(الأسرة وسط الأعاصير6): إيديولوجية التحرر الجنساني
بقلم: د. سعد الدين العثماني
التوجهات التي تحدثنا عنها في الحلقات الماضية: الفردانية والحرية الجنسية وسيطرة اقتصاد السوق وتحويل الجنس إلى تجارة ضخمة، والتي تطورت على مدى عقود مديدة في الغرب، أضحت أيديولوجية يُراد لها – من قبل تيارات متحمسة – أن تصير ثقافة مفروضة على المجتمعات الغربية عبر الأنظمة التعليمية والثقافية والاجتماعية، كما يراد لها أن تعمم على مختلف المجتمعات الأخرى عبر العالم، عن طريق جماعات ضغط ومنظمات دولية، لشرعنة جميع تلك التوجهات التي تبناها الغرب وتسييسها.
إنها ليست ثقافات وتوجهات تنتشر بفعل الاقتناع أو الإرادة الحرة، لكنها تنشر قسرا عبر وسائل الهيمنة الثقافية، والسيطرة أو التحكم من خلال الوسائل الأيديولوجية والثقافية والإعلامية. وعادة ما يتم تحقيق تلك الهيمنة من خلال المؤسسات الاجتماعية والسياسية، التي تسمح لمن هم في السلطة بالتأثير بقوة وضدا على كل تحفظ أو رفض، على القيم والمعايير والأفكار والتوقعات والنظرة العالمية وسلوك بقية المجتمع.
وكان رجاء جارودي قد أشار إلى هذا الطابع الامبريالي للعولمة قائلا: “ليست عولمة “متناغمة سمفونيا”، بحيث تستنهض مشاركة جميع الحضارات وجميع الثقافات المتساوية أمام القانون، بل هي عولمة “أمبريالية”، الشكل الجديد للنظام الاستعماري الموضوع في خدمة مركز وحيد للاحتكار والتفرد بالقرار” (روجي غارودي: الإرهاب الغربي، ترجمه عن الفرنسية سلمان حرفوش، دار كنعان دمشق، ط1، 2007، ص 15).
وانتقد جارودي في نفس الكتاب بشدة هذه العولمة التي لا تكتفي بـ”تقتيل البشر” و”تدمير الطبيعة”، ولكن أيضا تشيع “الفكر الوحيد” مع “غياب كل تأمل حول الغايات الأخيرة للتاريخ الإنساني ومعنى ذلك التاريخ”. ثم يقول: “ويسمون “عولمة”، لا الحركة التي يمكن لها بإسهام الثقافات جميعها أن تؤدي إلى وحدة متناغمة للعالم، وإنما يطلقون تلك التسمية بالعكس على الانقسام المتعاظم بين الشمال والجنوب، والناجم عن وحدة إمبريالية، تدمر تنوع الحضارات وإسهاماتها في سبيل فرض “لا ثقافة” الساعين إلى التحكم بشؤون الكوكب الأرضي”.
وإذا كان روجي غارودي يتحدث عن العولمة الثقافية والهيمنة الثقافية من حيث العموم، فإن عالم الاجتماع الفرنسي إيريك فاسين يعترف – وهو الذي يدافع عن التوجهات الغربية ويعتز بها- أن الأمر يتعلق بمعركة حضارية في سياق “إمبريالية الديمقراطية الجنسية”. لذلك يؤكد على أن جميع الأديان تقود هذه المعركة في معارضة التوجهات الجنسانية الغربية المعلية للتحرر الجنسي وتحويل الجنس إلى سلعة وتجارة. يقول: “لذلك ليس من قبيل الصدفة أن الأديان الراسخة، بدءًا من الكنيسة الكاثوليكية، منخرطة جدًا في المعارك المعاصرة حول هذه الأسئلة. وبعيدًا عن تقييم ذلك على أنه انحراف، من المهم أن نفهم أهميته الكاملة: فبغض النظر عن علاقته بأسس النظام الجنساني، فإن تلك التطورات تجعل “التعالي” transcendance (يعني الاستمداد من الوحي) نفسه على المحك. هذا هو السبب في أن الفاتيكان يشكل جبهة مشتركة مع الأصولية المسيحية، ولكن أيضًا في الهيئات الدولية، مع الدول الإسلامية، عندما يتعلق الأمر بالإجهاض أو الزواج المثلي، ومكانة المرأة والجنسانية”. (مقاله La démocratie sexuelle et le conflit des civilisations).
إن إريك فاسين، يؤسس هنا للاستقطاب بين التوجهات الغربية وتوجهات الأديان وباقي العالم، ويدعو صراحة إلى فرض التوجهات الغربية على باق العالم. يقول في نفس السياق: “يمكن شرح ما نسميه إمبريالية الديمقراطية الجنسية، أو يمكن على الأقل تبرير التعبير عن نفسها، بكونها رد فعل على ردود الفعل هذه (أي على تضامن المسيحية الكاثوليكية مع الدول الإسلامية)، وذلك بتملك الحرية والمساواة المطبقتين على النوع الاجتماعي وعلى الجنسانية la sexualité، في سياق ما بعد الاستعمار، بوصفهما من رموز الحداثة والديمقراطية. وهذه الأمور لم تعد فقط مجرد رهان عام أو حتى رهان للديمقراطية. فعندما تقرض هذه الأخيرة معجمها لسياسة إمبريالية، فإنها تقدم لها الأسلحة الضرورية، في الوقت نفسه الذي تختار لها ساحة معركة مفضلة”.
ويذهب إيريك فاسين إلى أبعد من ذلك عندما يعتبر الالتزام بالمبادئ الغربية في قبول العلاقات الجنسية المثلية والتصريح بها علنا وبحرية، هي معيار قبول الديمقراطية الغربية في شكلها المرتبط بالحياة الجنسية، وهي التي يسميها: “الديمقراطية الجنسية”، ثم يقول بالحرف: “لقد أصبحت الديمقراطية الجنسية السلاح الغربي المفضل للانخراط في صدام الحضارات”.
ومصداق ذلك في واقع الأمر؛ محاولات فرض الثقافة الغربية على الدول والشعوب الأخرى، من خلال مطالبتهم بتغيير القوانين المحلية التي تجرم العلاقات الجنسية خارج الزواج (الزنا) والإجهاض والشذوذ الجنسي وتغيير الجنس واعتبارها جميعا حقوقًا للإنسان؛ وذلك هو عنوان إيديولوجية التحرر الجنساني والإمبريالية الجنسية الجديدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين