البحث

التفاصيل

ضرر خلط النفس بالروح

الرابط المختصر :

 

ضرر خلط النفس بالروح

أ.د. عبد الرحمن شط

 

ما هي الطاقة التي في جسدنا التي تجعلنا حيا، التي تجعل خلايا الجسد حيا، والتي تجعل القلب ينبض والدم يجري والمعدة تهضم من العمليات البدنية التي تعمل خارج ارادتنا؟  الطاقة الكهربائية اللطيفة الغير الملموسة، التي بها نسمى حياً، وبخروجها نسمى ميتاً وعند الناس تسمى روحا؟ 

وما هي النفس التي تملك الإرادة الإنسانية التي تقوم بفعل الأشياء وتركه، وهي التي توجه الى الخير والى الشر، وهي التي تسأل يوم القيامة، وهي التي تشتهي وتتلذذ وتحس وتشعر وتموت؟

اختلف علماء المسلمين حول ماهية الروح والنفس، وذهب اكثرهم الى ان الروح والنفس هو نفس الشيء، مع أن الله فرق بينهما في المصحف، وذكر ظواهر كل منهما على حدة. وهذا الخلط أثّر على عالم الإسلامي سلبياً طول العصور.

كيف تضرر المسلمون بخلط الروح بالنفس؟:

ولقد وقع الخلط بين النفس والروح حيث فسر العلماء النفس بالروح، وهذا التفسير عطل الدراسات النفسية بسبب الإمساك عن الروح، فعدما قرؤا قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[1] قالوا لا يمكن فهم الروح لأنها من أمر الله، وما أوتينا من العلم بها الا شيئا قليلا، وما دام النفس والروح شيئا واحدا لا داعي لدراستها، ولذلك تركوا دراسة علم النفس (بسيكولوجي) وعلم الاجتماع (سوسيولوجيا).

الدول الغربية اهتمت في عصر النهضة بتصنيف العلوم والاختصاص، ابتداء من علوم الرياضيات الى علوم النفس والاجتماع.  وبهذه العلوم تقدمت اجتماعيا واقتصاديا وعسكريا، وبواسطة علم النفس وعلم الاجتماع استطاعت ان تسيطر على كثير من الدول من آسيا الى افريقيا وان تستعمرهم،

يقول أ.د. محمد صالح علي مصطفى ( كابوري): [ان المدرسة النفسية إسلامية، ومن أعلامها ابن خلدون، لكن هذه المدرسة لم تُعَمَّر ولم تستمر فخسر المسلمون معرفة النفوس، حيث تنظم العلاقات الإنسانية ويتم التخطيط، وتعالج الوقائع، ويقوم بناء الحضارة لخير أمة. ونؤكد على أن الخطأ في عدم التميز بين النفس والروح كان وراء تعطيل الدراسات النفسية الفردية في علم النفس، والجماعية في علم الاجتماع، ففقدت الأمة ميزانا لتقويم التاريخ ومعالجته، وترك هذا الميزان والميدان للغرب الذي تمكن عن طريق استخدام علم النفس وعلم الاجتماع من السيطرة على الشرق واستعماره وتغريبه] [2] 

ننظر الى تعريف الروح والنفس من المصحف:

الروح: عند الناس، هي اللطيفة الغير الملموسة التي قام بها البدن واستحق بها اسم الحياة، وهي التي تموت وتحيا وتحاسب يوم القيامة.  

الروح في المصحف هي من الله مباشرة وهي إزالة التناقض والربط المجرد، وهي سبب المعرفة وأوامر رب العالمين (التشريع) المرتبطان بالإنسان. الروح هي الجوهر الذاتي بنسبة للإنسان. هي برامج الوعي والمنهج والادراك في الزهن، (Subjective) بدأت عند الإنسان بتعليمه الأسماء، كبداية للفكر الإنساني المبنيّ على عدم التناقض بين الاسم والمسمى، خصيصة إنسانية، ثمّ الانتقال من المشخص إلى المجرد، ولهذا عندما تحدث عن جِبْرِيل ومعه الروح أي بمعنى معه المعلومات والتشريعات. لأن جبريل نقل شيئين:

الأول: الأوامر والنواهي لذا سُمّي الوحي روحاً في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [3] لأنّه أوحي إليه المعرفة والتشريع. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا * وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا}[4]  اَي ان الروح هي أوامر رب العالمين الذي أوحينا اليك، ولو شئنا لنذهبن بالذي اوحينا اليك. ولقوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ..}[5]  أي أن الروح هي ما أحي اليك من الأوامر والمعلومات، ولولا هذه المعلومات الذي اوحينا اليك ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان.

والثاني: المعرفة. أي المعرفة بقوانين الحياة والمداومة على البحث المعرفي. الروح هي سر تحول البشر الى الإنسان، وقامت عليه الحجة، وأمكن له التعليم، وبالروح تكمن مفارقة الانسان عن باقي الكائنات الحية، هي المعلومات المعرفية والقيم الذي أعطاها الله للإنسان مالا يمتلكه أي مخلوق أو أي كائن حي.

 أوامرا لله كقوله تعالى: {ولا تقربا هذه الشجرة}

المعلومات والآلية للوصول الى المعرفة: كقوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها}،

فكل شيء ذاتي الذي ليس له وجود موضوعي، وهي خارج الوعي الإنساني، كالصوم والصلاة والتقوى والإحسان بحيث لا يمكن أن يكون له وجود موضوعي مادي من المعلومات والأوامر هو من الروح. لأنك لا ترى الصلاة إنك ترى من يصلي. والصوم روح من أوامر الله. لا ترى الصوم بل ترى من يصوم. كذلك التقوى والإحسان.

.. {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ..}[6]  أي ينزل الأوامر والنواهي والمعرفة.. {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر} أي الملائكة تنزل مع الأوامر والمعلومات {فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}[7] أي أرسلنا إليها أمرنا {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}[8] أي بأمر منه {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} أي يوم يقوم أوامر الله.. {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} اي نفخنا فيه اوامرنا والمعرفة {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [9] نفخ فيه الروح، أي أعطاه الله المعرفة، إن آدم بعد نفخ الروح جُعِل له برامج الوعي والادراك في الزهن، وبا {السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} بدء يقلم الأشاء من بعضها ويميزها بالسمع والبصر والعقل ثم يسميها، ابتداء من المشخص المحسوس الى المجرد الغير المحسوس، بتقليم المسميات، وأول تمييز كان التمييز الصوتي لكل كائنات الأرض، لذلك لا غرابة عندما ترى الانسان يستطيع ان يميز كل أصوات الكائنات دون تعليم، ويستطيع تقليد كل الأصوات  أيضاً. ثم انتقل الى المجرد بمفهوم التوبة {فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} لأن التلقي يكون الا من الخارج. اَدْخَل الله في ذهن آدم المجردات. قام الله بتعليمه وتفعيل هذه البرامج. وجاءت الأنبياء ليحققوا قفزات معرفية في مسيرة الحيات الإنسانية، وجاءت الرسل لتحقيق قفزات تشريعية، حتى وصل الى درجة ان يقوم بأمور نفسه بنفسه ولا يحتاج الى رسل وأنبياء كأنه تخرج من الجامعة وبلغ رشده واستطاع ان يحضن الحياة، ولذلك ختمت الرسل بمحمد ص. والكتب بالتنزيل الحكيم.

الحيوانات ليس لها روح، بل حية ولها نفس وغرائز، ليس عندها فكرة المجردات، لا تفكر على الموت والحياة والحاضر والمستقبل.

فالنفخ: في المصحف وسيلة تغير شيء من حالة الى حالة أخرى، {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا..}[10]  استعملوا النفخ كوسيلة لتغير الحديد من الصلب الى سائل مائع، {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[11]  أي إذا سويته يمشي على رجلين وغيرته بالروح أي بالبرنامج الذي سألقي في دماغه من المعلومات فقعوا له ساجدين، عبارة عن التعبير في الإسراع لشيء مّا، كالنفخ في الجمر لكي يتسارع من رفع درجة حرارته بشكل سريع، فنفخ الروح بمعنى {طفرة الروح}! أي الطفرة التي حدث للبشر لكي يتحول من عالم الحيواني الذي يعيش بالغرائز (البشر) الى إنسان عاقل، أي اُدْخِلت المعلومات بتدخّل خارجي بسرعة غير معتادة. وهي الطفرة. قامت الروح بنقلة جبارة من ناحية المنجزات البشرية، الى إنسان عاقل، بدأ معها مراحل تطوير المعرفة والدين، والوصول الى مراحل أولي العزم من الرسل، بدأً من نوح، وتعرّفه على كيفية صناعة السفن وتجاوز البحار، انتهاءً الى عصر النبي محمد ليفتح به آفاقاً لدراسة الكون والسيطرة عليه! فهو دين واحد... الرسل والأنبياء ساهموا في تطور العلم والعقل والمعرفة الإنسانية.

العقل التعبدي {خط الرسالات} خط التشريع والعبادات والاخلاق بين الناس وبين الناس والله.
العقل العلمي {خط النبوة} التي مهامها التقدم المعرفة الانسانية بظواهر الطبيعة والموجودات وتسخير الطبيعة لمصلحته والسيطرة عليها {فالعلماء ورثة الأنبياء}.

نفخ الروح في الجنين بعد 120 يوم في الحديث، لا يدل على ان الجنين لم يكن حيا قبل ذلك، بل النفخ هو القاء المعلومات والبرامج.

 عن عبد الله ابن مسعود ر. قال: ان رسول الله ص. قال: [إنَّ أحدَكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفةً، ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثلَ ذلك، ثم يبعثُ اللهُ إليه ملَكا، ويُؤمرُ بأربعِ كلماتٍ، ويُقالُ له: اكتبْ عملَه، ورزقَه، وأجلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ؛ ثم يُنفخُ فيه الروحَ.. الى آخر الحديث][12]

ومنه يفهم أيضا ان الروح هو البرنامج الذي ادخله في النفس الإنساني زائدا الغرائز.

النفس في المصحف: ففي الكتاب أطلق مصطلح النفس على معنيين حسب سياق الآيات:

المعنى الأول: النفس ككائن عضوي حي تنطبق عليه ظاهرة الموت. هي الذات المكلف والمخاطب في الإنسان، هي التي تجعلنا نتنفس، وهي التي تملك الإرادة الإنسانية التي تقوم بفعل الأشياء وتركه، وهي التي توجه الى الخير والى الشر، وهي التي تسأل يوم القيامة، وهي التي تشتهي وتتلذذ وتتحكم على الجسد، وهي التي تشعر وتحس، وهي التي تذوق الموت: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[13] هذا يدخل تحت معناها كل الكائنات الحية بما فيها الإنسان.  وهي التي يمكن قتلها {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [14] وهي التي تزهق: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}[15] وهي التي نطلق عليها مصطلح الجسد العضوي المادي الذي ينتقل من حال الحياة الى حال الموت والتغير والفناء. {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ}[16] أ

المعنى الثاني: النفس الإنسانية فقط، وهي النفس التي تُتَوَفّى والتي لها طب خاص بها، اسمه الطب النفسي. وهي مجموعة من الأحاسيس والمشاعر، وفيها الحب والكراهية والألم النفسي والراحة النفسية والسرور والعذاب.   

النفس ليست الروح ولكن لها علاقة بالروح، لأن الأحاسيس والمشاعر تعتمد على المدركات من الأشياء وهذا يتم بالروح. حيث ان هذه الأمور غير مادية ليس لها علاقة بالموت، ولذلك ذكر لها الوفاة وليس الموت.

 تجزى وتحاسب: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[17]  {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[18] وهي التي تنعم: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[19]  هي التي تتحمل المسؤولية: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[20]  وهي التي تخاطب: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}[21] هي التي ترتبط بالسلبيات والمفاهيم الرديئة: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}[22] وقد تمرض وتستقيم، والعقل ينصحها بالتزكية {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[23] فالتزكية والتهذيب يكون للأخلاق والغرائز والصفات المكتسبة.. أي هناك علاقة كاملة بين النفس والجسد البيولوجي وغرائزه. لأن الجسد هو ثوباً للنفس ترتديه كي يكون الوسيط فيما بينها وبين العالم المادي وذلك من خلال الحواس الخمس. تفرح وتتنعم بصحتها وتحزن وتتأذى بمرضها. وقد تكون بدن الإنسان سالما وصحيحا طبّياً ولا يوجد في الجسد أي خلل، ولكن النفس تكون مريضا تحتاج الى المعالجة، فحينئذ لا تذهب الى الطبيب العادي بل تذهب الى طبيب النفس (سيكولوجي) فعندما تمرض النفس تتأذى به الجسد أيضا.

كيف تزكي النفس نفسها، أو من يزكي من؟ 

ان ما ذكر الله من أوصاف النفس في المصحف، كنفس اللوامة، ونفس الأمارة بالسوء، ونفس المطمئنة، مما يخالف بعضه بعضا، يشير لنا أن للنفس جوانب متصل بالغرائز الفطرية البشرية البيولوجية، ولها جوانب متصلة بالروح والعقل الإنساني الذي عنده ميزان يزن به الخير والشر والنفع والضر. وهذا الجانب العلوي يعقل ويوجه جانب النفس الحيواني التي تعمل حسب الغرائز. وهذا الجانب من النفس هو الذي يزكي.

  وقد تطلق على ذات الإنسان نفسه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}[24]  {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ}[25] ذات الإنسان بعينه {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}[26] أي فلا تزكوا ذاتكم وشخصيتكم. {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[27]  {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}[28]

الفرق بين موت النفس ووفاتها:

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[29]  

الفرق بين الموت والوفاة:

الموت والوفاة هو تجميد الزمن بالنسبة الى الميت أو المتوفى.

الموت للبشر البيولوجي، ككائن عضوي مشترك مع كل الأحياء، {كل نفس ذائقة الموت}[30]، وهو انتهاء الحياة. أي الموت للجسد الذي له غرائز وطبائع نفسية (اي للنفس البشرية كسائر نفوس الأحياء التي تدفن وتتعفن) وهو جانب السفلي البشري من النفس ما هو من التراب.

والوفاة للإنسان العاقل، صاحب إرادة ومعرفة وحساسيات خاصة، والوفاة للنفس الإنسانية المكلفة. وهو جانب العلوي للنفس، ما هو معنوي نوراني.

فالوفاة: هو خروج النفس من دار التكليف، إما مؤقتاً كما يحصل في النوم، فإذا استيقظت وعاد العقل والإرادة والشعور يبقى مكلفا حيا، وإما خروجا أبدياً فيسمى موتا، إذا لم تستيقظ النفس تخرج من دائرة التكليف وتفارق الجسد وتبقى في حالة مجهولة بالنسبة الينا الى يوم القيامة، وانظر مرة أخرى الى قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[31]  أي فإذا نام الإنسان خرجت نفسه من جسده إلى أجل مسمّى فإن كتب لها العودة عادت والا فارقت جسدها ورحلت عنه للأبد وحصل الموت.  اي هناك نوعين من الوفاة: أحدهما وفاة يعقبه يقظة وهو النوم. الثاني وفاة لا يعقبه يقظة وهو الموت.

والوفاة خارج النوم، هو الخروج الأبدي من دار التكليف وهو الموت كقوله تعالى: {إِذْ قالَ اللهُ يا عيسى إني مُتوفِّيك وَرافعُكَ إليَّ}[32] {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ}[33] .  انّ الموت يقع مرة واحدة وهي بخروج النفس دون عودة.

فال ابن الرشد في تفسير الآية: [النفس تتوفى في المنام فتخرج وتسرح فترى الرؤية فتسر بما تراه وتفرح به أو تتألَّم، ويبقى الجسم دونها بالروح لا يلذ ولا يفرح ولا يتألّم ولا يحزن، ولا يعقل حتى تعود إليه النفس، فإن أمسكها الله تعالى ولم يرجعها الى جسدها، تتبعها الرّوح فصار معها شيئا واحداً، ومات الجسم، وإن أرسلها إلى أجل مسمىً وهو أجل الوفاة حيي الجسم.][34]

هل تحشر النفس مع جسدها ام تخلق لها جسد من العدم

انَّ الجمهور ذهبوا إِلىَ أَنَّ البعث تجميع للشتات، لا إيجاد من العدم المطلق، لقوله تعالى: {اَيَحْسِبُ الاِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ}[35] 

وأما الفناء والهلاك في قَوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}[36]، وفي قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلاَّ وَجْهَهُ}[37]، يَدُلاَّن في أصل استعمالهما اللغويِّ عَلَى عدم الصلاحية، وَعَلَى التفرُّق والفساد، ولا يشترط الانعدام الكلِّي. ان جسد الإنسان المادي عبارة عن مجموعة من الكميات والنسب المادية المؤلفة من عناصر، ولكل إنسان وصفة خاصة به من المواد ونسبها وهندستها، مثل البطاقة (ID)، هذه الوصفة موجودة عند الله سبحانه وتعالى ويعاد تركيبها.

. وأما قوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[38] وقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}[39] ليس بمعنى يخلقها من العدم كما فهمها البعض، بل انَّ القرآن يَرُدُّ عَلَى الذين استعظموا البعث بعد موتهم كقوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}[40]

فقوله تعالى {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[41]  وقوله تعالى {حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[42] يدل على أن النفس تلتقي بجسدها، وأعضائها يشهدون لها او عليها. لو كانت أجساماً جديدة لم يكن عندها شهادة، وإنما تشهد تلك الأجسام التي كانت معها في الدنيا وشهدت الحادثة. هذه الآيات وقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غُرْلاً}[43] دليل على ان الحشر للنفس مع الجسد. فيكون العذاب والنعيم على الروح والجسد جميعاً؛ لأن الإساءة حصلت من مجموع الروح والجسد، والإحسان حصل من مجموع الروح والجسد، فالجزاء يكون لمجموع الروح والجسد. الله أعلم.

النفس: يقابلها في اللغة الإنكليزية مصطلحان ( bady)  الجسد العضوي، ومصطلح (soul) أي المشاعر ولأحاسيس والشخصية (الأنا)، 

الروح: فيقابلها مصطلح (Spirt)

ومن علماء المعاصرين من شبه الإنسـان بالسيـارة، الهيكل الخارجي للسيارة هو الجســد، والطـاقة التي تعمـل بها، هي الــروح، والسائـق الذي يحرّكهـا هو النفــس. السائق مسؤول من الحوادث، وإذا انقطعت الطاقة السيارة في حكم الموت.

 

 

20.04.2024

 

للنقد والاتصال:

[email protected]



[1] الإسراء 86

[2] محمد صالح كابور البصئر 16

[3] (الشورى 52) 

[4] (86 اسراء) 

[5] (52 الشورى) 

[6]  (2 النحل)

[7] (17 مريم)

[8] المجادلة 22

[9] (9 سجدة)

[10] الكهف 96

[11] البقرة 72

[12] رواه البخاري رقم: 3208، ومسلم رقم: 2643

[13] انعام 57

[14] الأنعام 151

[15]55  التوبة

[16] السجدة 27

[17] الغافر 17

[18] العنكبوت 40

[19] الزخرف 71

[20] المدثر38

[21] الفجر 28

[22] يوسف 53

[23] شمس 9

[24] النساء 1

[25] المائدة 32

[26] النجم 32

[27] البقرة 286

[28] البقرة 44

[29] الزمر 41

[30] آل عمران 185

[31] الزمر 42

[32] آل عمران 55

[33] الأنعام 61

[34] ابن رشد القرطبي، البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة ج. 2 ص. 291

[35] القيامة 3-4

[36] الرحمن 26

[37] القصص 88

[38] انبياء 104

[39] أعراف 29

[40] يس 79

[41] يس 24

[42] فصلت 20

[43] بخاري رقم 3349، مسلم، رقم 2860





البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع