قراءةٌ في كتاب الدّكتور علي محمَّد الصّلابي المعنون :(لوط ودعوته في مواجهة الفساد والشّذوذ الجنسي وعقاب الله للظَّالمين)
بقلم: أ د. عقيل حسين عقيل
بسم الله الفتَّاح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[1].
لا شكَّ أنَّه لا إمكانيَّة لسداد رأي، ولا لمستقبلٍ يُصنع، ولا لإصلاح حال، ولا لعلاج قضيَّة، ولا لعمل ناجح، ولا لرسم سياسات ناهضة، إلَّا والفتَّاح المبين قد فتح آفاق التيسير أمام الجادين والمتحدّين للصّعاب التي لا تستطيع أن تصمد أمام من يَقبل بتحدِّها؛ ومن هنا توكّلت على الله الفتَّاح المبين لقراءة مؤلّف الدَّكتور علي محمَّد الصّلابي (لوط ودعوته في مواجهة الفساد والشّذوذ الجّنسي وعقاب الله للظَّالمين)؛ قراءة استوقفتني عند محطَّات منهجيَّة وفكريَّة مريحة للباحث والقارئ والنّاقد، ومريحة للعقل، ومطمئنة للنفس، محطَّات تخاطب المحفظة العقلية وتلفتها لذلك المخزون المعرفي، وتُنشّط الذَّاكرة وتمدّها بالحيويَّة، ومن هنا نقول: إنَّ محطَّات هذا المؤلّف قادرة على إثارة الصّحوة والاهتمام وإمداد القراء والبحَّاث والمفكرين وأهل التَّاريخ والعقيدة بمزيدٍ من المعارف التي تفتح آفاق جديدة في البحث العلمي وأساليبه المعاصرة بهدف الإصلاح والتقويم وإيجاد العلاج، ودفع النَّاس إلى النُّهوض.
لوط عليه السَّلام أرسله الله ليهدي قومه ويدعوهم إلى عبادة الله، وكانوا قومًا ظالمين يأتون الفواحش ويعتدون على الغرباء وكانوا يأتون الرّجال شهوة من دون النًساء فلمَّا دعاهم لوط لترك المنكرات أرادوا أن يخرجوه هو ومن آمن به؛ ولذا فتصرفاتهم أحزنت قلب لوط؛ إذ كانوا يرتكبون جريمتهم علانيَّة في ناديهم، وكانوا إذا دخل المدينة غريب أو مسافر أو ضيف لم ينقذه من أيديهم أحد، ولكنّ لوط قد جاهدهم جهادًا عظيمًا، وأقام عليهم حُجَّته، ومرّت الأيَّام والشّهور والسّنوات، ولم يؤمن به إلَّا بعض أهل بيته، وحتى زوجته يقال إنَّها لم تكن من بين الذين أمنوا معه.
لقد أهتمّ المؤلّف بالكتابة والبحث في أمّهات الكتب عن النّبيّ لوط عليه الصَّلاة والسَّلام وهو يوضّح كيف بداء لوط دعوة قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وكيف نهاهم عن ارتكاب الأفعال السّيئات والفواحش، وكيف اصطدمت دعوته بقلوب قاسية وأهواء ورفض متكبّر. وكيف حكموا على لوط وأهله بالطّرد من القرية. وكيف كان القوم الذين بُعث إليهم لوط يرتكبون الجرائم البشعة. وكيف كانوا يقطعون الطّريق، ويتواصون بالإثم، ولا يتناهون عن منكر، وقد كانوا يأتون الرّجال شهوة من دون النّساء؛ فصار الرّجال أهدافًا مرغوبةً بدلًا من النّساء، وصار النّقاء والطّهر جريمة تستوجب الطّرد.
إنَّه المؤلّف المستفزّ للعقلِ والمفطّن له والملفت عن الغفلة، التي تلهي بعض البحَّاث فتجعلهم غافلين عن سبر أغوار التَّاريخ الإسلامي وتغيّبهم عن التطلّع إلى ما ينبغي أنْ يصلوا إليه ويحدث النُّقلة ويصنع المستقبل الذي يُمكِّن من النّهوض والارتقاء.
ومما يلفت الانتباه مع أنَّ النَّبيّ لوط عليه الصَّلاة والسَّلام ليس مبعوثًا للكافَّة؛ فإنَّ دعوته الخاصَّة كانت ذات ابعاد قيميّة عامَّة؛ لأنَّها تمركزت على فضائل حميدةٍ تحافظ على قيمة الإنسان، وتعظّم شأنه، وتحفظ أسرار العلاقات الزَّوجيَّة؛ وتنمّي بين الزّوجين (الذَّكر والأنثى) ملكة المحبَّة والمودّة، إنَّها الزوجيَّة الجذابة بين النَّوعين وكأنَّها المغنطة.
ومع أنَّ الأنبياء والرُّسُل عليهم الصَّلاة والسَّلام بُعثوا إلى ملاحقة الشّرك والكفر والفساد وهم يدعون إلى التوحيد؛ فإنَّ رسالاتهم جاءت لتحافظ على بقاء الإنسان قيمة مفخَّمة من الله تعالى؛ ولا إكراه في الدِّين، ولهذا كان النَّبيُّ لوط عليه السَّلام حريصًا على سلامة قومه من ذلك المرض العفن؛ الذي لا يكون إلَّا على أيدٍ فاسدة ومجرمة؛ ذلك لأنَّ أصحاب تلك الأيدي المجرمة لا يختنقون إلَّا من الطّهارة، ولا يتضايقون إلَّا من المتطهّرين؛ وهنا وضع المؤلّف أصبعه على العلّة والسَّبب (مرضًا ووقاية وإصلاحًا وعلاجًا).
ومع أنَّ مصيبة اللواط بذرة فاسدة؛ فإنَّها لم تجد بيئة تنبت فيها ولأوَّل مرّة إلَّا في أولئك القوم الفاسدين (قوم لوط) الذين كانت الجريمة والتعفُّن والوساخة من صفاتهم سُفليَّة ودّونيَّة؛ قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}[2]؛ ولهذا بعث الله النّبيّ لوط عليه الصَّلاة والسَّلام حُجَّة وبرهانًا وآية من ورائها آية؛ ومع ذلك فإنَّ القوم لم يتطهَّر مِنَ النَّجاسة وأفعال الجريمة المقللة للشّأن الآدمي.
ولأنَّ اللواط جريمة عظيمة فكان العقاب من الله تعالى شديدًا عاصفًا ممطرًا من الحجارة السجِّيليَّة التي جعلت عالي تلك القرية سافلها؛ ومن هنا استمدّ المؤلَّف حُجَّته التي جاءت كتابًا مبيّنًا لتلك العلل المرضيّة (بدنيًّا ونفسيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا)، وفي المقابل جاء المؤلّف كتابًا ليّنًا على قلوب من يتطهّر، ويتّقي الله، ويأخذ بأمره وينتهي بنهيه؛ قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}[3].
ومع أنَّ الدّكتور علي الصَّلابي وفقًا لمعرفتي به ليّن الجانب؛ فإنَّ نفسه الدَّافئة من خلال هذا المؤلّف أوجاعها ظاهرة وأسفها كبير على أولئك الذين يقرّون بحريَّة السُّلوك الشَّاذ على حِساب الفضائل الحميدة والقيم الخيّرة التي ارتضاها الله تعالى لبني خَلقه من النَّاس، ولا شكّ أنَّنا نشارك المؤلَّف هذا التأسُّف وهذا التحسّر على الشّعوب التي ما زالت تكفر بما بُعث به النّبيُّ لوط عليه السَّلام، وأكّدت عليه الرِّسالات التي جاءت من بعده، وخير خاتمة لتلك الرِّسالات الرّسالة الخالدة (رسالة محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام).
ومع أنَّ صاحب هذا المؤلّف متطلّع لعلاقات إنسانيَّة وتسامح كبير واستيعاب للمختلف والمخالف؛ فإنَّه من خلال هذا المؤلّف لا يقبل التسليم بإقرار الشّذوذ الجنسي عنوان من عناوين القيم الإنسانيَّة بين من خلقهم الله في أحسن تقويم؛ وفي المقابل أمله الكبير أن يكون مستقبل الإنسانيَّة مؤسّس على الطَّهارة وحسن العلاقات وواحديّة الله مع وافر المحبّة.
في هذا المؤلّف ستة فصول دقيقة التقاسيم، مريحة الجانب للقراء، ليِّنة المعلومة، ميسّرة الأسلوب، متواضعة كصاحبها لمن يريد أن ينهل ويرشد بمزيدٍ من المعرفة الواعية، والحُجج الوافية.
مؤلّفٌ بلغ عدد صفحاته 480 صفحة لا يمكن أن يكون هيِّنًا، إضافة إلى أنَّ المؤلّف قد اعتمد أفضل المناهج البحثيَّة سبرًا لأغوار المعلومة وتتبّع منابعها تأصيلًا وتفصيلًا؛ إذ تصدّر المنهج التحليلي صفحاته من الفه إلى يائه، وهكذا كان الأسلوب مرنًا من الفه إلى يائه، وكانت الحُجج وفيرة، والمعرفة واسعة، والمعلومات دسمة وكثيرة المصادر.
لقد ميَّز الأستاذ المؤلّف بين الدّقيق والأدق منه بغاية توصيل المعلومة نظيفة من أيَّة شائبة أو علَّة؛ فكان في تفصيله لما استدعاه من محفظة الذّاكرة وسجلات التَّاريخ تفصيلًا يجذب القراء إليه متعة؛ إذ يأخذك إلى ذلك البعيد الذي فيه تتجذّر المعلومة وتتأصَّل، ثمَّ يأتك بك إلى جذعها الذي عندما تنظر إليه، تجد نفسك تحت ظلّها شجرة مثمرة وأنت من ثمارها تقطف وتأكل وبصرك إليها لا يفارق السّماء.
وقد أوضح المؤلّف في كتابه قيد القراءة ما يدلّ تبيانًا على الاسم والصّفة (اسم لوط وصفاته عليه السَّلام، وفي المقابل صفة اللواط واللواطين)؛ إذ جاء مفهوم اسم لوط عليه السَّلام اسم وصّفة لنبيّ من أنبياء الله المكرّمين؛ فكان لوطٌ منذرًا ومحذّرًا ومبلّغًا وناهيًا ومعالجًا لتلك العلّة الفاسدة، ومصحّحًا لمسار قومه قيمًا؛ ومن هنا كان لوط عليه السَّلام أوَّل من بذر بذرة الفضيلة المصحّحة لمفسدة اللواط والمعالجة لمرضه.
أمَّا مفهوم اللواط فهو ذلك السُّلوك المتجسّد ممارسة جنسيَّة بين الذّكور شهوة دون النّساء نكاحًا.
ولهذا فاسم لوط وصفاته خيرٌ من خير الأسماء والصِّفات، أمَّا اللواط فلا يكون إلَّا مما هو أحقر وأبشع.
وعليه: فإنَّ اسم النبيُّ لوط عليه السَّلام يرتبط بطهارة النبوّة، وإيمان الأنبياء، وعفّة النَّفس، ومنابع الفضائل الحميدة والقيم الخيرة. أمَّا أهل اللواط فلا ترتبط بهم صفة إلَّا صفة القذارة والوساخة والنّجاسة والفساد والأمراض والإجرام، وكلّ ما يؤدّي إلى الدّونيَّة والحقارة.
ولهذا فاسم النبيّ لوط وصفاته كلّها مرتبطة برفعة الذّكر والشَّأن مما يجعل الانتساب إليه رفعة شأن ورفعة قدر، وفي المقابل الانتساب إلى مفاسد قومه لا يكون إلَّا عن كفرٍ ومعصيةٍ؛ ومن هنا فإنَّ مفهوم الانتساب إليه صفة يؤدّي بأصحابه انتسابًا إلى الطَّهارة؛ ذلك لأنَّ لوط عليه السَّلام طاهر مطهّر بالنبوّة، أمَّا اللواطة فصفة لا يمكن أن يقدم عليها مَنْ فيه صفة من صفات لوط عليه الصَّلاة والسَّلام؛ قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ}[4].
ومن ثمَّ فإنَّ مفهوم اسم لوط عليه السَّلام محاط بطهارة الله وتنزيهه، مما جعل اسم لوط رفيع المعنى والمفهوم والدّلالة.
وبالملاحظة والتفحّص الدّقيق لقوله تعالى (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) وردت كلمة (آل) ولم ترد كلمة (أهل)؛ ذلك لأنَّ كلمة (آل) لا ترتبط إلَّا بالمذكّر، أمَّا كلمة (أهل) فإنَّها تحتوي (المذكّر والمؤنث). ولأنَّ زوجة لوط لم تكن من النّاجين فجاء القول حصرًا على ا(الآل)؛ قال تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ}[5].
وعليه:
لم ترد في القرآن كلمة (آل) إلَّا وهي متَّصلة بالمذكّر، ولم ترد مرّة واحدة متّصلة بالمؤنث (آل إبراهيم، وآل عمران، وآل يعقوب، وآل لوط، وآل داوود، وآل موسى، وآل هارون، وآل فرعون....) مما يدلّ على الاختصاص الذي به يدعى الأبناء لآبائهم.
ولذا فإنَّ الفرق بين مفهوم الأهل والآل: إنَّ مفهوم الأهل لا يكون إلَّا من خلال العلاقة الاجتماعيَّة والاختصاص، فمن جهة العلاقة الاجتماعيَّة كقولك أهل الرّجل، ومن جهة الاختصاص كقولك أهل البصرة وأهل العلم؛ ومن ثمَّ فإنَّ كلمة (آل) كلمة تأصيليّة تُمكِّن من العودة إلى الأصل الذي ينسب إليه؛ مصداقًا لقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}[6]؛ ولهذا فكلمة الآل تدلّ على ذوي القربى الذين يعودون إلى صُلب الرّجل[7].
ومع أنَّ المؤلِّف كما يبدو لنا مما كُتب في هذا المؤلَّف قد ضِيقت نفسه مِن معصية قوم لوط وما انغمسوا فيه من فساد وإجرام ووساخة، فإنَّ نفسه ضيقت أكثر من أولئك الذين صنّفوا اللواط والشّذوذ الجنسي والزّواج المثلي حقٌّ من حقوق الإنسان وممارسة الحريَّة، ولهذا جاء كتابه رسالة محذّرة وناصحة ومنذرة للأجيال الحاضرة والقادمة لعلّهم ينتهون وينتبهون ويرشدون؛ ومع ذلك فإنَّ المؤلّف راسخ الإيمان قلبه لم يقنط؛ إذ لا يرى مستقبلًا ناهضًا للأمم والشّعوب إلَّا بالدين الإسلامي (رسالة محمَّد)
إذن: تأصيلًا تاريخيًّا لا يُمكن أن يُنسب اللواط إلَّا إلى ذلك القوم البعيدين عنَّا (قوم لوط)، أمَّا من ينتسب إلى هذا النبيّ القريب منَّا لوط عليه السَّلام لا يكون إلَّا من أهل الإيمان على خُلقٍ عظيم؛ قال تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[8].
وعليه:
تعد قراءة هذا المؤلّف نعمة للذّاكرة التي دائمًا في حاجة لما يمكّنها من الحيويّة بغاية الاستيعاب والنّهوض وإحداث النُّقلة الممكنّة من صُنع المستقبل المأمول.
إذن: لو لم تبذر في قوم لوط معيبة اللواط وتنبت ما اصطفى الله النبيّ لوط لينذرهم وينهاهم عن تلك المصيبة التي اتصفوا بها في القول والفعل والسّلوك والعمل؛ ومن هنا يرى المؤلّف ضرورة الاهتمام بالقول حتى يصوّب، وبالفعل حتى يصلح، وبالسُّلوك حتى يقوّم، وبالعمل حتى يثمر؛ ولهذا فكل ما جاء به لوط فهو الصَّواب الذي به تصحّح الأخطاء ويصلح القوم، وبه تتم الاستقامة من بعد التقويم، ثمَّ تجنى الثِّمار من بعد العمل.
ومن هنا: يتّضح مفهوم اللواط أنَّه نسبة إلى قوم لوط الذين بذروا تلك الرّذيلة العفنة التي نبتت فيهم ونمت، أمَّا الانتساب إلى النّبيّ لوط فهو الانتساب إلى الارتقاء عن المعيبات وعن كلِّ ما يؤدّي إلى تقليل الشّأن واحتقار الآدميَّة؛ ولهذا فاللواط فعل شيطاني من أعمال الشّيطان، أمَّا ما يؤدّي إلى الالتصاق لوطًا فهو الإحاطة بما ينبغي التمسُّك به قيمة رفيعة وفضيلة من فضائل الله التي بها تعمر الأرض وتصلح ولا تفسد.
وبالتفحّص لما كتب الدّكتور علي الصَّلابي عن النّبيّ لوط عليه السَّلام يتمكّن القارئ المتفحصّ من التمييز بين ما يؤدّي إلى الاستقذار وما يؤدّي إلى الاستطهار، وما يؤدّي إلى الاستحقار وما يؤدّي إلى الاستعظام، وكذلك معرفة ما يؤدّي إلى العلو مكانة ونهضة، وما يؤدّي إلى الدُّونيّة حقارة وسفليّة منزلة.
ومع كلّ ما بذله النّبيّ لوط مع قومه نصحًا وإنذارًا ونهيًا فإنَّ أقوال وأفعال وأعمال وسُلوكيَّات قوم لوط بقيتْ على قيد الحياة بين من يدينها ويحرّمها ويجرّمها ويسخر منها ومن مرتكبيها، وبين من يسلكها ويفعلها ويباركها ويأخذ بأيدي مرتكبيها، بل هناك من سمح لمرتكبيها بالتمثّل بالنِّساء وبتشكيل روابط ونقابات واتحادات اتخذت لها عناوين وشعارات تحت مظلتها يسمح لهم بالتظاهر عُراة وشبه عُراة، وهم يطالبون بمزيدٍ من الحقوق التي لا تضع أصحابها إلَّا في مواضع السُّخرية وتقليل الشَّأن وفيما لا يرضي الله جلَّ جلاله.
ولعل النَّاس يهتدون لم يغفل المؤلّف عن أهميّة عرض صفات النبيّ لوط عليه السَّلام؛ فعمل على جمعها وتبيانها مع تأكيده على أهميَّة الأخذ بالفضائل والقيم الأخلاقيَّة والإنسانيَّة التي ارتضاها الله لعباده، كونها المنهل للقدوة الحسنة والتقوى والطّهارة وترسيخ المكانة، وفي المقابل بيَّن للقراء تلك الأمراض التي تنتشر بأسباب اللواط والشّذوذ الجّنسي والسِّحاق والمثليّة التي لا تخرج عن الأعمال الشَّيطانيَّة.
لم يغفل الاستاذ المؤلّف عن تلك العلاقة الربّانيّة التي ربطت بين إبراهيم ولوط عليهما الصَّلاة والسَّلام من حيث كونها علاقة توحيد وهداية ودعوة وإنذار سواء أكان ذلك في أثناء الإقامة أم في أثناء الهجرة الربَّانيَّة؛ ومن ثمَّ فإنَّ فصول هذا الكتاب كانت غنيَّة بالمعلومات الوافية، التي تتجذّر المعلومة فيها وتمتد من الكلِّ إلى الجزءِ، ثم تمتد من الجزء إلى المتجزئ منه، وبهذا المنهج التحليلي التَّاريخي والفقهي وردت التفاصيل الدَّقيقة.
ولم يغفل المؤلّف في كتابه هذا عن سلسلة الأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم؛ إذ كان النبيُّ لوط حلقة وصل ربطت بين تلك الحاقات النبويَّة الكريمة التي جاءت من قبله، وتلك الحلقات النبويَّة التي جاءت من بعده رابطة للعلاقة الكريمة بين السّماوات والأرض.
ومع أنَّ مصادر هذا المؤلّف تجاوزت المئة واقتربت من المئتين؛ فإنَّي وجدّت كتاب الله وسنَّة رسوله السّند الرّيس للباحث في كلّ فصلٍ من فصول مؤلّفه الذي بلغ عدد صفحاته 480 صفحة.
ومع أنَّه لا علاقة بين الإنس والملائكة والجن من حيث الخصوصيَّة فإنَّ الكاتب لم يغفل عن هذا الأمر مع إيضاحه لكلِّ خصوصيَّة خَلقيَّة وكأنَّه يود أن يُمكِّن القراء من التمييز بين دقيق الأمر والأدق منه مع مزيدٍ من المعرفة الوافية.
وفي مؤلّفه هذا عدَّد أسباب النَّجاح والهلاك للأقوام السَّابقة التي بُعث الأنبياء إليها وأرسلوا، مع إعطائه ما يشير إلى تجدّد الهلاك كلّما توافرت معطياته إذا لم يتّعظ الإنسان ويأخذ بالعبر والحِكم التي كانت وصايا من الأنبياء، والتي جاءت في دعواتهم وإنذاراتهم امرًا ونهيًا من عند الله تعالى.
وعليه:
مع أنَّ الله تعالى خَلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض (يصلح ولا يفسد ولا يسفك الدّماء فيها بغير حقّ)، وهذه قاعدة؛ فإنَّ الإفساد فيها لا يكون الاستثناءً؛ ومن هنا وجب على أهل العلم والتقوى والمعرفة والدّراية العمل على استدامة القواعد الإصلاحيَّة حُسن تدبُّر ومعالجة لكلِّ ما من شأنَّه أن يؤدّي إلى الإفساد، وعليهم أن يميّزوا بين الاعتراف بوجود الخطيئة وبين إقرارها حقّ من حقوق الإنسان؛ ومن ثمَّ عليهم بإصلاح أحوال من يحيد وينحرف عن القيم الخيّرة والفضائل الحميدة، والعمل من أجل المنحرفين حتى يعود المنحرف إلى حواضن المجتمعات الدَّافئة وحواضن الأمم والشّعوب الآمنة المطمئنة؛ أي عليهم أن يعترفوا بوجود الشّذوذ الجنسي والسّحاق واللواط والمثليَّة بغاية العمل على إصحاح البيئة البشريَّة والعمل معهم حتى ينهضوا عن تلك العلل نّهوض واعيًا بأهميَّة القيم التي ارتضاه الله لخلقه الكرام.
وقد عدَّد المؤلّف في مؤلّفه هذا أسباب الهلاك: من شركٍ، وظلمٍ وإجرامٍ وتكذيبٍ بالحقّ، وفسق وإفساد في الأرض؛ مع اهتمامه بما يفيد الحاضر والمستقبل؛ ولهذا جاء عنوان الفصل السّادس من مؤلّفه (الشذوذ الجنسي في العصر الحديث أسبابه وعلاجه) هذا العصر الذي أصبح فيه ما حرّمه الله ونهى عنه وبخاصّة اللواط والشّذوذ الجّنسي والمثليّة والسّحاق وكأنَّها ليست من الأعمال الشّيطانيَّة، وهي الأعمال التي لا تليق بمكارم الأخلاق ولا تؤسّس حضارة إنسانيَّة ناهضة؛ إذ لا قيمة تعلو على قيمة الإنسان.
ومع أنَّ النبيّ لوط أُرسِل إلى سدوم بالشّام فإنَّه لم يكن سدومي (ليس من قوم سدوم)؛ ذلك أنَّ لوط جاء مهاجرًا مع إبراهيم من العراق؛ ولهذا لما خاف على أضيافه؛ قال ما قاله الله في كتابه العزيز: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}[9]. أي: لما خاف لوط على أضيافه، وليس له عشيرة تحميه (رابطة دم أو رابطة انتماء متأصّل)، قال قوله الحقّ (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) ولأنّه نبي كريم أكرم وحاجج وجادل دفاعًا عن أضيافه المكرّمين.
ومع أنَّ لوط عليه الصَّلاة والسَّلام نبيًّا مرسلًا فإنَّ الذي لم يعلمه لوط هو: أنَّ الملائكة المتجسّدين بشرًا لم يكن يعتقد أنَّهما ملائكة، وهذا أمر الله، لأنَّ إظهار صفة الكرم لا يكون إلَّا من البشر إلى البشر، ومن هنا كان الكرم صفة للوط عليه السَّلام. ولأنَّ لوط قدَّر الضّيوف بشرًا؛ فأظهر لهم الواجب كرمًا وضيافةً؛ ولذلك فقد اغتاظ ممّا يفعل القوم الجاهلون أمام الضّيوف المكرّمين، ولأنَّه يعرف نفسه أنَّه لم يكن من أولئك القوم نسلًا كونه جاءهم مهاجرًا؛ فكان يظهر اللين مع الغضب فضيلة حميدة[10].
ولهذا فعندما جاء القوم إلى لوط مسرعين؛ خرج إليهم متعلّقًا بأملٍ أخير، وبدأ بوعظهم: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}[11]. ولهذا فقوله: (فَاتَّقُواْ اللّهَ) بغاية ملامسة نفوسهم من جانب التقوى بعد أن لمسها من جانب الفطرة بقوله (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ).
أمّا قوله: (وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي)؛ فهي محاولة يائسة لِلَمْس نخوتهم وتقاليدهم التي تستوجب إكرام الضّيف لا فضحه.
وهكذا جاء قوله: (أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ) لإثارة النّخوة إن كانت في أحدٍ منهم، ولكن لا قدوة بينهم، وهنا تكمن العلّة.
وقد أحسّ لوط أمامهم بضعفه كونه غريب بين القوم، مهاجر إليهم من بعيد بغير عشيرة تحميه، ولا أولاد ذكور يدافعون عنه، ومع ذلك دخل لوط غاضبًا وأغلق باب بيته، وفي المقابل كان الغرباء الذين استضافهم يجلسون هادئين صامتين؛ فدهش لوط من أمرهم، وهناك ازدادت ضربات القوم على الباب؛ فصرخ لوط في لحظة يأس خانق: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قوّة أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}[12] أي: تمنّى أن تكون له قوّة تصدّهم عن ضيفه وتقفهم عند حدّهم، وتمنى لو كان له ركن شديد يحتمي فيه ويأوي إليه، ولكن كان ركن الله أعظم من أيّ ركن ومهما اشتد.
كتاب الدّكتور علي الصَّلابي فيه من المعلومات الوفيرة ما يكفي لفتح أبواب وفصول تجعل من هذا المؤلَّف موسعة بحالها في النّبيّ لوط عليه الصَّلاة والسَّلام، ففي هذا المؤلَّف قد استخدم لُحمة من المناهج التي كان في صدارتها المنهج التحليلي والتَّاريخي والفقهي، وهذه المناهج مكَّنته من معرفة مفاصل التفكيك والتركيب للمعلومات التي أصبحت بجهده هذا ميسّرة لكل مضطّلع ولكلّ ناقذ ومفسّر.
والحمد لله الفتاح ربّ العالمين
[7] عقيل حسين عقيل، ألستم من آل البيت، دار ابن كثير، دمشق: 2010م، ص 13.
[10] عقيل حسين عقيل، لوط من وحي القرآن والسُّنَّة، مكتبة الخانجي للطباعة والنشر، القاهرة: 2017م، ص 355.