البحث

التفاصيل

معاني الدعاء الإبراهيمي عند بناء البيت الحرام

الرابط المختصر :

معاني الدعاء الإبراهيمي عند بناء البيت الحرام

كان من دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عند بناء الكعبة المكرمة: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ** رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 127-128].

في هذا الدعاء نلمح هذا الاستعطاف الظاهر في تكرار لفظ {رَبَّنَا}، وما فيه من تذلل وخضوع ورغبة في الاستجابة والقبول، وكذلك في تكرار جملة {وَاجْعَلْنَا} وما فيها من سلاسة وعذوبة في موضعها.

نلاحظ بأن أهمية الدعاء في كونه عبادة عظيمة، وهو من أجلّ العبادات وأعظم القربات، بل هي العبادة كما أسماها الله في قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ]غافر:60[، وقد صرح بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي}، فالدعاء سبب عظيم من أسباب حصول المطلوب واندفاع المرهوب، وخير معين على تحقيق الإخلاص لله تعالى.

وفي قولهما عليهما السلام: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}: أيّ: خاضعين لك، منقادين لحكمك، مخلصين بالتوحيد والعبادة لك، لا لغيرك، ولا نشرك معك في الطاعة أحداً سواك. وفائدة تكرار النداء بقول: {رَبَّنَا} إظهارُ الضراعة إلى الله تعالى، وإظهار أن كل دعوى من هذه الدعوات مقصودة بالذات.

والنبيّان الكريمان عليهما السلام على قدر ما وهبهما الله تعالى من نعمة الإسلام والتمسك به، يطلبان ذلك تأكيداً وزيادة في الخير، يريدان طاعةً مطلقة وانقياداً؛ ليكون الطلب دليلاً على الرغبة فيه، وليكون الغرض لزاماً لهما وتكليفاً، ويؤكد هذا بالجار والمجرور {لَكَ}، فطلب الانقياد والطاعة مقيد له عزّ وجل دون سواه. ولم يكتف إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بالدعاء بالثبات على الإسلام لهما، وإنما لذريتهما أيضاً، وذلك في قولهما: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}، والذرية هم الأبناء وأبناء الأبناء أي الأجيال القادمة، فهي نظرة مستقبلية وحرصٌ على أن يبقى التوحيد قائماً ببقاء الموحدين على الأرض عبر التاريخ، وفي الدعاء طلب من الله بأن يجعل ذريتهم أمة مستسلمة لأمره سبحانه وتعالى، خاضعة لطاعته وشرعه وسلطانه وأحكامه، منقادة لأوامره، وهذا هو دين الأنبياء من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم.

إنّ هذا الدعاء فيه الرجاء على العون من ربهما في الهداية إلى الإسلام والشعور بأن قلبيهما بين أصبعين من أصابع الرّحمن، وأن الهدى هداه وأنه لا حول لهما ولا قوة إلا بالله، فهما يتجهان ويرغبان، كما بيّن الدعاء طابع الأمة المسلمة، وهو تضامن الأجيال في العقيدة {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}.

وهي دعوة تكشف عن اهتمامات القلب المؤمن، إن أمر التوحيد والاستسلام لله وأحكامه هو شغله الشاغل، وهو همه الأول وشعور إبراهيم وإسماعيل - عليهما السّلام - بقيمة النعمة التي أصبغها الله عليهما، نعمة الإيمان، تدفعهما إلى الحرص عليهما في عقبهما، وإلى دعاء الله ربهما ألا يحرم ذريتهما هذا الإنعام الذي لا يكافئه إنعام.

لقد دعوا الله تعالى ربهما أن يرزق ذريتهما من الثمرات، ولم ينسيا أن يدعواه ليرزقهم من الإيمان، وأن يريهم جميعاً مناسكهم ويبين لهم عبادتهم، وأن يتوب عليهم إنما هو التواب الرحيم.

لقد كان دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يجعل الله لهما من ذريتهما وأولادهما جماعة مسلمة لله عزّ وجل منقادة لأمره خاضعة لعظمته سبحانه وتعالى، وقوله:{وَمِنْ} هنا تبعيضية، ولم يعمّمها - عليهما السلام - وذلك أدباً مع الله الذي سبق وقال لإبراهيم  {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، وهذا أيضاً من تعليم الله لهما وبتنويره قلوبهما أن من ذريتهما المسلم المحسن والكافر الظالم لنفسه، لذا دعوا هنا بالتبعيض.

وفي قولهمها: {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} أي: على عقيدة التوحيد وإفراد العبادة لك وحدك، وأما وصف الأمة فهو الإسلام والانقياد لله وحده لا شريك له.

والمقصود من قولهما عليهما السلام في الدعاء: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} أيّ: علمنا مواضع نُسكنا وعبادتنا وبصّرنا بأفعال الحج ومواقيته ومواضع العبادة فيه، و"المنسك" مكان العبادة، ويؤخذ من هذا أن العبادات توفيقية لا تصحّ إلا بما شرعه الله وتتوقّف على الدليل الشرعي.

وقال السعدي رحمه الله: أي: علمنا إياها على وجه الإرادة والمشاهدة ليكون أبلغ، ويحتمل أن يكون المراد بالمناسك أعمال الحج كلها كما يدلُّ عليه السياق والمقام، ويحتمل أن يكون المراد هو أعمُّ من ذلك، وهو الدين كله والعبادات كلها كما يدل عليه عموم اللفظ؛ لأنّ النسك التعبد، ولكن غلب على متعبدات الحج تغليباً عرفياً، فيكون حاصل دعائهما يرجع إلى التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح.

وقال تاج القرآن الكرماني: إن كان المراد "بالمناسك" أعمال الحج، كالطواف والسعي والوقوف بعرفة والصلاة، فتكون "المناسك" جمع "مَنسك" بفتح السين، وهو مصدر، وجاز جمع المصدر هنا؛ لاختلاف الأعمال في الحجِّ، وإن كان أراد "بالمناسك" المواقف والمواضع التي يُقام فيها شرائع الحج، كمِنى وعرفة والمزدلفة، فتكون المناسك جمع "منسِك" بكسر السين، وهو اسم مكان، وهو موضع العبادة.

وقال الراغب الأصفهاني: النسك: العبادة، و"الناسك" هو العابد، واختصَّ بأعمال الحج، و"المناسك": مواقف النسك وأعمالها، و"النسيكة" مختصة بالذبيحة، قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ]البقرة:196[، فـــ{نُسُكٍ} هنا: ذبيحة يذبحها أو أقلها شاة. وقال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} ]الحج:67[، منسكاً أي: شريعة ومتعبداً ومنهاجاً. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ]الأنعام:162[ والمقصود بــ{نُسُكِي} أي: ذبحي وقيل: عبادتي.

هذا وروي عن علي رضي الله عنه: أن إبراهيم - عليه السّلام - لما فرغ من بناء البيت ودعا بهذه الدعوة، بعث الله إليه جبريل - عليه السّلام - فحجّ به، وانطلق إلى الصفا والمروة ومِنى والمشعر الحرام وعرفات، وقال له: أعرفت ما أريتك؟ قال: نعم، ولما كان العبد مهما كان لا بدّ أن يعتريه التقصير ويحتاج إلى توبة، ولذلك أتم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام دعاءهما بقولهم: {وَتُبْ عَلَيْنَا}. أي: سامح لنا تقصيرنا في طاعتك وتجاوز عنّا؛ وذلك لأن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه، فإنه لا ينفك عن التقصير من بعض الوجوه، إما على سبيل السهو أو على سبيل ترك الأولى، فالدعاء منهما عليهما السلام لأجل ذلك، فهما معصومان على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، وقيل: تُب على ظلمة أولادنا حتى يرجعوا إلى طاعتك، وقيل: إنهما أرادا أن يسُنا للناس ويعرّفاهم أن بيت الله وما يتبعه من المناسك والمواقف، هي أمكنة التخلص من الذنوب وطلب التوبة من علّام الغيوب.

لقد جاء في موضع التوبة، أنّها تختلف مقامات التائبين، فتوبة سائر المسلمين الندم على الذنب الماضي والعزم على تركه تركاً نهائياً ورد المظالم، أما توبة الخواص منهم فهي رجوع عن المكروهات من خواطر السوء في الأعمال، أو التقصير في العبادات وعدم أدائها على وجه الكمال، وتوبة ثالثة هي توبة خواص الخواص، وهؤلاء تكون توبتهم لرفع درجاتهم وللترقي في مقاماتهم، فإن كان النبيان عليهما السلام طلبا التوبة لأنفسهما خاصة، فالمراد بها هو توبة هذا القسم الثالث.

وإن التوبة ركن أساس من أركان السلوك، ولها أنواع، نذكر منها:

-       توبة الإنابة: وهي أن تخاف من الله من أجل قدرته عليك.

-       وتوبة الاستجابة: أن تستحي من الله لقربه منك.

-       والتوبة الصحيحة: وهي إذا اقترف العبد ذنباً تاب عنه بصدق الحال.

-       والتوبة الفاسدة: هي التوبة باللسان مع بقاء لذة المعصية في الخاطر.

-       والتوبة النصوح: هي تنزيه القلب عن الذنوب وعلاماتها: أن يكره العبد المعصية ويستقبحها، فلا تخطر على بال ولا ترد في خاطره أصلاً.

وقال الإمام النووي - رحمه الله - التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت بين العبد وبين الله تعالى، فلها شروط ثلاثة:

§       أن يقلع عن المعصية.

§       أن يندم على فعلها.

§       أن يعزم على ألا يعود إليها أبداً.

فإن كان الذنب يتعلق بحق آدمي، فعليه أن يتبرأ من حق صاحبه، وذلك برَدّه إليه، أو طلب عفوه أو أن يستحلّه منه، إذا لم يترتب على ذلك مفسدة أعظم.

وإبراهيم وإسماعيل - عليهما السّلام - يعلّمان أتباع ملة إبراهيم - عليه السّلام - كيف يكون التأدب مع الله في الدعاء، حين اختتما الدعاء بالثناء على الله وبما يدعو إلى إجابته في قولهما: {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}، فالجملة تحتوي على كل ما يؤكد معناها، فالتوّاب صيغة مبالغة من تاب، فهي على وزن فعّال، ويقال لله عزّ وجل توّاب لكثرة قبوله التوبة من عباده حالاً بعد حال، والرحيم هو كثير الرّحمة أيضاً، صيغة مبالغة على وزن فعيل، وهي صفة يمكن أن تكون لله عزّ وجل أو للبشر، وقد جاء في وصف الرسول صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ]التوبة:128[، وقد قيل إن الله تعالى رحمان بالدنيا ورحيم الآخرة؛ وذلك لأنَّ إحسانه في الدنيا يعم المؤمنين والكافرين وفي الآخرة يختص بالمؤمنين. وقد قدّمت صفة {التَّوَّابُ} على صفة {الرَّحِيمُ} في السياق القرآني؛ لأن {التَّوَّابُ} مناسبة لقوله: {وَتُبْ عَلَيْنَا}، وكذلك تأخير صفة الرّحمة مناسب لعمومها فالتوبة من الرّحمة والرّحمة أعمّ منها.

وعلى العموم فإن المقصود بطلب التوبة في حق إبراهيم وإسماعيل - عليهما السّلام - هو الرغبة منهما في رفع درجاتهما وارتقائهما المقامات، وهذا هو شأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهي من وجه آخر تربية خلقية وتأديب واضح توجهت إليه آيات القرآن الكريم؛ ليكون سلوكاً قويماً، يجب أن يسلكه كل مسلم حريص على الخير لنفسه وذريته.

 

 


: الأوسمة



التالي
رئيس الاتحاد يلقي محاضرة قيمة حول أهمية مقاصد الشريعة في الاقتصاد الإسلامي
السابق
بناء الكعبة المشرفة

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع