سبُّ الخلفاء الراشدين ولعنِهم (رضوان الله عليهم) في ميزان الدين والأخلاق
بقلم: د. علي محمد الصلابي
تكرر سب وشتم صحابة رسول الله ﷺ، وخلفائه الراشدين (رضوان الله عليهم)، في مواقف ومناسبات من قبل أشخاص لا أعتبرهم إلا غارقين في ظلمات الجهل، وطُمست بصائرهم وأسماعهم وأفئدتهم عن نور الحقيقة، ونَسوا فضل أولئك السادة الأشراف والصحابة الكرام والقادة العظام الذي رافقوا رسول الله ﷺ في دعوته وغزواته حتى وفاته، وحين تولوا أمر الأمة، ملأوا كل بقعة من الأرض وصلت إليها أقدام الفاتحين عدلاً وسلاماً وهيبةً ونشراً للدعوة الإسلامية، وما أذاعته إحدى وسائل الإعلام العراقية في آخر يومين عن لعن إحدى الشخصيات السياسية للخلفاء الراشدين الثلاث أبو بكر وعمر وعثمان، ومعاوية بن أبي سفيان (رضوان الله عليهم)، هو فعل شنيع نستنكره ونرفضه بشدة، وذلك لأن هذا الخطاب البغيض هو الذي أوصل العراق وشعوب ودول إسلامية أخرى لهذه الحالة، وزاد من ضعف أمتنا، وتفرقِ أبنائها، وتعاظم قوة أعدائها.
لماذا يتم لعن الخلفاء الراشدين (رضوان الله عليهم) الذين شهد عهدهم بزوغ فجر الإسلام على الساحة العالمية، وظهوره على الدين كله!؟ ولماذا لا ينشغل هؤلاء بمناقشة قضايا الحاضر والمستجدات الضرورية التي تتطلب الإصلاح والنهوض والتغيير، بدلاً من استجرار النزاعات التاريخية، والأحقاد الطائفية القديمة، والضرب على وتر الفتنة للتفريق بين الناس وإثارة اللغط والسب والشتم بين الناس!؟
إن الأمة التي لا تقدر رموزها وعظمائها وقادتها، ولا تحترمهم أمةٌ محكوم عليها بالضعف والوهن والانهيار، فكيف إذا كان حب وتقدير تلك القامات والرموز العظيمة واجباً دينياً يقتضية حب الله تعالى وحب نبيه ﷺ!؟ فحب الصحابة الكرام من علامات الوفاء للنهج النبوي والقدوات العظيمة من صحابة رسول الله ﷺ، وخصوصاً الخلفاء الراشدين المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي (رضي الله عنهم وأرضاهم)، وهم من ضاقت الكتب والمجلدات بذكر فضائلهم ومحاسنهم، كيف لا وقد شهد لهم رسول الله ﷺ بالجنة، فقال ﷺ: "أبو بكرٍ في الجنَّةِ ، وعمرُ في الجنَّةِ ، وعليٌّ في الجنَّةِ، وعثمانُ في الجنَّةِ، وطَلحةُ في الجنَّةِ ، والزُّبَيرُ بنُ العوَّامِ في الجنَّةِ ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ في الجنَّةِ ، وسَعيدُ بنُ زيدِ بنِ عمرو بنِ نُفَيلٍ في الجنَّةِ ، وأبو عُبَيدةَ بنُ الجرَّاحِ في الجنَّةِ" (رواه الترمذي:3747). وأوصى المصطفى ﷺ بالاقتداء بسنتهم فقال: "فإنَّه مَن يَعِشْ منكم فسيَرَى اختِلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكم ومُحدَثاتِ الأُمورِ؛ فإنَّ كُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ" (الترمذي: 2676).
فكيف تُسول لإنسانٍ نفسُه بأن يلعن رجلاً شَرّفه الله تعالى بأن ذكره في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40]. فأبو بكر الصديق (رضي الله عنه) هو رفيق رسول الله ﷺ وصاحبه في هجرته، وقد اختاره النبي ﷺ من دون جميع الصحابة ليكون صاحبه في سفره، فما أعظم هذا التشريف النبوي لذلك الصحابي الجليل، وقد جاء فيما رواه عمرو بن العاص رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ ﷺ بَعَثَهُ علَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فأتَيْتُهُ فَقُلتُ: أيُّ النَّاسِ أحَبُّ إلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ، فَقُلتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ فَقَالَ: أبُوهَا، قُلتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فَعَدَّ رِجَالًا" (البخاري:3662).
ونرى هنا أن رسول الله ﷺ لم يكتف بذكر أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) كأحب الرجال إليه، بل ثنّى بفاروق الإسلام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، عمر الذي قال فيه عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه): " كان إسلام عمر فتحاً، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمامته رحمة"، ولا عجب، فمناقب الفاروق في سيرة الإسلام عظيمة، وفضائله كثيرة، ومواقفه في نصرة الدين والحق مشهودة، وقد خصّ رسول الله ﷺ بوصف وشهادة لم يشهد بها لغيره، فقال عليه الصلاة والسلام: "لو كان من بعدي نبيٌّ لكان عمرُ بنُ الخطابِ" (الترمذي:3686)، وقال ﷺ: "قدْ كان يكونُ في الأُمَمِ مُحَدَّثُون فإنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أحدٌ فعُمرُ بنُ الخطَّابِ" (مسلم:2398). ومعنى محدثون أيّ: مُلهمون يُلهمون الصواب، وهي فضيلة عظيمة لعمر إذ اشتهر بآرائه ومواقفه التي نزل القرآن الكريم بتأييدها وتأكيدها.
أما ذو النورين عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، فما كان رسول الله ﷺ ليزوج ابنتيه لرجلٍ لم يشهد له بصدق الإيمان، وحسن الإسلام، وسمو الخلق؛ ففضائله ومناقبه أكثر من أن تعد وتحصى، واشتهر رضي الله عنه بسعة وكثرة الإنفاق في سبيل الله، فكان عثمان من أكثر الصحابة غنىً، وكان لا يألو جهداً في تسخير ماله في خدمة دين الله عز وجل وخدمة المؤمنين، ويكفيه موقفه حين جهز رضي الله عنه بنفسه جيش العسرة في غزوة تبوك، فقد " جاءَ عثمانُ إلى النَّبيِّ ﷺ بألفِ دينارٍ قالَ الحسَنُ بنُ واقعٍ : وفي موضعٍ آخرَ من كتابي ، في كمِّهِ حينَ جَهَّزَ جيشَ العُسرةِ فينثرَها في حجرِهِ . قالَ عبدُ الرَّحمنِ : فرأيتُ النَّبيَّ ﷺ يقلِّبُها في حجرِهِ ويقولُ: "ما ضرَّ عثمانَ ما عَمِلَ بعدَ اليومِ مرَّتينِ" (الترمذي:3701).
فأبو بكر وعمر وعثمان هم أفضل هذه الأمة وصفوتها، وهذا ما أجمعت عليه الرعيل الأول من الصحابة الكرام، فقد روي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قوله: " كُنَّا في زَمَنِ النبيِّ ﷺ لا نَعْدِلُ بأَبِي بَكْرٍ أحَدًا، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمانَ، ثُمَّ نَتْرُكُ أصْحابَ النبيِّ ﷺ، لا نُفاضِلُ بيْنَهُمْ" (البخاري: 3697).
وفي الحقيقة إن تعظيم الصحابة الكرام، وحُبهم ليس مجرد اعتراف بحقهم، وعرفاناً لفضلهم، بل هو واجب ديني يترتب على عدمه، الطعن في إيمان المسلم ونقص إسلامه، فضلاً عن سبهم وشتهم الذي قد يهوي بالمسلم في دركات الفسوق والعصيان والنفاق، وربما الكفر في بعض الحالات، فحبهم وذكرهم بالخير جزءٌ من العقيدة في فهم أهل السنة والجماعة، فقد قال الإمام الطحاوي رحمه الله: "ونحب أصحاب رسول الله ﷺ، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان". وقال الإمام الذهبي رحمه الله: "وإنما يعرف فضائل الصحابة (رضي الله عنهم) من تدبر أحوالهم وسيرهم وآثارهم في حياة رسول الله ﷺ، وبعد موته من المسابقة إلى الإيمان والمجاهدة للكفار ونشر الدين وإظهار شعائر الإسلام وإعلاء كلمة الله ورسوله وتعليم فرائضه وسننه ولولاهم ما وصل إلينا من الدين أصل ولا فرع ولا علمنا من الفرائض والسنن سنة ولا فرضاً ولا علمنا من الأحاديث والأخبار شيئاً. فمن طعن فيهم أو سبهم فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم وإضمار الحقد فيهم وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم وما لرسول الله ﷺ من ثنائه عليهم وفضائلهم ومناقبهم وحبهم".
هذا فضلاً عن التوجيهات النبوية المباشرة بوجوب حبهم وعدم سبهم، قال ﷺ: "لا تَسُبُّوا أصْحابِي؛ فلوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ ولا نَصِيفَهُ" (البخاري:3673)، وعَنْ عبدالله بن مغفل المزني قال: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي ، لا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ آذَى للَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ" (الترمذي: 3826).
فإذا كان هذا الكلام عن الصحابة بعمومهم، فكيف هو الحال مع الخلفاء الراشدين المهديين المبشرين بالجنة!؟ لا شك أن حُبهم وإجلالهم من موجبات الإيمان والإحسان، وأن بغضهم وشتمهم منقصة في الدين وطعنٌ في سلامة العقيدة، وإننا حين نقلب بصرنا بين العلماء والدعاة والمجاهدين والأئمة الصادقين الأتقياء الأنقياء في الماضي والحاضر، نجد أنهم أشد الناس تعظيماً للصحابة الكرام واقتداءً بهم، أما غيرهم ممن أبغض الصحابة ولعنهم وسبهم، فنجد أن النفاق القولي والعملي والاعتقادي يخالج قلبهم وجوارحهم، فلا تكاد تراهم إلا في المواطن التي تضر الإسلام وتؤذي المسلمين.