أفضل الأيام للعمل الصالح، وفيها يوم ينزل الله تعالى فيه نزولاً يليق به، وصيامه يكفر ذنوب سنتين.
إن الله تعالى يهيئ لعباده فرصاً عظيمة، ونفحات لا توجد في غيرها، وفضائل لا تتحقق في غيرها، ومكفرات للذنوب حتى لا تتراكم فتؤدى إلى رين القلوب، وقسوة النفوس، والغفلة عن ذكر الله، فالجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما من الذنوب، وهكذا رمضان.
وبالإضافة إلى هذه الفرص، فإن الله تعالى خصَّ بعض الأيام بفضائل لا توجد في غيرها، وبنفحات لا تتحقق في غيرها.
منها العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، فقد روى البخاري وغيره بأسانيدهم عن ابن عباس (رضي الله عنهما)، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب من هذه الأيام - يعني أيام العشر - قالوا: يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء" البخاري (969) وأبو داود والترمذي (757) وابن ماجه (1727) وهذا اللفظ لأبي داود.
فضائل العشر الأوائل:
ولهذه العشر فضائل كثيرة منها:
1- إن الله تعالى أقسم بها فقال تعالى: (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ) (الفجر:1و2)، حيث ذهب جمهور المفسرين، وعلى رأسهم ابن عباس (رضي الله عنهما) إلى أن المراد بها العشر الأوائل من شهر ذي الحجة.
2- وفيه يوم وهو يوم عرفة الذي أكمل الله تعالى فيه الدين فنزل قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة:3)، وهو يوم أقسم الله تعالى به، وأنه اليوم الذي أخذ الله منه الميثاق على ذرية آدم، وأنه يوم المغفرة من الذنوب، ويوم يباهي فيه رب العالمين بالحجاج الواقفين في ساحة عرفات فيغفر لهم، وهو أكثر الأيام لمغفرة الله تعالى لعباده.
3- وقد ذكرنا الحديث الصحيح الذي يدل على أن العمل الصالح في هذه الأيام العشر أفضل من الجهاد إلا رجلاً خرج بماله ونفسه، فأنفق ماله في سبيل الله، واستشهد كذلك في سبيل الله.
ما ينبغي فعله في هذه الأيام المباركات:
هذه الأيام العشر المباركات هي أفضل أيام الله تعالى، كما أن ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان أفضل الليالي، وكما أن في الأخيرة ليلة القدر التي أنزل الله فيها القرآن الكريم، أعظم كتاب هداية ورحمة وبياناً، فكذلك جعل الله تعالى في العشر الأوائل يوم عرفة الذي أكمل فيه دينه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة:3).
لذلك ينبغي أن نستثمر هذه الأيام والليالي المباركات، وأن من أعظم الأعمال في هذه الأيام ما يأتي:
1- أداء الحج والعمرة وبالنسبة للحجاج
2- الأضحية التي هي شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام يراد بها إدخال السرور في قلوب الفقراء والمساكين ليفرحوا بعيدهم مثل بقية المسلمين، وهي سنة مؤكدة لكل قادر عليها، وواجب عند الأحناف لقوله تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر:2)
3- الصيام للأيام التسعة، حيث ورد في حديث ثابت عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة من كل شهر...) رواه النسائي (2417) وأبو داود (2437) وأحمد (22234) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2437).
4- صيام يوم عرفة الذي ورد فيه حديث صحيح بأنه كفارة لسنتين: سنة ماضية، وسنة قادمة، (رواه مسلم في حديث طويل (1162)، والنسائي (2805) وأحمد (22525)).
5- الإكثار بذكر الله، والتحميد، والتهليل، والتكبير.
6- الجهر بالتكبير في الأسواق والطرق والمساجد لقوله تعالى: (لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج: 28)،
وذهب جمهور المفسرين والعلماء إلى أن المراد بالأيام المعلومات هي العشر الأوائل من ذي الحجة. ويؤكد ذلك أن سيدنا عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) - الذي كان من أشد المتمسكين باتباع سنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان ومعه أبو هريرة (رضي الله عنه) يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما، حتى ترتج السوق بالتكبير.
إحياء سنة الجهر بالتكبير:
إن سنة الجهر بالتكبير في الأيام التسع أصبحت مهجورة ومتروكة بسبب بعض الفتاوى التي جعلت التكبير الجماعي بدعة، وشدّد فيها البعض حتى جعلوه محرماً.
مع أن التكبير الجماعي شيء، حيث هو قيام مجموعة من الناس بالتكبير بصوت واحد، وأن الجهر به شيء آخر، لكن الجهر بالتكبير قد ترك أيضا، فأصبح الجهر به الذي هو سنة قد ترك في التسع الأوائل من ذي الحجة، ولذلك ينبغي إحياؤه لقوله (صلى الله عليه وسلم): "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا"
جواز التكبير الجماعي:
وهذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء، فمنهم من أجازه، مثل الإمام الشافعي المعروف بأنه الإمام الناصر للسنة حيث قال: "فإذا رأوا هلال شوال أحببت أن يكبّر الناس جماعة، وفرادى، في المسجد والأسواق، والطرق والمنازل، ومسافرين ومقيمين، في كل حال، وأين كانوا، وأن يظهروا التكبير، ولا يزالون يكبرون حتى يغدوا إلى المصلّى… وكذلك أحب في ليلة الأضحى لمن لم يحج، فأما الحجاج فذكرهم التلبية"
وأيًا ما كان فإن الجهر بالتكبير المطلق في الأسواق والطرق والبيوت، والمساجد، مشروع على الراجح من أقوال العلماء، بل هو رأي الجمهور، وإذا كان هناك خلاف في التكبير الجمعي فلا ينبغي أن يؤدي ذلك إلى إماتة هذه السنة، والشعيرة الجميلة التي تحيا بها النفوس، وترتقي بها الأرواح، وتسمو بها القلوب، مع أن الأدلة الصحيحة لا تدل على التكبير الجمعي، بل إن فعل ابن عمر الذي هو من أكثر الصحابة تمسكا بالسنة، وفعل أبي هريرة (رضي الله عنهما) يشهدان لذلك، وكذلك فهم الإمام العظيم ناصر السنة الشافعي - كما سبق.
هذا والله أعلم
أ.د. علي محيي الدين القره داغي