طوفان الأقصى والفرص المتاحة !! 1/2
منذ اندلاع الحرب على غزة، وعملية طوفان الأقصى المبارك في السابع من أكتوبر 2023، وأبواب العالم مشرعة على كل الاحتمالات وفي جميع المجالات؛ لأن العالم منذ عقود طويلة وهو يترقب مثل هذه الهزات العنيفة، تمهيدا لسقوط هذه المنظومة الغربية الطاغية والمفسدة في الأرض، ولنهاية هذه الأزمات التي تسببت فيها هذه المنطومة عموما، وحل المشكلات المترتبة عن مقررات المؤسسات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية خصوصا، ومعاناة الشعوب الضعيفة بشكل أخص.
لقد كانت هناك فرصا مبشرة بنهاية المآسي التي يشهدها العالم، مثل سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي 1988/1989، بالنسبة للتحولات الدولية والغربية خصوصا، والحراك العربي 2011 فيما يعرف بالربيع العربي بالنسبة للأنظمة والشعوب العربية، ولكن الوضع لا يزال على حاله؛ بل هو أسوأ من حيث أن سقوط صورة المنظومة الدولية والإقليمية قد حصل، ولكنه لم يعوض بمنظومة جديدة، سواء على المستوى الدولي او الإقليمي، وذلك في جميع الجوانب الاقتصادية أو السياسية أو حتى الثقافية والمعرفية.
فالعالم لم ير الاستقرار بعد، فلا تزال الحروب تحصد الأرواح، ومظاهر العنصريات والتطهير العرقي والمجاعات لا تزال قائمة، وفي العالم العربي هو الآخر لم ير نظاما يخلف في طبيعته التي كان عليها من قبل، مع نغييرات طفيفة إذ لم يعد كما كان، حيث تدنى مستوى الاستبداد نسبيا، ولكنه لا يزال عاجزا عن الانتقال إلى العدل والحريات، والشواهد كثير في تجارب الجزائر وتونس ومصر، وفي بعض التجارب الأخرى دخلت البلاد الإسلامية المستنقع ولم تخرج منه، بسبب تدخلات الغرب المباشرة مثل حالات اليمن وسوريا وليبيا.
فمنذ عقود والعالم يتحرك في كل الاتجاهات باحثا في جذور أزماته تطلعا إلى حاجاته الحقيقية، عبر تساؤلات نخبه المتململة، والانقلابات العسكرية، والانتفاضات الشعبية، والشعوب أيضا تترقب هي الأخرى ما يجود به العالم عليها من حلول لهذه الأزمات العالقة... ولكن كل ما نشاهده هو المزيد من الأزمات والتعقيدات ولعل واقعة الأقصى هي القشة التي قصمت ظهر البعير، والتي يمكن للعالم أن يؤرخ بها كمنعرج يشهده العالم سترُى أثاره لاحقا.
لقد فضحت المقاومة الفلسطينية العالم ونفاقه ومعاييره الفاسدة، وكشفت عن كيفية تعامله مع قضايا الإنسان في جميع المجالات، فكان طوفان الأقصى بمثابة المفتاح لدخول المعترك من بابه الصحيح، وبطروحاته الحقيقية بعيدا عن المراوغات والمساومات والأكاذيب... وكأنها تقول للعالم: الطريق من هنا، من هنا يبدأ تحرير الإنسان وتقويم الاعوجاج، ومن هنا تُراجع المعرفة الإنسانية، ومن هنا تتحرر الشعوب والأنظمة معا، من تحرير فلسطين بعودة الدولة الفلسينية إلى موقعها، وإبطال هذا الكيان المصنوع المبني على شفى جرف هار.
إن المعركة التي تخوضها المقاومة في غزة ظاهرها خاص بالقضية الفلسطينية التي لا تزال محصورة في الصراع بين المقاومة والكيان الصهيوني، في رقعة صغيرة من الأرض تسمى غزة، وفئة قليلة من الناس تسمى المقاومة الفلسطينية، في مواجهة جيش من أقوى الجيوش في المنطقة وهو الجيش الصهيوني، وما يثار من قضايا هذه الأيام وخلال الأشهر السبعة أيضا وسيبقى، جله خاص بالصراع الفلسطيني الصهيوني: كالمطالبة بتوقيف إطلاق النار، اطلاق سراح الأسرى، حل الدولتين، عودة اللاجئين إلى مواقعهم، إعمار غزة، حكم غزة بعد توقيف الحرب...إلخ
ولكن حقيقة الأمر في هذه التحولات التي يشهدها العالم خلال ما يثار على هامش الأحداث في شكل حراك دولي، أكبر من ذلك بكثير، حيث أن تساؤلات العالم تجاوزت مجرد الوقوف عند حرب ستضع أوزارها عاجلا أم آجلا، إلى عمق الأزمة، المتمثل في تقلبات دولية تنبئ بحروب أكبر وأعمق، وغياب للحريات والعدل وانتشار الفساد والتحلل من القيم الإنسانية عموما، وبتعميق الهوة بين النخب وشعوبها.
ولكن يمكن اختزال كل ذلك في محاور كبرى تنبئ بتحولات جذرية ستقع في العالم وفي قيمه الأخلاقية والسياسية والمعرفية.
المحور الأول: أن هناك شعور غربي يتعمق يوما بعد يوم، يسير في اتجاه الخوف على الكيان الصهيوني من الزوال، الذي زرعوه من أول يوم ووعدوه بالرعاية التامة بعد نهاية الميثاق الاستعماري، وتحرر الشعوب العربية والإسلامية من مظالمه المباشرة؛ لأن هذه المرحلة الجديدة لم يعد ممكنا الإبقاء فيها على الاستعمار بشكله التقليدي، ولكن في نفس الوقت لا يسمح لهذه الأطراف المتحررة عسكريا بأن تقترب من المركز...، فكانت الحصيلة فكرة تقسيم تركة الرجل المريض، ويحل محل الاستعمار القديم زرع هذه الجرثومة الخبيثة –الكان الصهيوني- في قلبها –قلب التركة-، لحفظ مصالح الغرب مستقبلا؛ لأن جل مصالح القوم في هذه المنطقة، ومنها على وجه الخصوص كونها أحد أهم مصادر الطاقة في العالم.
فالألمان يدافعون عن تأييدهم لهذا الكيان لما بينهما من اتفاقيات سرية وعلنية، ومنها على وجه الخصوص المدد والتسليح، والأمريكان يصرحون أيضا جهارا نهارا أنهم لا يتخلون عن الكيان مهما كلفهم ذلك من ثمن... وليس بعيدا عن هذين المواقف الكندية والفرنسية والبريطانية...
ورغم الجهود الكثيرة في عمليات التطبيع في سبيل استقرار الكيان الصهيوني الذي كاد يتحقق، وقد أعلن عنه رئيس وزراء الكيان الصهيوني في الأمم المتحدة يوم 22 سبتمبر 2023، حيث بشر للعالم أن التطبيع مع السعودية الذي سيكون قريبا!! سينهي الخوف على الكيان من أعدائه... فإن هاجس الخوف من سقوط هذا الكيان، قائم ويطارد الغرب والصهاينة أنفسهم، لأن وقوعه يفقد الغرب الكثير من الامتيازات التي يتمتع بها اليوم، ويعيد الكثير من رعايا الكيان الصهيوني من فلسطين المحتلة إلى مواطنهم الأصلية التي جاؤوا منها، وذلك يعني عودة الهيمنة اليهودية إلى مركزيتها في الغرب الذي يعاني معاناة ليست هينة منهم ومن طباعهم السيئة، بحيث ان الغرب رغم طغيانه وغطرسته، يعيش رعبا كاملا من التأثير اليهودي الصهيوني الذي يمتلك قوة خارقة في التأثير على مواقع النفوذ هناك... وليس ادل على ذلك من ردودهم العنيفة والقوية على كل من عارضهم في جرائمهم التي يرتكبونها في غزة... فتحفظات الإدارة الأمريكية ردوا على قياداتها بما فعلت امريكا في الفيتنام! واعتراض الإسبان ردوا عليه بتذكيرهم بمحاكم التفتيش التي تعد وصمة عار في التاريخ الإسباني !بل إن الأمين العالم للأمم المتحدة جوبه بكلام قاس من ممثل الكيان في المنظمة لم تعهده المنظمة من قبل، بحيث خاطب الأمين العام الذي استنكر مع يفعله الصهاينة بلا مجاملة ولا مواربة، بقوله ""أنك خارج التاريخ".
وكل من تكلم معترضا على جرائمهم بحثوا له عن مثلب في تاريخه وعَقَّدوه به، ولذلك فإن الغرب اليوم يعيش رهينة الخيارات الصهيونية، ولا أحد قادر على تحريك ساكن في هذا المجال... ومع ذلك فإن هذا الغرب مهدد من داخله بالإنهيار، وأكاد أجزم أن كل ما يقوم به من مساعي لاستعادة سلطانه وقوته ونفوذه، لا يجاوز تأجيل السقوط ريثما يظهر البديل القادر على بسط نفوذه الأخلاقي والمعرفي والسياسي.
المحور الثاني: انتفاضة النخب السياسية الغربية من خارج السلطة، والحركات الحقوقية؛ بل وتحرك دول متضررة من مظالم الغرب، باللجوء إلى محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية، والكثير من المحامين، بسبب المظالم المفرطة التي ترتكبها القوى الصهيونية في غزة، وقد فاقت الخيال، أكثر 120 ألف بين شهيد ومصاب خلال سبعة أشهر، وقصف البيوت على ساكنيها، وتجريف المقابر، واستهداف أكثر من مائة وعشرين من الصحفيين، ومسح أحياء بأكملها من على الأرض... كل ذلك "يبشر" باهتزاز القيم الأخلاقية الغربية، التي أُسِّس لها بعد الحرب العالمية الثانية، من حقوق الإنسان والحريات، والقيم السياسية والعلاقات الدولية، التي تشرف عليها وعلى رعايتها الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
فتحرك جنوب إفريقيا ورفع الدعاوى القضائية ضد الكيان الصهيوني بوصفه مرتكبا لمجازر وجرائم إبادة ضد الإنسانية، ودعوى نكاراغوا ضد ألمانيا لدعمها للصهاينة في جرائمهم بغزة... والتحاق تركيا بجنوب إفريقيا بعد مشاورات مع غيرها وجمع أدلة اخرى غير التي تقدمت بها جنوب إفريقيا.
اما حركة المحامين التي انطلقت من الفريق الفرنسي في فترة مبكرة، قد دعم بفريق من 3061 من المحامين الأتراك برفع "دعوى قضائية إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي تضمنت دلائل تثبت قيام إسرائيل بجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية وجرائم حرب في قطاع غزة".
وإلى جانب حراك الحقوقيين، هناك حراك الشعوب في كل العالم وفي الغرب تحديدا، في امريكا وبريطانيا وفرنسا ولألمانيا، في اتجاه مضاد لأنظمتهم السياسية، في شكل مظاهرات منددة بمواقفها ومعارضة لها في كل ما يقع في غزة. ورغم ان الشعوب الغربية في عمومها ليست مسيسة، ولكنها في قضية غزة قد أدركت أنها متضررة من هذه الحرب وهذا الدعم غير المحدود للصهاينة، فتحركت صوب اتهام حكامها باستعمال مواردها ومدخراتها فيما يعارض القيم الإنسانية؛ بل إن بعض المواطنين قد اعلنوا صراحة على معارضتهم لتوجيه ضرائبهم التي يدفعونها إلى مساعدة الكيان الصهيوني لقتل النساء والأطفال.
يتبع