البحث

التفاصيل

الذكرى المئوية لسقوط الخلافة: نهاية مرحلة، ام نهاية مهمة؟

الرابط المختصر :

الذكرى المئوية لسقوط الخلافة: نهاية مرحلة، ام نهاية مهمة؟

الحلقة الثانية

بقلم: التهامي مجوري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

[الذكرى المئوية لسقوط الخلافة: نهاية مرحلة، أم نهاية مهمة؟ الحلقة الأولى]

 

نظام الخلافة بعد الراشدين

لقد عرفنا من خلال الممارسة السياسية في فترة الخلافة الراشدة التي اختفت مع الفتنة، بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، أن الخلافة بمعناها الإسلامي هي نظام إداري سياسي بآليات تمكن من تحقيق مصالح الناس الدنيوية والأخروية وتحميها، وعلى رأس هذه الآليات نظام الشورى، الذي يجسد مبدأ التعاقد والتوافق على تحقيق المصلحة العامة لمجموع أفراد المجتمع والأمة، بحيث لا يحكم الأمة من لا ترضى به، كما لا يستقر في المجتمع من الأمور ما يفسده، وكأن الأمر قيس على إمامة الصلاة، التي لا يحسن فيها إمامة الرجل لقوم وهم له كارهون.

وكان سبب اختفاء هذا النظام الشوري الراشد، الإنقلاب السياسي الذي حصل بعد تلك الفتنة، حيث انتقل نظام الحكم من النظام الشوري الراشد، إلى نظام الملك والتوريث، على يد الأمويين.

لقد كان انقلابا حقيقيا مكتمل الأركان؛ بل ردة سياسية عن أهم مبادئ النظام السياسي الشوري، إلى النظم الوراثية التي عرفها البشر قبل الإسلام، في الامبراطوريات المعروفة، وقد انتبه مالك بن نبي رحمه الله إلى خطورة ذلك وعبر عنه بقوله: "لست أدري لماذا لم يتنبه المؤرخون إلى هذه الواقعة، التي حولت مجرى التاريخ الاسلامي، إذ أخرجت الحضارة الإسلامية إلى طور القيصرية الذي يسوده عامل العقل وتُزينه الأبهة والعظمة، في الوقت الذي بدأت تظهر فيه بوادر الفتور الدالة على أفول الروح. فإن مؤرخينا لم يروا في تلك الكارثة إلا ظاهرة ثانوية، وهي نشوء التشيع في العالم الإسلامي، مع تداولهم لحديث... أن الخلافة تكون بعده أربعين عاما ثم تكون ملكا عضوضا"[1]. وكأنهم فهموا من الحديث أن ذلك معجزة شاهدة على صدق النبوة، ومجرد إحبار بما سيقع للأمة، أكثر منها خدثا، يهدف الحديث إلى التحذير من وقوعه.

إن ما جاء به الإسلام من قيم سياسية، كان جديدا على العالم، بما يحمل من آفاق إنسانية راقية، وقيم جامعة للعدل والحرية والاحترام والتكريم الإنساني، ولعل من أبرز القيم التي لم تعد محل نقاش وجدل بين الناس اليوم تتمثل في:

أولا: مطلق التكريم للإنسان من حيث هو (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء 70]. وما يشهده العالم اليوم من دفاع عن الإنسان وحقوقه وواجباته من القيم واجبة التحقيق في الواقع، أضحى من المسلمات التي قررها العلم وشهد التاريخ على صدقها، قد قررها الإسلام منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم براسلة التوحيد.

ثانيا: احترام خيارات الإنسان الفكرية والعقدية في إطار وحدة المجتمع (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة 256]، حيث أن من الحفاظ على كرامة الإنسان احترام خياراته؛ لأن تلك الخيارات ليست مجرد شهوة تعلق بها الإنسان، وإنما هي مسؤوليات أيضا، فكل من اختار طريقا، فهو ضمنا مستعد لتحمل مسؤولياته تجاه اختياره.

والمسؤوليات التي على عاتق الإنسان مختلفة ومتنوعة، فهي مسؤولية تاريخية يعاقب عليها التاريخ، بوصفها خاضعة لمقرراته، فما كان من الخيارات مواقفا لخط الخبرة التاريخية، يشق طريقه في الواقع، فيحقق ما يخدم الناس ويسعدهم، وإذا كان مخالفا، فإنه يعود على صاحبه بالخسران المبين في الدنيا قبل الاخرة، وهو كذلك مسؤولية سياسية اجتماعية خاضعة لمقررات المجتمع، لأن خيارات الفرد في الغالب إذا لم تكن مقبولة اجتماعيا وسياسيا، فإنها ترفض تلقائيا، وأخيرا هي مسؤولية فكؤسة عقدية، توجب علة الفرد الظهور بها لا بغيرها، يرفض الكذب والنفاق، ويفضل صدق المخالف على كذب ونفاق الموافق شكلا.

ثالثا: مطلق أداء الأمانة إلى أهلها كائن من كانوا (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء 58]، وقد اعتبر بعض أهل التفسير أن هذه الآية أصل في الفقه السياسي، لكونها ربطت بين أداء الأمانة والحكم بالعدل. قال الإمام الطبري: "هو خطاب من الله إلى ولاةَ أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من وَلُوا أمره في فَيْئِهم وحقوقهم، وما ائتمنوا عليه من أمورهم، بالعدل بينهم في القضية، والقَسْم بينهم بالسوية. يدل على ذلك ما وَعظ به الرعية  في: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ، فأمرهم بطاعتهم، وأوصى الرّاعي بالرعية، وأوصى الرعية بالطاعة"[2].

رابعا: مطلق العدل مع جميع الناس وسائر المخلوقات (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة 8]. العدل في العطاء وفي المنع وفي القضاء، ومع القريب والبعيد، والغني والفقير والصديق والعدو...إلخ. 

خامسا: ضمان الحريات؛ بل واعتبارها واجبة الممارسة على أفراد وجماعات المجتمع، وليست مجرد حقوق يطالب بها، فيمنحها أهل النفوذ لمن لا نفوذ لهم؛ لأن الحرية منحة من الله وأوجب على الإنسان بعدم التنازل عنها (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء 97]؛ لأن فقدان الحرية في المجتمع والأمة، فقدان لأهم شيء في حياة الجماعة، وقد وضع الشيخ عبد الحميد ابن باديس رحمه الله المتخلي عن الحرية والمعتدي على حريات الناس، بين الجماد والوحشية، فالذي يتخلى عن حريته يتحول إلى جماد؛ لأنه لا يشعر بشيء تجاه نفسه، والذي يتعدى على حريات غيره مثل الوحش؛ لأنه لا يشعر بها حتى يقدرها. أو يشعر بها بوصفها حقا له وحده مثل الوحوش تماما.  

وما نتج عن الانقلاب على الخلافة الراشدة، تأسيس لكل ما يضاد هذه القيم السياسية الأساسية، بسبب التراجع عن الرشد والشورى لصالح المنطق الإمبراطوري التي عاشت به البشرية قبل ذلك، وضربة للفكر الإسلامي في الصميم، فنحى واقع الأمة مناحي اخرى غير التي أسست للإسلام الذي كان بمثابة النظام الذي يفصل العالم القديم على العالم الجديد كما قال محمد إقبال رحمه الله "إن نبي الإسلام يبدو انه يقوم بين العالم القديم والعالم الحديث، فهو من العالم القديم باعتباره مصدر رسالته، وهو من العالم الحديث باعتبار الروح التي انطوت عليها فللحياة في نظره مصادر أخرى للمعرفة تلائم اتجاهها الجديد"[3].

وامام هذا الواقع الذي أفرز واقعا جديدا تتجاذبه رؤية الإسلام الجديدة التي تهدف إلى تحرير الإنسان من الألهة المحيطة به من كل جانب، من الهوى ومن الطواغيت ومن هيمنة الأفكار الفاسدة من جهة، والعودة إلى العادات السياسية الفاسدة التي ألفها البشر من قبل، وجاء الإسلام بالقضاء عليها وتبديدها، كانت الاستجابة الطبيعية  والفعل المنتظر، ظهور جملة من الأفكار لمعالجة هذا الطارئ على واقع الأمة، مدارها على اٍربعة طروحات أساسية.

الطرح الأول: طرح الخوارج الذين خرجوا في زمن الفتنة على الفئتين المتنازعتين، وهما جماعة علي وجماعة معاوية، ورفضوا أن يعالج الخلاف بينهما بالتحاكم إلى ممثلين عنهما، حيث اعتبروا ذلك خروجا عن الإسلام، باعتباره تحاكما إلى غير ما أنزل الله ورفعوا شعار (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف 40].

الطرح الثاني: طرح المعتزلة وهو طرح يركز على القيم التي تحكم المجتمع، وليس على المؤسسات، ولذلك لم يعتبروا نصب الإمام واجبا؛ لأن العبرة بإقامة تلك القيم وإشاعتها بين الناس، الذين هم ليسوا في حاجة إلى غير ذلك.

الطرح الثالث: وهو طرح من إفرازات الأزمة وأثر من آثار الفتنة، وهو الطرح الذي يرى أن نظام الحكم يؤول لمن تكون له الغلبة فيما يعرف بمصطلح "التغلب"، نزولا عند الأمر الواقع وتجنب وقوع الفتنة.

الطرح الرابع: وهو ان طبيعة نظام الحكم مسألة اجتهادية، ولم يضع لها الإسلام شكلا معينا ثابتا لا يتغير، وإنما وضع خطوطا عريضة تؤطر المنظومة القيمية، التي يجب على المجتمع توفيرها، حفاظا على المصالح العاجلة والآجلة.

والذي يبدو من هذه الطروحات أنها كانت استجابة عاجلة لأزمة ظهرت في زمن مبكر جدا، إذ لم يمر على هذه التجربة الفريدة في العالم أكثر من أربعين سنة، فكيف سقطت بهذه السرعة؟ وكيفت سلّمت الأمة بذلك بهذه البساطة؟ وكأنّ الخوارج عندما ادلوا برأيهم في الموضوع، كان الجانب القيمي حاضرا بقوة، وكأنهم كانوا يقولون يا أمة محمد!!  ويا صحابة رسول الله!! كيف ترجعون إلى أراء الرجال وامامك حكم الله في كتابه وسنة رسوله؟ فعندما رفعوا شعار "إن الحكم إلا لله"، فهم صادقون مع انفسهم، ولكنهم من الناحية النفسية لم يتقبلوا تنازل صاحب الحق عن حقه، كما لم يستسيغوا إصرار خصمه عن التمادي في الخصومة، وهم أبعد الناس عن البغي!! بحيث لجأوا إلى التحكيم فيما بينهم من خلاف، وهم في الأصل يمتلكون جميعا قدرا لا بأس به من الشرعية، يؤهلهم لأن يحسموا في الموضوع مكتفين بما بين أيديهم من وحي وبفضل قربهم من عهد النبوة، من غير أن يلجأوا إلا غير ذلك من الآليات الأخرى، وكذلك المعتزلة، الذين كانوا يرون ان سلطان القيم يدافع عن نفسه، فسهل عليهم أن يتصوروا نظاما اجتماعيا بلا مؤسسات، يسير بمجرد إيمان الناس وانضباطهم بالقيم التي تبنوها...

والسبب في هذا التوجه والتعليل بطرفيه، على ما فيه من تغليب لقوة الفكرة والقيمة في الجانب السياسي، فإنهم اهملوا المعرفة بالطبيعة البشرية، التي لها فلسفتها التي تسير عليها، فتطرفت بهم السبل إلى غير المنحى الذي ينبغي ان يكون عليه المؤمن، ولذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الغلو والفهم لنصوص الوحي بقوله "يخرج في هذه الأمَّةِ -ولم يقل: منها- قوم، تَحقِرونَ صَلاتَكُم مع صلاتِهِم، يقرؤون القرآن، لا يجاوِزُ حُلُوقَهم -أو حَناجِرَهُم- يمرُقُونَ من الدِّين مُرُوق السَّهْمِ من الرَّمِيةِ...؟"[4].

اما طروحات الباقين، فتعلق بالأمر الواقع والعودة إلى الخبرة البشرية وفق المرجعية الإسلامية، فهي أكثر مراعاة للطبيعة البشرية، ولكن عيبها انها شعرت بالضعف امام الواقع ولم تُبْقِ على هامش من المناورة الذي يمكنها من التعلق بالغايات الكبرى في التنظير للتطبيقات السياسية، فمبدأ خوف الفتنةِ وتمزق الأمة إلى أحزاب وشيع، أمر مهم، ولكن ما كان ينبغي أن يطغى الخوف من الفتنة، حتى يتحول هذا الخوف إلى سبب رئيس في تمزق صفوف الصفوة، لا سيما وان تنمر الأنظمة عندما لا تجد من كوابح الصفوة ما بمنعها عن غيها، فإنها تجلب بعضها إليها.



[1]- شروط النهضة 52، 53

[2]- تفسير الطبري

[3]- تجديد الفكر الديني

[4]- رواه الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري انظر جامع الأصول رقم 7553





التالي
مسلمون هنود يعبرون عن قلقهم إزاء نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة
السابق
ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع