البحث

التفاصيل

رؤيا إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه

الرابط المختصر :

رؤيا إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه

قال الله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} ]الصافات:102[.

بعد أن أخذ إسماعيل - عليه السّلام - يشبّ ويترعرع حتى بلغ السنّ التي يتمكن فيها من السعي والعمل، وبلغ أيضاً من حبِّ والديه مبلغاً عظيماً، وكان الحبُّ يزداد مع الأيام ويكبر على مرِّ السنين، وإذا بوالده يرى ما يراه النائم أنه يذبح ابنه، وكان الوالد يعلم أنّها إشارة له بذبح ابنه، إشارةٌ من نوع الابتلاء الذي اختبره الله تعالى به من تحطيم الأصنام والإلقاء في النار، وقد نجح في الاختبار السابق واجتازه في ثقة بالله لا حدّ لها، بيد أن الابتلاء السابق واضح المعنى، وكان سافر الملامح، لقد كان أمراً صريحاً بتحطيم الأصنام، وكان تحطيماً مفهوم الدلالة، فما ينبغي أن يعبد مع الله، وما يجوز في منطق العقل والشعور السليم أن ينصرف الإنسان عن مانح النعم، وكان الإلقاء في النار أيضاً واضح المعنى، إنه في سبيل الله وفي سبيل الله يهون كل ألم، وهو نجح في الابتلاء الماضي وحفظه الله سبحانه وكتب له النجاة كما يفعل سبحانه بكل ما والاه.

ونجح في ابتلاء الهجرة ومعاناتها، وما تعرض له من جبّار مصر من ابتلاء عظيم، وحان الوقت لابتلاء من نوع جديد أشار الله فيه إلى إبراهيم - عليه السّلام - بذبح ابنه، والحكمة في ذلك - كما يقول الإمام ابن قيّم الجوزية - أن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحبّ إلى الوالدين ممن يولد بعده، وإبراهيم لما سأل ربّه الولد ووهبه له، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته، والله سبحانه وتعالى قد اتخذه خليلاً، والخلة هي كمال المحبة، والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة، وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها، فلمّا أخذ الولد شعبة من قلب الوالد، أحبَّ الله سبحانه لخليله أن يكون له قلبه، فأمره سبحانه بذبح هذا الذي أخذ حبّه شعبة من قلبه، وذلك ليخلص له كاملاً. فلما أقدم على ذبحه، وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد، خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبقَ في الذبح مصلحة، وحصل مراد الربّ، وصدّق إبراهيم الرؤيا، وفداه الله بذبح عظيم.

ومما سبق نجد أن القصة تدلُّ من سياقها على أن مُراد الله تعالى من إبراهيم - عليه السّلام - لم يكن ذبح إسماعيل، بدليل أنَّ الذبح لم يحدث، وإنما كان المراد أن يذبح إبراهيم شغفه الزائد بابنه ومحبته به، التي أصبحت تؤثر على مرتبة الخلّة التي لا تقبل المشاركة والمزاحمة في المحبة.

إن إبراهيم - عليه السّلام - الشيخ المقطوع من الأهل والقرابة، والمهاجر من الأرض والوطن، ها هو يُرزق في كبرته وهرمه بغلام، طالما تطلع إليه، فلما جاءه، جاء غلاماً يشهد له ربّه بأنه حليم، وها هو ذا ما يكاد يأنس به وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة، ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد حتى يرى في منامه أنه يذبحه، ويدرك أنّها إشارة من ربه بالتضحية، قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}، فهو لا يتردد ولا يخالجه إلا شعور بالطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم، هذا ودون أن يعترض، ودون أن يسأل ربه، لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟ وهو عليه السلام لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب، كلا، إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء، يبدو ذلك في كلماته لابنه، وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء واطمئنان عجيب.

{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}، هي كلمات المالك لأعصابه، المطمئن للأمر الذي يواجهه، الواثق بأنه يؤدي واجبه، وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن الذي لا يهوله الأمر، فيؤذيه في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي ويستريح من ثقله على أعصابه.

والأمر شاقٌّ وصعب - ما في ذلك شكّ - فهو لا يطلب منه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة، ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته، إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده ذبحه - وهو- مع هذا يتلقّى الأمر هذا التلقّي، ويعرض على ابنه هذا العرض، ويطلب إليه أني يتروّى في أمره، وأن يرى فيه رأيه، إنه لا يأخذ ابنه على غرّة لينفذ إشارة ربه وينتهي، إنما يعرض الأمر عليه، كالذي يعرض المألوف من الأمر، فالأمر في حسه أن هذا ما يريد ربه، فليكن ما يريد، على العين والرأس، وابنه ينبغي أن يعرف، وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً لا قهراً واضطراراً، لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر، ويتذوق حلاوة التسليم، إنّه يحبُّ لابنه لذّة التطوع التي ذاقها، وأن ينالَ الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى.

ونستشعر في قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} مدى الصحبة القوية بين إبراهيم وإسماعيل - عليهما السّلام -، فلفظ {مَعَهُ} مقترناً بلفظ {السَّعْيَ}، وما يحمل من دلالات الحركة والعمل المشترك، كل ذلك يوحي بمعاني المرافقة والمعاونة والاندماج العاطفي بينهما.

إنَّ هذا الأسلوب في التعامل له دور كبير في إزالة الحواجز بين الآباء والأبناء، فيشعر الابن بقرب الأب منه والعكس، فيشاركه أحلامه وتطلعاته، ويفضي إليه بهمومه ومشكلاته، إننا أمام شخصية ترسم معالم الطريقة التربوية السليمة في التعامل مع الأبناء في مرحلة المراهقة، وما يكتنفها من مخاطر ومصاعب، وما ينتابها من مشاعر متباينة في عقول الآباء ونظراتهم، وهي السنّ الخطرة التي ينبغي أن يكون الأب فيها قريباً من الابن، ولن يكون ذلك إلا بالمصاحبة والمعايشة والرفقة ورفع الكلفة بين الاثنين. ونلاحظ أن لفظ {مَعَهُ} يضيف إلى معنى الحبّ والعطف شيئاً آخر، وهو انتفاع الأب في المعيشة والسعي، فقد يجمع عليه أمرين بالغي الإيلام هما: فجيعة فقده، ثم انقطاع نفعه وعونه.

لقد أصبح إسماعيل - عليه السّلام - شاباً راشداً يسعى مع أبيه في الدعوة إلى الله، ويسعى معه في إرشاد الخلق إلى الله عزّ وجل، ويسعى معه في شؤون الحياة العامة.

{قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}: استخدم إبراهيم - عليه السّلام - في خطابه لولده تعبير {يَا بُنَيَّ}، وهو التعبير الذي جاء ليبرز معنى النبوّة مصحوبة بالنداء والتصغير الدال على التحبب لما في هذا التعبير - وهذا الموقف- من الوقع البالغ التأثير، وكأن إبراهيم قبل أن يعرض على ولده هذا الأمر الفظيع، أراد أن ينبهه إلى أنه ليس قاسياً ولا مجرداً من الرّحمة، ولكن شيئاً أقوى من هذا هو الذي جعله يعزم على ما يعزم عليه الآن، هذا الشيء هو استجابته لإرادة ربه سبحانه.

ونستفيد من هذا الموقف ضرورة التمهيد بكلام طيّب قبل طرح الموضوعات الصعبة والخطيرة، يقول الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: إذا اضطررت إلى الإخبار عن أمر مكروه، أو وقوع حادث مُفجع، أو وفاة قريب أو عزيز على صاحبك أو قريبك أو ما شابه ذلك، فيحسن بك أن تُلطّف وقع الخبر على من تخبره به، وتمهّد له تمهيداً يخفّف نزول المصاب عليه، فتقول فيمن تُخبر عن وفاته مثلاً: بلغني أن فلاناً كان مريضاً مرضاً شديداً، وزادت حاله شدة، وسمعت أنه توفّي رحمه الله تعالى.

وفي قوله عليه السلام: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} استخدم إبراهيم - عليه السّلام - الفعل المضارع {أَرَى} دون رأيت؛ ليوحي إلى ابنه بحضور هذه الرؤيا حين كلامه، فإن لفظ المضارع يدلُّ على تكرار الرؤيا كما يقول البيضاوي والألوسي، وورد عن مقاتل أنه قال: رأى ذلك إبراهيم - عليه السّلام - ثلاث ليالٍ متتابعات، وأيّاً كان عدد المرات، فإن المضارع يدلُّ على الحال المستمر، فكأن إبراهيم يقول لابنه: إنه يا بني أمر لازم واضح، ماثل في نفسي، كأني أراه الآن، وفي هذا شيء كأنه الاعتذار من إبراهيم لابنه- عليهما السّلام -، بأنه إنما يقدم على ما يُقدم عليه؛ لأنه أمام أمر قوي غالب مسيطر.

ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة، فإنّ الأنبياء - عليهم السّلام - تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم كما في الحديث الشريف عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربع ركعات، فلا نسأل عن حُسنهن وطولهن، ثم أربعاً، فلا نسأل عن حُسنهن وطولهن، ثم يُصلي ثلاثاً، فقلت: يا رسول الله تنام قبل أن توتر؟ قال: تنام عيني، ولا ينام قلبي.

ولا شكَّ أنَّ التكليف بالذبح بواسطة الوحي أثناء النوم، أكمل في الابتلاء من التكليف باليقظة، وقد أظهر الله سبحانه وتعالى به المزيد من فضل إبراهيم وإسماعيل - عليهما السّلام - في قضية الذبح والفداء، واستسلامهما وإذعانهما للتكليف الإلهي.

وبعد أن عرض إبراهيم الموضوع على ولده خاطبه قائلاً: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}، فشاوره بذلك مع أنه أمر الله الذي يجب تنفيذه؛ لأن في هذه المشاورة إعلاماً له بما رآه، لكي يتقبله بثبات وصبر، وليكون نزول هذا الأمر عليه أهون، وليختبر عزمه وجَلده، ويعلم إبراهيم - عليه السّلام - مدى التزام ولده بشرع الله، ويعلم أنه لا يمكن أن يتراجع عن الانقياد لأمر طلبه الله عزّ وجل، لذا فإنه يعرض الموضوع على ولده في صيغة المشاورة لا في صيغة الأمر، وهذا من أدب إبراهيم مع ولده إسماعيل عليهما السلام. وقد دلّت هذه المشورة أيضاً على ثقته - عليه السّلام - بولده، وحسن ظنه به، وأنه سيكون عوناً له في تنفيذ أمر الله تعالى، وتحقّق ما كان يرجوه إبراهيم من ولده عليهما الصلاة والسلام.

وبالفعل ما كان جواب إسماعيل عليه السلام إلا أن قال: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}: فدلّ قوله هذا على علوّ مداركه عليه الصلاة والسلام، وهو لا يزال في بواكير عمره، فقد أدرك أنّ رؤيا الأنبياء وحي، وأن رؤيا والده أمر إلهيّ، فحثّه على تنفيذه مع أنّ والده أعلمه بالأمر بأسلوب الاستشارة، ولمّا كان خِطاب الوالد {يَا بُنَيَّ} بأسلوب الترحّم كان خطاب الولد {يَا أَبَتِ} بأسلوب التوقير والتعظيم، ففي استخدامه للفظ {يَا أَبَتِ} إظهارٌ للاحترام والطاعة، وهذا اللفظ يوحي هنا بأن المعنى المسيطر على إسماعيل هو طاعة أبيه، مهما كان الفعل، وأيّاً كان مصدر الأمر بالفعل، وكأنه يشير بذلك إلى تبادل العاطفة السامية النبيلة بين رحمة الآباء وطاعة الأبناء.

ثم أتبع إسماعيل عليه السلام ذلك بقوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}. نلاحظ سمو الأدب مع الله عزّ وجل ومعرفة إسماعيل - عليه السّلام - لقدرته وطاقته في الاحتمال، والاستعانة بربه على ضعفه، ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية ومساعدته على الطاعة، فلم يأخذها بطولة ولم يأخذها شجاعة ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة، ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجماً ولا وزناً، إنما أرجع الفضل كله لله، إن هو أعانه على ما يطلب إليه وأصبره على ما يراد به {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، يا للأدب مع الله، ويا لروعة الإيمان ويا لنيل الطاعة ويا لعظمة التسليم.

 


: الأوسمة



التالي
حشود ضخمة في فرنسا وألمانيا تضامنا مع فلسطين

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع