اختتمت القمة السعودية التركية التي عُقدت بجلسة مباحثات واسعة في الرياض خلال زيارة الرئيس التركي أردوغان في سياق متوقع، هذا السياق لا يتطابق مع المشاعر العاطفية التي يبديها الجمهور الخليجي والعربي الإسلامي تجاه آماله في مستوى العلاقة، لكنّه أيضا -ووفقاً للتحليل السياسي المهني- يتقدم خطوة مهمة للأمام، ويتجاوز مستوى من الخلافات في بعض الملفات.
الإعلان الرسمي في واس (وكالة الأنباء السعودية) وفي وكالة أنباء الأناضول التركية متشابه بشأن نتائج الزيارة أو توافقات المباحثات، لكنه كان أصرح في الأناضول. وإجمالاً تركزت المباحثات على وضع اليمن وسوريا والأوضاع الإقليمية، ثم خُصص الإعلان المهم عن سوريا باتفاق على دعم المعارضة السورية لإحداث تغيير ملموس على الأرض، وهذا نص مهم جداً في سياق الزيارة ومجمل العلاقات التركية السعودية.
وهذا يعني أن الرياض وأنقرة ثبتتا التعاون في مسارات التوافق ولكن بدفع جديد، وحيّدتا ولو مؤقتا الموقف من الملف المصري الذي يشهد تفاعلات واضطرابات كبيرة، قد تكون العاصمتان فضّلتا ترحيل أي بحث فيه حتى تستقر الأمور على وضع مختلف، أو تتبلور رؤية بينهما عن مستقبل مصر والتعاطي معه بالتعاون أو تنظيم الخلاف حوله.
أما الموضوع الثاني -وهو رغبة وأولوية سعودية- فقد كان طرح الملف اليمني بعد الانقلاب الحوثي وتمكّن الإيرانيين من ضم عاصمة عربية جديدة إليهم، مع إضافة مصطلح "الأوضاع الإقليمية" الذي يرمز لمناقشة ملف التوسع الإيراني في المنطقة.
وهي رغبة مشتركة بين الطرفين رغم وجود علاقة وجسور قائمة بين أنقرة وطهران، نتيجة للسياسة البرغماتية لدى الخارجية التركية التي تُراعي مصالح أمنها القومي، وتخشى استخدام أي نفوذ أو تحالفات ضدها، فتبقي الأبواب مفتوحة للجميع.
إلا أن ذلك لا يُلغي قلق تركيا الشديد من تغول الإيرانيين في ملفات واسعة على تماس مع أمنهم القومي مباشرة، إضافة للصراع السياسي الشرس في سوريا ودور إيران المباشر كشريك عسكري وسياسي كبير لنظام الأسد، ونفوذ إيران الخطير على أكراد سوريا، ومزجه بالملف الداخلي لتركيا، ثم وجود ملف داعش وكوباني في شراكة مزدوجة بين طهران وواشنطن خاصة في الميدان، وهي النقطة المهمة المشتركة مع السعوديين.
وبالتالي فإن الجديد هو توسّع فضاء التعاون بينهما بحيوية كبرى، ودعم تركيا للمبادرة السعودية الجديدة في اليمن -بتثبيت الشرعية ووقف هيمنة طهران عليه- هو إحدى النتائج التي يمكن استخلاصها من الزيارة، وإن لم تتضح تصورات القمة لمساعدة هذه الشرعية، لكن حيوية السياسة السعودية الأخيرة في اليمن بجمع القبائل والقطاعات الوطنية المتعددة مع الرئيس هادي تبدو ركيزة لهذا المشروع.
ولكون قلب المشروع الإيراني التوسعي هو سوريا، فقد تم التأكيد على ملفها، وهو أهم ملف إقليمي حساس في ظل تقدم النظام وتهديده الماثل بإسقاط حلب، وبالتالي تصفية الثورة السورية نهائيا عبر وجبات مذابح كبرى تُنفذ من جديد قبل أن تصمت المدافع وتقف الدبابات على أشلاء عشرات الآلاف من أطفال سوريا.
وسواء تم تسلم حلب عبر نتائج جهود المبعوث الدولي دي ميستورا أو انهيارات عسكرية جديدة للثوار، فإن الخلاصة واحدة في نتائج هذه التصفية على بقية الشعب المنهك، ثم على المنطقة إثر إعلان إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة في عمق المشرق العربي.
غير أن الطريق إلى إعادة تنظيم الثورة السورية ليس بالأمر الهيّن، كبوابة مهمة للدعم والوصول إلى نتائج ملموسة تقود إلى النصر، أو إرغام النظام على الانسحاب والتنازل السياسي القهري.
ورغم مسؤولية الأطراف العربية عن ضعف التمويل أو غيابه -في توقيت مهم حساس، كانت فيه لدى الثورة قدرات لحسم المعركة وجسم اجتماعي رمزي توحدي- فإن المشكلة اليوم مع غياب الدعم والمنطقة الآمنة للمدنيين هو في واقع ميدان الثورة ذاته.
إن الحملة العسكرية التي شنتها جبهة النصرة على حزم ومجموعات الجيش السوري الحر، والتي وصلت إلى مستوى تصفيات لمواقع في ظل أحلك حصار على حلب مفروض من إيران، هي أحد هذه المظاهر، فتشرذم الثوار وعودة مجموعات من جبهة النصرة لاستنساخ ممارسات داعش وتفتيت الميدان المُجزأ أكثر، وعجز المشاريع المعلنة للتوحيد العسكري لجبهة ثوار سوريا الأصليين يفاقم الوضع.
وأولى مسؤوليات التغيير الملموس هي تغيير هذه الحالة الممزقة في ميدان الثوار، وتنسيق وضعها ودمجه في تصور سياسي محدد، عبر إعادة تفعيل المجلس الوطني السوري أو ببناء آخر، بخريطة اتفاق واضحة المعالم ومنظمة للعلاقات بين العسكري والسياسي وتسليم من يُختار للقيادة الزمام الفعلي للتوجيه.
وهنا يُطرح سؤال مهم، وهو: هل لدى الرياض وأنقرة قدرة على التأثير اللوجستي المهم في ساحات القتال بين فصائل الثوار والمجموعات السلفية المتداخلة مع الدعم الشعبي في المنطقة الخليجية؟ وخاصة أن النُصرة ليست شريحة واحدة، ففيها من يقترب من السلفية السنية المعتدلة، وفيها من هو منخرط كلياً في فكر داعش، والخلاف بينهما في توقيت التنفيذ فقط. وإجابة على هذا السؤال نقول: نعم.
إن تعاون الرياض وأنقرة في تغيير العلاقات بين المجموعات الثورية والجهادية المختلفة (خارج داعش وبعض مجموعات النصرة) ممكن، وهو ما أضحى اليوم ضرورة في ظل الفشل الذاتي للميدان في تحقيق هذه الوحدة، ووجود قدرات الدعم المالي لدى توجهات مصلحية انتهازية أو متشددة، بينما يعاني الثوار الإسلاميون والوطنيون من حصار شديد وخانق على جبهاتهم.
ودخول الرياض وأنقرة بمشاركة قطر على هذا الملف اللوجستي -الذي يَعبر بطريقة غير علنية- قادر على التأثير ومساعدة كل المجموعات في التقارب.
وليس المقصود أن تنخرط كل مجموعة في البناء العسكري الموحد، وإنما المقصود أن تتشكل جبهة مركزية بقيادة واحدة من تشكيلات صلبة، فيكون الميدان قادرا على دفع إيران وتشكيلات النظام والميلشيات المنوعة عن مناطقه، وبالتالي صمود الثورة واستعادتها زمام المبادرة.
إن من المؤكد أن هذه الأمور ستتم عبر السوريين أنفسهم، لكن مستوى الضياع والتشتت والتشرذم -الذي يحبط اليوم الشعب السوري وهو ينزف- يحتاج إلى قوى مؤثرة في الحدود وفي الدعم الاجتماعي والثقافي للثورة.
وهي جهود وقوى دول وليس أفراد أو مشايخ مخلصين من الخليج، رأينا كيف توالت النكبات والانقسامات بعد تدخلهم، وإصرارهم على التمسك بقرار المرجعية الدينية للثورة من خارج الانسجام الإسلامي السني السوري.
فقدرات الدول تختلف، وحين تتحد على رؤية دعم لا جدول صراع وتنافس فبالإمكان تسخيرها لمصلحة الشعب السوري، وقد يسأل سائل: ماذا عن داعش في سوريا؟
ونقول إن داعش في سوريا، ورغم أنها لا تخوض معارك شرسة مع التحالف في سوريا -إلا في كوباني ولديها مساحة مسترخية في جبهات أخرى- فإن تراجع نفوذها واضح -ولا يُغيره الإنتاج الإعلامي المذهل الذي ينفذه جناحهم المعنوي القوي من المتطوعين- بين 1200 مليون مسلم.
وبشهادة الصحفي الألماني -الذي زار داعش بدعوة من خليفتها- فإن السوريين لا يمثلون إلا أقلية في التنظيم، خلافا لمنشئه في العراق الذي يعاني اليوم أيضاً سُنته من جولة النظام الطائفي عليهم باسم حروب داعش.
وقد يتشظى تنظيم داعش وتتوسع انشطاراته في مناطق أخرى من العالم الإسلامي، وهذا يحتاج تفصيلا؛ لكنه سيتراجع في سوريا والعراق لحساب إيران والغرب فيخسر المشرق بصعوده وخسارته، في حين أن تنظيم صفوف الثورة السورية وإعادة بنيانها، سيقطع الطريق على هذا المشروع فتخرج سوريا بأمل الإنقاذ، قبل إعلان إيران والغرب النصر الجديد على العرب والمسلمين.