الخلوة النبوية في غار حِراء
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
يُجمع الناس على أن الخلوة من أجمل ما يقدمه المرء لنفسه بين الحين والآخر، فالإنسان في حاجةٍ دائمة إلى وقت يقضيه مع نفسه ويعتزل فيه حتى أقرب الناس إليه، فيستريح في خلوته من متاعب حياته وآلام دنياه، ليقضي بعض لحظات عمره بهدوء وسكينة واستقرار ذهني ونفسي، فيعيد ضبط عواطفه وأفكاره، وتستريح فيها نفسه وتسكن روحه، ليخرج من خلوته تلك فيبدأ صفحة جديدة يصلح بها ما سبق، ويعمل على إنجاز ما يريد ويسعى إليه، بعزيمة أقوى وهمة أعلى.
وليس أدل على أهمية الخلوة وفائدتها كممارسة بشرية من ممارسة النبي صلى الله عليه وسلم لها حتى قبل بعثته، فقد حُبِّبت الخلوة إلى نفس النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قبيل النُّبوَّة؛ وكان ذلك بمثابة التهيئة الربانية حتى يتفرغ قلبه وعقله وروحه إلى ما سَيُلقى إليه من أعلام النُّبوَّة، فاتَّخذ صلى الله عليه وسلم من غار حراء مُتَعَبَّداً؛ لينقطع عن مشاغل الحياة ومخالطة الخلق، استجماعاً لقواه الفكريَّة ومشاعره الرُّوحية، وإحساساته النَّفسيَّة ومداركه العقليَّة، تفرغاً لمناجاة مبدع الكون وخالق الوجود. والغار الذي كان يتردَّد عليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يبعث على التأمُّل والتفكُّر، تنظر إلى منتهى الطَّرْف فلا ترى إلا جبالاً كأنَّها ساجدةً مطمئنة لعظمة الله، وسماءً صافيةَ الأديم، وقد يرى مَنْ يكون في مكَّة إذا كان حادَّ البصر.
كانت هذه الخلوة الَّتي حُببت إلى نفس النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لوناً من الإعداد الخاصِّ، وتصفية النَّفس من علائق المادِّيَّة البشريَّة، إلى جانب تعهُّده الخاص بالتَّربية الإلهيَّة، والتَّأديب الرَّبَّانيِّ في جميع أحواله، وكان تعبُّده صلى الله عليه وسلم قبل النُّبوَّة بالتفكُّر في بديع ملكوت السَّموات، والنَّظر في آياته الكونيَّة الدَّالة على بديع صنعه وعظيم قدرته، ومحكم تدبيره.
وقد أخذ بعض أهل السُّلوك إلى الله من ذلك فكرة الخلوة مع الذِّكر والعبادة في مرحلة من مراحل السُّلوك؛ لتنوير القلب وإزالة ظلمته، وإخراجه من غفلته وشهوته. وإن من سنن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم سنَّة الاعتكاف في رمضان، وهي تجسيد عملي للخلوة التعبدية مع التأمل والتفكر حاسبة النفس، فالخلوة مهمَّةٌ لكلِّ مسلمٍ سواءً كان حاكماً أو عالماً أو قائداً أو تاجراً؛ لتنقية الشَّوائب الَّتي تعلق بالنُّفوس والقلوب، ولتصحّيح واقعه على ضوء الكتاب والسُّنَّة، ولمحاسبة نفسه قبل أن تُحاسَب.
ويمكن لأهل فقه الدَّعوة أن يعطوا لأنفسهم فترةً من الوقت للمراجعة الشَّاملة والتَّوبة، والتأمُّل في واقع الدَّعوة وما هي عليه من قوَّةٍ أو ضعفٍ، واكتشاف عوامل الخلل، ومعرفة الواقع بتفاصيله خيره وشرِّه. ولا مانع من العزلة في بعض الأحيان إذا فشا الفساد، وأصبحت الدُّنيا مؤثرةً، ومتابعة الهوى مطلباً، ولابدَّ أن تكون الخلوة إيجابيةً وليست سلبية، ففي قول السَّيدة عائشة رضي الله عنها: «فيتحنَّث اللياليَ ذوات العدد»، يقول الشيخ محمَّد عبد الله دراز: «هذا كناية عن كون هذه الليالي لم تصل إلى نهاية القلَّة، ولا إلى نهاية الكثرة، وما زال هذا الهدي الذي كان عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قبل البعثة من التوسُّط، والاقتصاد في الأعمال، شعاراً للملَّة الإسلامية، ورمزاً للهدي النَّبويِّ الكريم، بعد أن أرسله الله رحمةً للعالمين».
إن خلوة النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، يدل على أهمية هذا السلوك في حياة كل إنسان في كل زمان ومكان، فهو القدوة والأسوة الحسنة لنا، وفي ميله صلى الله عليه وسلم للخلوة دلالة على أهميتها وفوائدها دينياً دنيوياً، ومن أهم هذه الفوائد للمسلم في عصرنا:
1. تخصيص وقت محدد لعبادة الله تعالى فقط دون الانشغال بأي أمر دنيوي، فالمسلم يؤمن بأن وظيفته الأساسية في هذه الحياة هي العبادة ولذلك خُلق، قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ))، فيعتزل الناس في خلوته ويتناسى ويتجاهل همومه ومشاغله الدنيوية كلها، لينصرف إلى الهم الأعلى والهدف الأكبر وهو نيل مرضاة الله عز وجل والفوز بالجنة والنجاة من النار.
2. الاستراحة النفسية والعقلية من هموم الدنيا ومتاعبها، بالابتعاد عن ضوضاء الناس وعن ضجيج التجمعات البشرية التي تتعب العقل وتؤذي القلب، فيهرب الإنسان من الحياة المادية بكل صورها ومظاهرها إلى الحياة الروحية الهادئة، التي تصفو فيها روحه ويطمئن قلبه ويستريح عقله وجسده، خصوصاً إذا ترافقت تلك الخلوة مع العبادة والانشغال بذكر الله تعالى، فالدنيا مهما تزينت للإنسان تبقى مظلمة مالم يتخللها نور من قبس الإيمان والقرآن، مصداقاً لقوله تعالى: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً)).
3. الخلوة تكسب صاحبها الصفاء الذهني، فمن يختلي بنفسه ويعتزل الناس تُتاح له فرصة مراجعة نفسه ومحاسبتها على كافة الأصعدة بما توفره من هدوء وسكينة، ويصبح أقدر على إعادة ترتيب أفكاره وإيجاد حلول لمشاكله، فالخلوة تعين على التفكير السليم واتخاذ القرار الحكيم، وهذا يشمل كل ما يهم ويشغل الإنسان، سواء أكانت من أمور دينه أو دنياه.