البحث

التفاصيل

تفكيك منظومات الاستبداد (٢٨): حدود سايكس-بيكو لا اعتبار لها في أحكام الجهاد

الرابط المختصر :

تفكيك منظومات الاستبداد (٢٨): حدود سايكس-بيكو لا اعتبار لها في أحكام الجهاد

بقلم: جاسر عودة

عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

من المعلوم من الإسلام بالضرورة أن الجهاد في سبيل الله مشروع كواجب مفروض على كل مسلم في أمة الإسلام لدفع المعتدين ونصرة المستضعفين. قال تعالى في كتابه الكريم: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا. الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا - النساء ٧٥-٧٦)، وقال: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين - البقرة ١٩٠)، وقال: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز - الحج ٣٩-٤٠). هذا الخطاب القرآني المباشر والأمر الإلهي الواضح الصريح: (قاتلوا) يتعلق بكل فرد من أمة الإسلام كلها في كل أنحاء الدنيا، ولا يتعلق بدولة معينة ولا ولاية ولا مملكة ولا شعب ولا قبيلة ولا جهة ولا منطقة بعينها، ولا يقتصر على أغلبية عددية ولا أقلية من المسلمين، ولا يعرف حدودًا يضعها المسلمون بين ولاياتهم إن كان هناك حدود، فضلًا عن الحدود التي يفرضها أعداؤهم عليهم كما هو واقعنا السياسي المرير.

ولكن فريضة الجهاد في سبيل الله لرد العدوان ونصرة المستضعفين ليست واجبة على كل فرد من أفراد الأمة بعينه، أو ما يسمى في المصطلح الفقهي بفرض العين كما هي فروض الصلاة والزكاة والصوم والحج، بل هي واجب عام على مجموع أمة الإسلام حتى تتحقق مقاصد القتال في دفع الاعتداء وحفظ النفوس والأْعراض والأموال، أو ما يسمى في المصطلح الفقهي المعروف بفرض الكفاية، فإذا قام به عدد يكفي ويسد الحاجة فقد سقط الفرض عن كل فرد من أفراد الأمة المسلمة، وإذا لم يقم به من يكفي الأمة كان واجبًا شرعيًا لازمًا على كل مسلم في كل مكان في العالم، والوجوب يتعين أكثر بمعايير الأقرب فالأقرب جغرافيًا والأقدر فالأقدر نفسًا ومالًا وبسائر الوسائل، أن يقوموا بدورهم في نصرة إخوانهم وأخواتهم من المسلمين، جهادًا في سبيل الله بالنفس والمال وسائر الوسائل.

والأقرب فالأقرب جغرافيًا معناه المقيمون في ما يتصل بأرض المعتدَى عليهم من الأمة، والأقدر فالأقدر نفسًا ومالًا وبسائر الوسائل معناه كل من يستطيع أن يساعد باليد أي القتال الفعلي أو اللسان أو المال، وعلى رأس المتوجب عليهم أصحاب السلطة من المسلمين، الذين يستطيعون بأوامرهم أن يحركوا الجيوش المقاتلة وينفقوا الأموال المعتبرة ويقودوا الشعوب الغاضبة. الحكام على رأس الفئات المنوط بها القيام بهذه الفريضة وأول الآثمين بتضييعها. هذا هو الحكم الشرعي الذي لا غموض فيه فيما يجري في فلسطين المباركة، وما دامت الكفاية لم تحدث -كما هو معلوم اليوم مما يحدث على أرض الواقع- فنحن أمام إثم يأثم به كل مسلم منا في هذا العالم - الأقرب فالأقرب، والأقدر فالأقدر نفسًا ومالًا وبسائر الوسائل، و على رأس الآثمين حكام الأمة وأصحاب السلطات العسكرية والسياسية والاقتصادية فيها.

وهذا الحكم الشرعي فيما يحدث اليوم في فلسطين من بدهيات التشريع الإسلامي الذي لا يختلف عليها أحد من أهل العلم بالإسلام على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، بل الأبعد من ذلك أنه حكم منطقي يحكم به كل عاقل حتى من غير المسلمين، ونحن نرى بأعيننا مصداق تطبيق أعداء الإسلام لحكم التناصر فيما بينهم هذه الأيام، إذ نجد أباطرة العنصرية البيضاء المعاصرة وبلطجيتهم المستأجرين من حكام الصهاينة يطبقونه حرفيًا في حربهم على الإسلام، يتناصرون فيما بينهم بغض النظر عن حدودهم ”الوطنية“ ويرسلون أبناءهم للموت في فلسطين الأقرب فالأقرب ثم الأقدر فالأقدر نفسًا ومالًا، وعلي رأس المتضامنين حكامهم وأصحاب السلطة السياسية والاقتصادية فيهم. فما بال أمة محمد ﷺ لا تدافع عن نفسها وهي تُقتل ويُذبح رجالها ونساؤها وأطفالها جهارًا نهارًا عيانًا بيانًا؟ ما الذي يمنعها؟

ولعل من أكبر موانع دفاع أمة محمد ﷺ عن نفسها كذبة شاعت بين المسلمين اليوم، وهي من أكبر الأكاذيب والضلالات التي يروج لها المنافقون المعاصرون -أقصد المعنى العقدي للنفاق- ويعينهم عليها فقهاء مأجورون اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلًا، ويعينهم إعلاميون محترفون للكذب يبيعونه في سوق النفاق في الإعلام الرسمي والتواصل الاجتماعي، هذه الكذبة مفادها أن ما يسمى في المصطلح السياسي المعاصر بـ "حدود الدول الوطنية وسيادتها على أرضها" قد حوّل واجب الحكام والجيوش والشعوب في كل دولة وطنية معاصرة إلى حماية "حدود" و "سيادة" تلك الدولة فحسب، وأن ما يحدث خارج حدود كل وطن من البلاد الوطنية المعاصرة هو شأن ”خارجي“ يحدث مع ”جيران“ أو ”بلاد مجاورة“، وأنه يمكن التدخل فيه من باب مصالح الدولة العليا إذا فاتت أو أمنها القومي إذا تأثر ليس إلا، وليس من باب الفرض الواجب الأصيل على الدولة ولا الشرط اللازم لشرعية وجودها أصلًا كدولة مسلمة، وشرعية حكامها أصلًا كحكام شرعيين على شعوب مسلمة. ونوط فريضة الجهاد في سبيل الله بحدود الدولة الوطنية هو كذب على الله ورسوله ﷺ وليس هناك أبعد عن الحقيقة ولا أضر على المصالح العليا لأمتنا وديننا -بل وعلى الإنسانية- منه.

صحيح أن الاتجاه العام لعلماء عصرنا هو أنهم لم يروا مانعًا شرعيًا في أن يكون هناك تقسيمات إدارية لأمة الإسلام إلى دول أو ولايات أو ممالك تقوم كل سلطة منها بواجبات إدارة الشؤون العامة ووضع السياسات العامة التي تسوس بها شعبًا معينًا، أي المشروعية المبدئية لأن تؤدي الدولة المسلمة الدور الذي تؤديه الدول الوطنية في واقعنا السياسي المعاصر، إلا أن هذه المشروعية لوجود دول قومية أو ولايات أو مناطق سلطة أو ممالك إسلامية لا تعني أن واجبات الجهاد في سبيل الله دفاعًا عن الأمة وردًا للاعتداءات على شعوبها وأرضها ومقدساتها ليست مفروضة على الجميع أو سقطت بوجود الحدود الدولية المتعارف عليها، بل يبقى الجهاد في سبيل الله واجب على كل الأمة مجتمعة، وتبقى أدلة أحكامه الشرعية تخاطب المسلمين من حيث كونهم مسلمين فحسب، حكامًا ومحكومين دون تعلق بحدود ولا ”سيادة“، بل هي لازمة وملزمة لكل مسلم، الأقرب فالأقرب والأقدر فالأقدر نفسًا ومالًا، ويبقى على رأس الملزمين بهذه الفريضة الشرعية حكام المسلمين وأصحاب السلطات العسكرية والسياسية والاقتصادية فيهم، لم يغير تلك الفريضة شيء ولم ينسخها شيء ولم يخصص أدلتها الشرعية من آيات القرآن وأحاديث النبي ﷺ شيء.

أو لنقل -بعبارة أخرى- إن حدود "سايكس-بيكو" ليس لها اعتبار شرعي في فقه الجهاد في سبيل الله، ومعلوم أن هذه الحدود كان قد ابتدعها الوزيران الفرنسي بيكو والبريطاني سايكس إبان الاحتلال الفرنسي البريطاني لأغلب مناطق العالم الإسلامي، فوقعا معاهدة سرية عام ١٩١٦م عُرفت بعد ذلك باسمهما ”معاهدة سايكس-بيكو“، ثم تلاها ما سمى بمؤتمر سان ريمون عام ١٩٢٠م، ثم معاهدة لوزان عام ١٩٢٣م، إلى أن وصلنا إلى المعاهدات الحالية التي بموجبها يقسم المقسم ويجزأ المجزأ، وانهارت مع هذا التاريخ المظلم من المعاهدات التآمرية كل أشكال الوحدة الإسلامية وقسّم أعداء الأمة الإسلامية أرضها إلى عشرات الدويلات المتنازعة، بدأت بالحدود الحالية لكل من دول: العراق وسوريا ولبنان وتركيا والأردن، ثم ظهرت حدود السعودية، ثم فلسطين، والتي قامت دولة الصهاينة فوق أجزاء منها عام ١٩٤٨م، وما زالت التقسيمات الحدودية و”الوطنية“ تتوسع لتشمل على مدار العقود تقسيمات جديدة لمصر والسودان والشام واليمن ووسط أفريقيا والبشناق والهند وجزر شرق آسيا، إلى آخرها، ورسمت تلك التقسيمات على خريطة العالم الإسلامي خلال القرن الماضي حدودًا ظهرت لأول مرة في تاريخ المسلمين، إلى أن وصلنا إلى كل التقسيمات والحدود الأخرى في العالم الإسلامي من المغارب العربية إلى جنوب شرق آسيا، ومن الأمم الإسلامية التي كانت ”سوفيتية“ إلى جنوبي أفريقيا.

ولا تزال المنازعات الحدودية قائمة بين المسلمين على كل الخطوط الحدودية إلا قليلًا، مما أنتج عشرات الحروب الداخلية بين أعضاء الأمة خلال القرن الماضي، فضلًا عن النزاعات بين دويلات المسلمين المعاصرة على الأرض والمياه والنفط والغاز وطرق التجارة، وبين الأدلوجات السياسية والتحيزات القبَلية والزعامات الشخصية، إلى آخره، إلى أن وصلنا إلى أنه ليس هناك في العالم المعاصر أمة أكثر انقسامًا وخطوطًا وألوانًا على الخريطة السياسية من أمة الإسلام. فأصبحت (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم - الأنفال ٤٦) منطبقة تمامًا على وضع أمتنا الحالي، ونشهد اليوم كيف تتخذ القرارات الدولية المصيرية على كل المستويات بما فيها القرارات التي تخص أمة الإسلام في أرض أُولى قبلتيها وثالث حرميها في فلسطين، وكأن الأمة الإسلامية لا وجود لها ولا اعتبار. وكان آخر فصول تلك المهزلة ما نشهده هذه الأيام الصعبة من حرب الصهاينة الإبادية على فلسطين، والتي نشهد بأعيننا جهارًا نهارًا عيانًا بيانًا كيف يساند الصهاينة فيها أنصارهم من كل ”الدول القومية“ بالمال والسلاح والنفوس، بل وكيف يدعم الصهاينة عدد من الدول التي تسمي نفسها ”إسلامية“ خدمة لمصالحهم الخاصة داخل حدود دولهم، أو بتعبير أدق خدمة لمصالح كل حاكم وآله وملئه على وجه التحديد.

ولكن، تبقى أحكام الجهاد كما هي لم ينسخها شيء، ويبقى الحكم الشرعي بوجوب نصرة المسلمين والمستضعفين في فلسطين ساريًا على كل مسلم في كل الدنيا ومسؤولًا عنه كل مسلم يوم يقوم الأشهاد، وما دامت الكفاية لم تحدث -كما هو معلوم اليوم مما يحدث على أرض الواقع- فنحن أمام إثم يأثم به كل مسلم منا في هذا العالم - الأقرب فالأقرب، والأقدر فالأقدر نفسًا ومالًا وبسائر الوسائل، وعلي رأس الآثمين حكام الأمة وأصحاب السلطات العسكرية والسياسية والاقتصادية فيها، والله المستعان.

اللهم انصر إخواننا المجاهدين في فلسطين ومن يناصرهم في كل مكان في هذا العالم، الذين يجاهدون لإعلاء كلمتك، ونصرة أمة نبيك ﷺ، وحفظ دينك، وإقامة شرعك، وخذلان أعدائك، وفك أسر أوليائك، وحفظ نفوس وأعراض الأبرياء. اللهم كن معهم ولا تكن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وآثرهم ولا تؤثر عليهم، وخذل عنهم ولا تخذلهم. اللهم أقم لهذه الأمة أمر رشد وخير، يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر. اللهم آمين.

 

——

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين





التالي
تكريم أكثر من 40 طفلا وطفلة في مركز إيواء برفح جنوب غزة لحفظهم أجزاء من القرآن الكريم
السابق
هولندا.. مساجد مدينة 'آرنم' توزع القرآن الكريم باللغة الهولندية ردًا على هجمات معادية للإسلام

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع