البحث

التفاصيل

في ظلال السنة

الرابط المختصر :

في ظلال السنة

بقلم: التهامي مجوري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

في ثمانينيات القرن الماضي، كنت ادرس في المساجد بمدينة الجزائر العاصمة، وكانت طريقتي في التدريس يومها في الغالب، انني اختار حديثا نبويا مناسبا للموضوع الذي أريد الكلام فيه، ثم اتناوله بالشرح والتحليل، وفق ما يفهم من الحديث ودلالات ألفاظه العامة والجامعة، استمرت معي التجربة إلى يوم يوم الناس هذا.

وفي التسعينيات توقفت عن التدريس في المساجد بسبب الأزمة السياسية التي ألمت بالبلاد، وتوجهت للكتابة في الصحافة، التي كنت امارسها تطوعا، وفي التحاقي بالصحافة شغلت منصب رئيس القسم السياسي، وهو منصب قريب من نائب رئيس التحرير.

وكنت في كل يوم بعد الاجتماع مع الصحفيين "البريفينغ"، ومغادرة الصحفيين على مواقعهم، ابقى أنا بالمكتب في فراغ لمدة أربع ساعات على الأقل... فخطر ببالي فكرة الكتابة في الصفحة الدينية باستئناف تلك الشروح في الجريدة، وانطلقت في الكتابة وفق الطريقة التي مارستها من قبل في التدريس تحت عنوان في "ظلال السنة".

وفي يوم من الأيام اطلع أحد مشايخ الجزائر وهو الشيخ أحمد بري من تلاميذ الشيخ محمد البشير الابراهيمي رحمه الله، فبعث إلي برسالة يقترح فيها جمع هذه الشروح في كتاب ليُستفاد منها!!  كما توالت الاتصالات الهاتفية على الركن الديني، مرحبة بهذه الشروح والثناء عليها.

فتساءلت يومها، ما الذي يجعل هذا الشيخ يقترح هذا الاقتراح؟ وما الجديد في هذه الطريقة حتى تكون هذه الاتصالات...؟ وعندما بدأت في التفكير في الموضوع تذكرت أيصا أنني كثيرا ما أُسْأل من طرف المصلين بعد الدرس، عن الكتب التي أحضر منها دروسي، وآخرون يتعجبون من فهمي لبعض ألفاظ الأحاديث؛ ثم تحولت هذه الاتصالات المباشرة وغير المباشرة، إلى دافع هام لي في البحث عن الجديد في هذا الذي لم أنتبه إليه؛ لأنني في الواقع لم أضف جديدا، بل كنت أرجع إلى مصادر الشروح المعروفة، فتح الباري، وعمدة القارئ، وهدي الساري، وشرح النووي على مسلم، وشروح الاربعين النووية الكثيرة، وجامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي... وغيرهم.

وبعد النظر والتقليب في الأمر، رأيتني حقيقة اتبعت طريقة مختلفة عن الشروح المتداولة، التي تُغلِّب التخريجات الفقهية على الشروح الحديثية، حيث يُخضع الشراح الحديث إلى جملة ألفاظه، وكل لفظ يستخرج منه حكم شرعي تكليفي: وجوبا واستحبابا وإباحة، وكراهة وتحريما، وآدابا وفضائل عامة، على اعتبار ان الحديث النبوي مبين للقرآن ومهمته تفصيل ما أُجمل وتوضيح ما أُبهم...إلخ.

أما الطريقة التي تعاملت بها مع الحديث، فلا تنشغل باستخراج الأحكام بقدر ما تركز على البناء التصوري الفكري، ذلك أنني تعاملت مع الحديث مثل التعامل مع القرآن تماما؛ لأن الحديث مثل القرآن فيه الكلي والجزئي، وله أسباب ورود مثلما للقرآن أسباب النزول، وفيه أحاديث خاصة بالإعجاز، وفيه البيان والبلاغة...إلخ، وهذا موجود عند المشتغلين بالسنة ولكنه مبعثر في كتب الشروح، ولكن شاع بين الناس وغلب عليهم الاهتمام بالجانب الفقهي فأضحى هو الغالب على الكل.

ورغم انني بحثت لعلي أجد من تناول الحديث بهذه الطريقة، فإنني لم أجد إلا محاولتين إحداهما للأستاذ الدكتور نور الدين عتر رحمه الله الذي أصدر كتابا بعنوان "في ظلال الحديث النبوي"، الذي نهج فيه نهجا قريبا من الطريقة التي نتكلم عنها، ولكن طريقته اقتصرت على الجانب الفني البلاغي، اما الثانية فقد نبهني إليها الأخ العزيز "عبد اللطيف سيفاوي"، وهي تجربة أستاذ الجيل محمد قطب رحمه الله في كتابه "قبسات من الرسول"، وهي تجربة هامة وقريبة من الموضوع كما اتصوره.

وأنا على كل حال لا اجزم بعدم وجود من اهتم بالحديث على هذه الطريقة؛ لأنني لست باحيثا متفرغا للبحث، بحيث اتمكن من استقصاء كل ما انتج في الموضوع، واجزم بعدم وجود ذلك، وإنما كان همي ولا يزال هو كيف أقدم فهما سليما للحديث النبوي، بعيدا عن تناقضات الفهوم وتضاربها؛ بل إن اعتقادي الجازم بعلو منهجية النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخط طريقه في واقع الناس بأفق انساني، لا يمكن ان يقرر شيئا يبطل مع الأيام؛ لأنه جاء بالاسلام الذي أرسل الله به جميع رسله، وبمقررات الدين الذي لا تسعد البشرية إلا به كما يقول ابن باديس رحمه الله.

ومبنى هذه المنهجية بالنسبة إلينا على ثلاثة ركائز هي: القرآن، السنة، السيرة.

فلا يمكن أن يقرر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا مناقضا للقرآن، أو مخالفا لأمر أو نهي صدرا عنه في مناسبة أخرى؛ بل لا يتصور أن تكون جملة هذه النصوص المبثوثة في القرآن والسنة والسيرة، خارج وعاء منهجي ناظم لجملة النصوص كلها، مثل الخيط الذي تنظم فيه حبات العقد ليكون عقدا.

ويمكن أن نستشف ذلك من الأحاديث الجامعة التي عليها مدار الإسلام، التي أشار إلى بعضها علماء السنة، فقد روي عَنِ الإمام أحمدَ قوله :أصولُ الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمرَ: الأعمالُ بالنيات، وحديثُ عائشة :مَنْ أحدثَ في أمرِنا هذا ما ليس منهُ ، فهو ردٌّ، وحديثُ النُّعمانِ بنِ بشيرٍ: الحلالُ بيِّنٌ ، والحَرامُ بَيِّنٌ...، وعن إسحاقَ بن راهَوَيْهِ : قال : أربعةُ أحاديث هي مِنْ أُصولِ الدِّين: حديث عُمَر : إنّما الأعمالُ بالنِّيَّات، وحديث :الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ...، وحديث :إنَّ خَلْقَ أَحدِكُم يُجْمَعُ في بطنِ أمّه...، وحديث: مَنْ صَنَعَ في أمرِنا شيئاً ليس منه، فهو ردٌّ، وعن أبي داودَ ، قال :نظرتُ في الحديثِ المُسنَدِ ، فإذا هو أربعةُ آلافِ حديث، ثمّ نظرتُ فإذا مدارُ الأربعة آلافِ حديث على أربعةِ أحاديث :حديث النُّعمان بنِ بشيرٍ :الحلالُ بيِّن والحرامُ بيِّنٌ...، وحديث عُمَر :إنّما الأعمالُ بالنِّيَّات...، وحديث أبي هريرة : إنّ الله طيِّبٌ لا يقبلُ إلاّ طيِّباً ، وإنَّ الله أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المُرسلين...، وحديث :مِنْ حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُهُ ما لا يعنيه، قال : فكلُّ حديثٍ مِنْ هذه ربعُ العلمِ، كما روي عن غير هؤلاء الكثير؛ بل لم يقف العلماء عند تلك الأحاديث التي لها علاقة مباشرة بالأحكام الفقهية، وإنما انتقلوا إلى البحث عن الأحاديث التي عليها مدار الإسلام وإفرادها بالجمع، أي الأحاديث الكلية التي من صفاتها لملمة جزئيات السنة وتأطيرها في موضوعاتها المقاصدية، بحيث يندرج تحتها ما لا نهاية له من القيم والأحكام، لتكون حاكمة على غيرها من الاحاديث التفصيلية، فجمع الحافظ عمرو بن الصلاح ستة وعشرين حديثا واملاها في مجلس تحت عنوان الأحاديث الكلية، وقد ضم إليها الامام النووي أربعة أحاديث وختم بها كتابه الأذكار، ثم أضاف إليها اثني عشر حديثا فاصبحت اثنين واربعين حديثا، وهي المعروفة بالأربعين النووية، ثم أضاف إليها الإمام ابن رجب الحنبلي ثمانية أحاديث لتصبح خمسين حديثا، وشرحها، ولكن شرحها التفصيلي الذي سار عليه ابن رجب كان على طريقة من سبقه من الشراح.

ويضاف إلى أهمية الأحاديث الكلية التي عليها مدار الإسلام في بناء التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة، المسألة المنهجية، التي تمثل الإطار الكلي الذي توضع فيه وفي إطاره تفاصيل الأمور وجزئيات الحياة كلها، وهي لا تقل أهمية في غاياتها عن الأحاديث الكلية، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم، من التنكب للمنهج، ومن التحذير في الوقوع فيما وقع فيه الثلاثة الذين تقالوا عبادته صلى الله عليه وسلم فقال عنهم "من رغب عن سنتي فليس مني" (البخاري ومسلم والنسائي عن انس بن مالك)، وبمعنى آخر قد تبرأ منهم رغم أن كل واحد منهم اختار ما يراه مناسبا له في بناء علاقته بالل، فقال أحدهم أصوم ولا افطر، وقال الآخر لا أتزوج النساء، وقال الثالث أقوم الليل ولا أنام... وهذه الأفعال على ما بها من مبالغات مخالفة للفطرة، ظاهرها السلامة، وقد قام بها غيرهم، ولكن لم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، مثل ابي الدرداء وأبو هريرة وأبي ذر...، باعتبار أن أفعالهم خصوصيات فردية، أما أفعال الثلاثة فسيؤثر على المنهج، ويحدث في الأمة شرخا وخروجا عن المسار الاسلامي الذي خطه الله (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام 153].

وعلى هذا الأساس من النظر الكلي كنت اشرح الأحاديث التي اتناولها، فأبحث للحديث الذي أريد شرحه عن نقطة مركزية لتكون هي الموضوع او عنوان الحديث، ثم أشرحه وفق تلك النقطة المركزية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، ولا يمكن أن يقول كلاما كثيرا ويقصد مدلولات ألفاظه مفردة مفردة وإن اختلفت معانيها؛ لأن البلاغة التي هي ميزة الكلام النبوي تقتضي أن يكون كل حديث يهدف إلى معنى معين، إلا فيما يتعلق بالأمور التعبدية غير معقولة المعنى، فلها خصوصيتها التي لا يجوز الحيد عنها، وعلى هذا سرت في شروحي للأحاديث التي كنت أشرحها.

لا شك في أهمية الأحكام التفصيلية في البحث الفقهي، الذي سار عليه الشراح في شروحهم للسنة؛ لأن ذلك هو معنى الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين، ولكن البحث التفصيلي الموغل في التفاصيل المبعدة عن الأطر الكلية والمنهجية المقاصدية، تحرف نصوص الوحي عن مقاصدها وغاياتها المطلوبة، ومن ثم يسود التشويش على دين الله وعلى تصورات الناس العقدية وأعمالهم التعبدية والسلوكية.

 

ـــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.         





البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع