ليتفكروا- المقال الرابع والعشرون: "اقرأ" ركّزت قيمة العلم في ضمير المسلم
بقلم: بدران بن الحسن
(سلسلة ليتفكروا- المقال الــ(23): المناخ العقلي الذي أنشأه القرآن)
ذكرنا في مقالنا السابق أن أهم ما ينبغي أن ننتبه إليه هو "المناخ العقلي الذي أنشأه القرآن"؛ أي البيئة التي أنشأها لينمو فيها عقل جديد وشخصية جديدة أطلقت أكبر حركة علمية وفكرية شهدها العقل الإنساني وحولت الوجود كله مصدر للنظر والعلم والمعرفة والفكر والتجربة والاعتبار، وانفتحت على ميراث الإنسانية كلها نقدا وتقييما واستفادة وتقريبا له وفق الرؤية التوحيدية الجديدة التي فتحت للإنسان القراءة باسم الله وكرما منه سبحانه، وفي ظل ذلك المناخ العقلي القرآني نشأت الحضارة الإسلامية.
وهذا يجعلنا نتساءل: ماذا فعل القرآن حتى أحدث تلك الثورة العقلية والعلمية والفكرية في الفرد المسلم والجماعة المسلمة حتى يحدث ذلك الانقلاب العجيب والسريع، الذي أدى لتلك النهضة العلمية والفكرية، بل وفي مختلف جوانب الحياة؟!
إن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب إضافة إلى "المناخ العقلي الذي انشأه القرآن" وتناولنه في المقال السابق، فإنها تتطلب منا الانتباه إلى أن الحركة العلمية وتطور العلم لا يمكن تفسيره من خلال قواعد العلم وتوفر المنهج العلمي ووفرة المعطيات العلمية فقط، بل ينبغي أن ننظر في البنى النفسية والاجتماعية التي تشكل المحيط الذي ينشا ويتطور فيه العلم، وفي الخميرة الأخلاقية التي تجعل من العلم فضيلة وركيزة للحياة في مختلف جوانبها أيضا.
وهذا ما اكد عليه مالك بن نبي، بقوله "إن القرآن الكريم لم يأت قطعاً، وبصورة مباشرة، لا بالحساب العشري ولا بالجبر، ولكنه أتى بالمناخ العقلي الجديد الذي يتيح للعلم أن يتطور كما تطور بالنسبة إلى مرحلته السابقة في العهد الاغريقي والروماني، والأمر الجدير بالملاحظة هو أن تطور العلم لا يناط بالمعطيات العلمية فحسب، بل بكل الظروف النفسية الاجتماعية التي تتكون في مناخ معين، والأمر الجدير بالملاحظة أيضاً هو أن مراكز الاهتمام للعقل تتغير من عصر إلى آخر، من حضارة إلى غيرها، حسب التغيرات التي تحدث في المناخ العقلي بالذات" (بن بني، 1969، 27).
ولننظر إلى فكرة "الظروف النفسية والاجتماعية" التي ذكرها بن نبي، فإننا سنجد أن القرآن الكريم، ومنذ نزول "إقرأ" قد هيأ مناخا يؤمن بالقراءة والكتابة، ويؤمن بالعلم سبيلا لمعرفة الحق والدفاع عنه وحمايته. ولهذا رأينا تلك العناية بالقراءة والكتابة منذ بدأ الوحي، وكيف اشتهر "القراء" منذ أول أيام الإسلام، وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يقدم "أقرأ" الناس للقيادة العلمية والسياسية والاجتماعية وحتى القيادة الحربية. ولعل مالك بن نبي محق لما أشار إلى الفرق الجوهري بين الكتب الدينية في اليهودية والنصرانية وبين كتاب الإسلام الأول القرآن. يقول بن نبي: "بينما ينفتح كتاب العهد القديم، منذ السطر الأول في سفر التكوين، على عالم الظاهرات المادية، وينفتح كتاب العهد الجديد في إنجيل يوحنا، على عملية التجسيد، ينفتح القرآن على الجانب العقلي: (اقرأ باسم ربك)"، "فأول ما نزل به القرآن يشير إلى أهميتها، ويخصص موضوعها بالذكر، ويرسم في الضمير الاسلامي قيمتها منه اللحظة الأولى في كلمة اقرأ" (بن نبي، 1969، 34). وهي الكلمة التي رسمت وركزت في ضمير المسلم قيمة العلم في البناء الديني والاجتماعي والثقافي، وفي كل مناحي الحياة.
ولهذا شهدنا كيف نشأت في صدر الإسلام حركة التدوين، وإنتاج علوم جديدة، وترجمة علوم الأوائل، والعمل على تقييمها ونقدها وتبيئتها في البيئة الإسلامية الوليدة في الوقت الذي كانت الكتب والعلوم أمرا خاصا يحرمه الكهنة ويستأثر به الملوك والاباطرة وذوو الشأن، بينما استوى في تحصيلها وطلبها في البيئة الإسلامي الملوك والرعية، والخاصة والعامة، والفقراء والاغنياء.
بل إن "إقرأ" نقلت العرب "من أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب" (متفق عليه)، كما وصفها الحديث الشريف، إلى أمة القراءة والكتابة والتدوين ونشأة العلوم والمعارف، وصار العلم فيها فريضة، وصارت الأمية مضمومة بنص القرآن والسنة. فانظر إلى القرآن الكريم كيف يجعل الأمية سببا للانحراف عن الجادة في نقده لليهود، قال تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (البقرة، 78)، وكذلك نقد القرآن الكريم لمن يقول في امر بغير علم، في قوله تعالى: (هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). (آل عمران، 66).
لقد فعلت كلمة "إقرأ" فعلها في الضمير المسلم، بحيث أن كل ما في هذه الامة تدينا وإعمارا صار في ضمير المسلم خاضعا للعلم وللمنهج العلمي بناء على قراءة تستجلي الحقيقة في الكتاب وفي الافاق والانفس والتاريخ. وجعلت ضمير المسلم لا يخضع للتقليد للآباء والاجداد لمجرد أنهم سلف لنا وآباؤنا، بل أوكل الأمر إلى العبرة من تجاربهم ومصائرهم، لينتقل بناء المجتمع المسلم من مرحلة ما قبل الحضارة؛ مرحلة التمركز على الأشياء والتقليد إلى مرحلة الحضارة: مرحلة الفكرة والتحرر من التقليد والاحتكام إلى القيم المجردة. بل إن آيات القرآن وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم تضع الفكر والضمير المسلم في طريق العلم، وتزوده بأحسن التوجيهات المنهجية لاكتسابه، وتؤسس في وعيه أن العلم يدخل في كل تفاصيل حياة المسلم اليومية ويدخل في توجيه نشاطه، وتدعم عملياً، البناءات العقلية التي أنشأها القرآن في الفكر والضمير المسلم الذي ينطلق محصناً، مزوداً، موجهاً للقيام بمهمته العلمية والسياسية والاجتماعية (بن نبي، 1969، 38).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بدران بن الحسن: عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. باحث في مركز ابن خلدون للعلوم الاجتماعية والإنسانية/ جامعة قطر