم الإسلامي، بين التيار الإسلامي والتيارات الوطنية والقومية، وبين التيارات الإسلامية فيما بينها، وفيما بين التيارات القومية والوطنية فيما بينها أيضا، خلال عقود الخمسينيات إلى السبعينيات، إذ نزغ الشيطان الغربي بين جميع هذه التيارات، التي انفقت عقودا من الزمن في محاربة أوهام تبنتها التيارات عن بعضها البعض، فكان الذي كان ولا نزال نتجرع مرارته إلى اليوم. فما كان بين هذه الفئات كلها من صراعات، لم يجد ما يبرره إلا ظنون السوء المتبادلة بينهم، مغذاة التغذية الماكرة من قبل القوى المستكبرة، ولقيت نفوسا مهيئة بيننا فتشربتها، وصدق مالك بن نبي رحمه الله عندما أطلق مصطلح "القابلية للإستعمار" على شعوب الأمة ما بعد سقوط الأندلس، بسبب استعداداتها لتنفيذ ما لا يخدمها (قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِینَ أَعۡمَـٰلًا * ٱلَّذِینَ ضَلَّ سَعۡیُهُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ یَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ یُحۡسِنُونَ صُنۡعًا) [الكهف 103-104].
وليس بعيدا عنا تجربة الانتفاضات التي شهدها العالم العربي تحديدا، في سنة 2011 فيما يعرف بالربيع العربي، والتي فاجأت الجميع، التي لم تستفد منها الأمة القدر اللازم، بسبب المواقف المتضاربة بين نخب الأمة، التي رأى بعضها أنها مؤامرة غربية على الأمة، كما رأى غيرهم غير ذلك.
لقد كانت تلك النتفاضات فرصة ثمينة، ولكنها لم تعمر طويلا؛ بل العكس تحولت إلى انتكاسة، والسبب دائما العجز في احتضان الفرص بالقدر الذي تستحقه، سواء بسبب التفاؤل المبالغ فيه، أو بسبب عدم إعداد العدة اللازمة التي تقتضيها هذه الفرص.
إن الفرص التاريخية التي تظهر بين الفينة والأخرى، ما هي إلا حالات استجابة لواقع تاريخي معين قابل للإستثمار، تظهر بأشكال وصور مختلفة، منها طموحات الشعوب وثمار لجهودها وجهادها، ومثلما هي مراحل قابلة للإستثمار، هي حالات قابلة للتفلت أيضا إذا لم تجد المحاضن الدافئة لها، والقادرة على خدمتها وحمايتها من المؤثرات الجانبية.
على أن ما حدث في التاريخ، قابل للتكرار متى توفرت أسبابه وانتفت موانعه، ومن ذلك ما نشهد اليوم من المكاسب التي حققتها المقاومة في غزة بفلسطين، سوف يكون لها نفس المصير لا قدر الله، إذا لم تجد الاهتمام والرعاية الكافية؛ لأن هذه الانتصارات التي حققتها المقاومة، والتي هزت العالم كله، مرشحة لقلب موازين العالم وقيمه الثقافية والاجتماعية والسياسية، وذلك اكبر من حجم الاستعدادات التي عليها الأمة اليوم، ومن ثم فإن ما يُنْتظر من الأمة ومن نخبها كثير أيضا.
إن الحرب على غزة ستتوقف طال الأمد أو قصر، وسيندم الذين تاخروا عنها وعم متطلباتها، والمكاسب التي تحققت، ستبقى في رصيد رجالها؛ بل ستضاف إلى رصيد الإيجابيين من رجال الأمة الأوفياء، وذلك لا خوف عليه من أحد، صديقا كان او عدوا، وإنما المنتظر والمطلوب من الأمة، هو إيجاد محاضن الاستثمار لتلك المكاسب، فهل هذه المحاضن موجودة الآن؟
إن ما يترتب عن معركة طوفان الأقصى سيكون أكبر بكثير من المعركة نفسها، وأول ما ستجابه به الأمة، هو الحصار الذي سيُضْرب على غزة تحديدا وعلى الفلسطينيين عموما، سواء كان في إطار التحضير لحل الدولتين الذي يخدم مشروع الصهاينة والغرب، أو في إطار الصراع من أجل حماية الصهاينة.
وخبرة المقاومة سوف لن تقف عند التغني بأنها صمدت امام جيش قوي وكفى!! وإنما ستتحرك آلة الدراسات المعمقة، التي ستتحول مع تطور المقاومة إلى مستوى أعلى من الذي هي عليه، فتعمل على تقوية آلياتها وفق ما تقتضيه المرحلة المقبلة، أما ما اكتشفته المقاومة وتحكمت فيه، فالمحافظة عليه مستقبلا تحصيل حاصل، ولكنه غير قابل لإعادة الاستعمال، ولذلك لا نجد انتصارات الشعوب كررت نفسها، فالثورة الجزائرية ثورة عملاقة، ولكنها لم تتكرر، ثم ما جرى من انتصارات في الفيتنام لم يتكرر؛ بل إن الثورة الشعبية الإيرانية في سنة 1979 لم تتكرر، وإن كان للربيع العربي شبه بها.
ومع كل ذلك فإن المقاومة بانتصاراتها المطردة خلال أربعة اشهر ولا تزال تحقق الانتصارات...، قد نقلت القضية إلى محاضن اكبر واوسع من الساحات العربية والإسلامية، ففي الوقت الذي سارعت بعض الدول العربية إلى الاصطفاف في صف الطروحات الصهيونية، في انتظار القضاء على المقاومة وعلى حركة حماس تحديدا، انتقلت القضية من مربعها الضيق العربي والإسلامي، إلى ساحات اوسع وأرحب في العالم، لتحتضنها شعوب العالم، عبر المسيرات المليونية، وتحريك الدعاوى القضائية، والتغطيات الإعلامية المهنية العالسة، وإلى بعض أحراره العالم من الحركات الشعبية، الذين اصطفوا في أروقة محكمة العدل الدولية بالمئات للدفاع عن غزة وإدانة الصهاينة.
وواجب اتحاد العلماء اليوم –في تقديري- امام هذه الفرصة الثمينة للأمة، هو الاستثمار فيما لا يستطيعه الكثير من الناس أفرادا وحكومات، بسبب ما لبعضهم من الموانع التي تحرمهم القدرة على الاستثمار فيما ينبغي الاستثمار فيه، في هذه الأوضاع المتسارعة والمعقدة. وإن كانت الأمة قد وجهت الكثير من قواها السياسية والاجتماعية والثقافية، صوب النشاطات الإغاثية والإنسانية، وذلك مهم أيضا، فإن هناك مساحات كثيرة لا تزال تبحث عمن يستثمر فيها، لا سيما الأنشطة الجماهيرية الواسعة، التي لم تكن من قبل، وقد أستثيرت فثارت ولا ينبغي أن تخمد، ومن الأمور العاجلة والسريعة في كسر الحصار على غزة، بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، وذلك بالاشتغال على جميع الأصعدة.
فعلى الصعيد السياسي مثلا، يمكن للاتحاد أن يقوم بالكثير من الأعمال، غير التي قام بها إلى حد الآن، من تصريحات وبيانات ونداءات؛ لأن المرحلة قد فتحت من النوافذ التي لم تكن من قبل، فأتاحت من الفرص لم تكن من قبل.
أولا: فرصة الاتصال المباشر بالقوى السياسية في العالم الإسلامي، وتحريضهم على تسجيل إسمائهم في سجل التاريخ، بمن في ذلك المعروفين بمواقهم المترددة، وذلك لتوسيع علاقات الاتحاد بقوى العالم، ومنهم الذين هم في الحكم... ففي الأمة المناصرون للقضية، والمترددون أو المتهاونون بسبب احتكار رجال السلطة الفلسطينية، ومنهم المطبع ولكنه قابل للتعامل معه، والقليل منهم المطبع المعادي لقضايا الأمة.
ثانيا: شعوب الغرب بطبيعتها غير مسيسة، ولكنها على أتم الاستعداد لمناصرة الحق متى عرفوه، وواجبنا العمل على إبقاء جذوة الانتفاضات الشعبية الغربية واستمرارها، سواء بالمظاهرات أو بغيرها من صيغ الاحتجاج المختلفىة، واستثارة الحقوقيين، وذلك باحتضان قرار المحكمة الدولية والاشتغال عليه، أو بتحريك دعاوى أخرى اخرى محلية على مستوى الدول، مثلما فعل بعض الحقوقيين التونسيين والجزائريين، إذ للشعوب الحق في تحريك دعاوى قضايا ضد حكامهم، الذين يتصرفون في ممتلكاتهم فيما لا يخدمهم...، فشعوب الغرب يتحركون في هذا الاتجاه متى اقتنعوا، فلو أن الشعب البريطاني مثلا يقتنع أن دعم الصهاينة على حساب مصالحه الوطنية فإن واقع العلاقات البريطانية الصهيونبة سينقلب رأسا على عقب.
ثالثا: على المستوى الحقوقي، هناك مؤسسات دولية، يمكن اللجوء إليها لتحريكها في اتجاه تطبيق القوانين الصادرة عن المؤسسات الدولية الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والمحكمة الدولية... في صالح الشعوب المظلومة، ومنها قضية فلسطين، وكل ذلك يتم بطرق مختلفة، منها الاتصال المباشر وغير المباشر.
رابعا: دعوة الشعوب والنظمة العربية والإسلامية إلى الاهتمام ببلادهم، بتقليص مساحات الخلاف، والحرص على بناء أنظمة اجتماعية، سياسية، اقتصادية قوية، تقوى على الاستغناء عن الغرب وقيمه ونظمه، وعلى مجابهة التحديات الدولية التي تفرض نفسها علينا بقوة المادة والمعرفة.
اما على المستوى المعرفي، فلعل واجب الأتحاد يكون أكثر وضوحا، بحكم المهمة والتخصص، واوجب الواجبات في ذلك القيام بأنشطة معرفية متعددة، بالكتابة وتنظيم ملتقيات ومؤتمرات دولية، وإصدارات لأبحاث في مختلف المعارف الانسانية، في السياسة والعلاقات الدولية، والعلوم الإنسانية كلها، وذلك بنقد وتقييم النظريات المعرفية التي تحكم العلام اليوم؛ لأن العالم اليوم في اتجاه إعادة النظر في كل شيء؛ بل في كل ما انتج الغرب من معرفة خلال القرون الثلاثة الماضية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين