معركة البويب ... فتح رمضاني إسلامي عظيم في العراق
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
كانت معركة البويب الطاحنة فاتحة الفتوحات في العراق في رمضان 13ه/نوفمبر 634م، فكانت بمثابة ثأر لمعركة الجسر التي هزم فيها المسلمون، والتي كانت البداية التي أعادت إطلاق حركة الفتوح في العراق فجددت مسيرة المسلمين في حربهم مع الإمبراطورية الفارسية.
وقعت في خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بين المسلمين والفرس، وكانت من المعارك الحاسمة في تاريخ المسلمين، وتقاس بيوم اليرموك؛ لأنها أذنت للمسلمين أن ينساحوا في بلاد الفرس.
الوضع السياسي والعسكري قبل المعركة:
إمبراطورية الفرس قوة عظيمة مجهزةٌ بأحدث وسائل التسليح في ذلك الوقت، وقد خاضت قبل ذلك عدة حروب مع المسلمين آخرها معركة الجسر، والتي استطاعت أن تحسمها لصالحها مما رفع من روحها المعنوية وأعاد لها الثقة، لكن قائد الجيوش الفارسية في المنطقة رستم كان يعلم أن ذلك النصر الميداني لن يقدم الكثير على الصعيد السياسي، فما زال المسلمون يرغبون في التوسع في الأراضي الفارسية وينشرون دينهم، لذلك قرر تجهيز قوة عسكرية قادرة على سحق قوات المسلمين وطلب من قيادته مبالغ ضخمة من أجل ذلك.
في المقابل أحدثت نكسة الجسر حالة من الانهزام النفسي والمعنوي لدى المسلمين في العراق، فتفرقت بعض قواتهم، وجعلت الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يعرض عن الحديث عن الفتوح في الجبهة الفارسية ويوقف إرسال الإمدادات، ثم حصلت بعض المناوشات بين المثنى بن حارثة الشيباني والقوة الباقية معه من فلول الجسر وبين قادة من الفرس أشعلت الرغبة لدى المسلمين لرفع راية الجهاد من جديد.
التعبئة:
وافق عمر (رضي الله عنه) على ضم من يرغب من المرتدين التائبين إلى الجيش الإسلامي، واتجهت القوات الإسلامية لتنضوي تحت لواء المثنى بن حارثة، وكان ممن نفروا جرير البجلي الصحابي الجليل ومعه قبيلته.
فتجمَّع أربعة آلاف من أنحاء الجزيرة العربيَّة، وولَّى عمرُ (رضي الله عنه) الصحابيَّ الجليل جرير بن عبد الله البجلي (رضي الله عنه) قائدًا لذلك الجيش، فخرج الجيش إلى العراق، وكان في الجيش عددٌ كبيرٌ من بجيلة قومِ جرير رضي الله عنه، ولم يكتفِ عمر (رضي الله عنه) بذلك الجيش، بل أرسل جيشًا آخر بقيادة عصمة بن عبد الله الضبي، كما أمر من تاب من أهل الرِّدَّة بالقدوم إلى المدينة، ثم أرسلهم إلى العراق كذلك.
في المقابل حشد رستم مائة ألف فارس ومعهم خمسون ألفاً من المشاة وفيلة، وعين رستم مهران بن باذان قائداً عاماً للجيش، وقد كان يعرف العربية ووالده مسلم قاتل ضد المرتدين، زحف الجيش الفارسي الجرار من المدائن إلى الحيرة لملاقاة جيش المسلمين.
كان القائد المثنى قد صقلته حملاته السابقة واحتكاكه بخبرات فذة من المسلمين، وأيضاً مجاورته للفرس واشتباكاته معهم، كشفت له خريطة التفكير الفارسية وأضاءت له نقاط الضعف والقوة، لذا قرر المثنى أن يغير مكان معسكره إلى البويب وعسكر بجنده غربي الفرات.
أحداث المعركة:
كان القائد المثنى بن حارثة من أمهر وأقدر وأخبر القادة المسلمين بالعقلية الفارسية، فقرر نقل مركز القيادة المسلمة من الحيرة إلى منطقة " البويب" غرب نهر الفرات، حتى لا يصبح صيداً سهلاً للجيش الفارسي الجرار، فكان اختيار البويب، فالبويب تقع على أطراف الصحراء العربية، وهو مكان واسع المطرد يصلح لحرب الصاعقة التي يجيدها أبناء الإسلام العرب، وفى نفس الوقت أرسل المثنى إلى قادة الإمدادات الإسلامية القادمة ليتوجهوا إلى منطقة البويب بدلاً من الحيرة على وجه السرعة، مما جعل قادة الإمدادات يقررون ترك النساء والذرية خلفهم في منطقة القادسية، مع ترك حامية خاصة للدفاع عنهم، وهذا الفعل جعل حركة الإمدادات في منتهى السرعة.
وأصبح الجيش المسلم مهيئاً للقتال جيِّدًا، وبدأ الجيش الفارسي يعبر الجسر الضيِّق إلى أرضٍ قد حاصرها المسلمون من كلِّ مكان، ويتكرَّر المشهد؛ فعندما يعبر الفرس يكونون شرق نهر الفرات، وفي غربهم البحيرة وفي شمالهم نهر البُوَيب، والجيش الإسلامي في المنطقة يحصر المنطقة بكاملها، وتدخل القوَّات الفارسيَّة، ويفتقد جيش الفرس عنصر الكثرة؛ لأنَّ المساحة التي تركها المسلمون للفرس ضيِّقة؛ وكان هذا اختيارًا موفَّقًا من المثنَّى، وتعويضًا لِمَا حدث في معركة الجسر من اختيارٍ سيِّئٍ لأرض المعركة.
دخل الجيش الفارسي المصيدة، والجيش الإسلامي في المنطقة الأماميَّة، وأمر المثنَّى جيشه بالتكبير ثلاث مرَّات، وفي الرابعة بَدْء القتال، غير أنَّه مع أوَّل تكبيرةٍ بدأ الفرس الهجوم على المسلمين، التحم الطرفان في قتالٍ شديد، واستطاع الفرس صدَّ ضربات المسلمين في بداية القتال، ولمـَّا امتدَّ القتال لوقتٍ كبيرٍ سدَّد المثنَّى رضي الله عنه ضرباتٍ مباشرةً قادها هو بنفسه لقلب الجيش الفارسي، الذي كان يوجد فيه مهران قائد الفرس، حتى تقهقر مهران من القلب إلى ميمنته، واستطاع أحد المسلمين قتل مهران بن باذان فكان لقتله أثرٌ كبيرٌ على الفرس، واختلف المسلمون بعد المعركة فيمن قتله، والأقرب أنَّه قد اشترك كلٌّ من جرير بن عبد الله رضي الله عنه، والمنذر بن حسَّان في قتله.
وعلى الرغم من هزيمة القلب في جيش الفرس، فإنَّ ميمنة وميسرة جيش الفرس ظلَّتا تُقاومان فترةً إلى أن بدأت قوى الجيش الفارسي تنهار أمام الضغط الإسلامي، وبدأ الفرس في الهرب، لكنَّ المثنَّى رضي الله عنه استطاع أن يسبق الفرس الفارِّين إلى الجسر، وقطع الجسر على الفرس الذين يُريدون الهروب، وبدأ المسلمون في معركة تصفيةٍ مع الجيش الفارسي.
ما بعد المعركة:
بعد انهيار القوات الفارسية وتشرذمها يأمر المثنى بملاحقة فلول الفارين والسيطرة على المزيد من الأراضي الفارسية التي كانت أبرمت مع المسلمين عقوداً ثم نقضتها. بلغ عدد الهالكين قتلاً وغرقاً من الفرس حوالي مائة ألف أي ثلثي الجيش تقريباً. أما المسلمون فاستشهد منهم 4000 مسلم. كان هذا الانتصار في البويب من أعظم الفتوحات والانتصارات التي حققها المسلمون في العراق.
المراجع:
1. ابن كثير: البداية والنهاية 7/36.
2. أبو بكر الصديق، علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، دمشق.
3. الأخبار الطوال، الدينوري، ص114.
4. تاريخ الرسل والملوك، الطبري 3/468
5. تجارب الأمم وتعاقب الهمم، مسكويه، 1/316.
6. الطبقات الكبير، ابن سعد، الطبعة الأولى، 6/296.
7. الكامل في التاريخ، ابن الأثير، 2/279.