الرابط المختصر :
استقبلنا بأشجان القلوب،وعبرات الأعين، ثم رضا الأنفس بقضاء الله وقدره،يوم السبت الماضي 23 من شوال 1436ه الموافق 8 من أغسطس 2015 م نبأ وفاة أخينا العلامة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي المفسر الفقيه الأصولي، أحد أبرز علماء السنة في الشام، ومؤلف كتاب ( الفقه الإسلامي وأدلته)، عن عمر ناهز الـ 83 عامًا، قضاها في العلم والتعليم والبحث والتأليف، والتدريس في عددٍ من الجامعات العربية، واشتهر بكتبه العلمية في مجال الفقه الإسلامي وأصوله، والتفسير،كما وقف في وجه الفرقالمنحرفة، والمذاهب الضالة، وكشف مخططاتهم، وأبطل شبهاتهم.
كان رحمه الله متفوقا في تحصيله العلمي منذ الصغر ، وكان دائما في مقدمة الصفوف، فكان ترتيبه الأول في شهادة الثانوية الشرعية.التحق بعدها بكلية الشريعة جامعة الأزهر الشريف، ليحصل على الشهادة العالية، بالترتيب ذاته.كما حصل على شهادة الدكتوراه في "الشريعة الإسلامية" بمرتبة الشرف الأولى.
إلى جانب ذلك نال شهادة الليسانس في كلية الحقوق جامعة عين شمس،ودبلوم معهد الشريعة (الماجستير) من كلية الحقوق بجامعة القاهرة.كما حصل على إجازة تخصص التدريس من كلية اللغة العربية بالأزهر.
أخوه الأصغر: الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي، كلاهما فرسا رهان، اشتركا في الفقه وأصوله. وإن كان محمد أقل من أخيه إنتاجا، وكلاهما على خير.
عرفته وعرفت عددا من إخوانه وزملائه وشيوخه، ممن درسوا في مصر، وتتلمذوا على أساتذتها في الأزهر ودار العلوم، كالشيخ السباعي، وأبي غدة، والشيخ محمد أديب الصالح، والشيخ عدنان زرزور، والشيخ عبد الرحمن الصابوني، والشيخ عبد الستار أبو غدة، وغيرهم.
تميز الدكتور وهبة الزحيلي، بتمكنه من الفقه الإسلامي دون غلو ولا تقصير، إذ كان يعرض لآراء الفقهاء المختلفة، ويوازن بينها حسب الأدلة، ويرجح ما يراه أرجح منها حسب موازينه، وهو غير متعصب لمذهب أو مدرسة؛ بل يحرص على أن يتبع الطريق الوسط، أو المنهج الوسطي. وقد تتلمذ في سورية على عدد من أعلام هذا المنهج الذين عرفوا به، ونسبوا إليه، أمثال الأستاذ الكبير مصطفى الزرقا، والأستاذ الدكتور الداعية الأول: مصطفى السباعي، والأستاذ الدكتور السياسي الأول: معروف الدواليبي أستاذ الأصول.
عاش الشيخ وهبة للعلم والاطلاع والكتابة في حياته كلها. وربما استكثر الناس ما صدر عنه من مؤلفات، ولكن من تفرغ للعلم، وانقطع لخدمته، صدر منه كل عجب. ومن أوائل ما ألفه كتابه ( آثار الحرب في الإسلام) وقد انتهى فيه إلى آراء جيدة، نقلها من كتب فقهنا الإسلامي الواسع، تدل على أنهبدأ مبكرا يفرق بين ما تحتاج إليه الأمة وما لا تحتاج إليه، فكان له اختيارات جيدة، نقلناها عنه في كتابنا فقه الجهاد.
وقد اختار الإخوة من العلماء في العالم الإسلامي أخانا الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي معنا في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، عضوا في الاتحاد، ممثلا لسوريا، ولكن الشيخ بحكم ظروفه، وبحكم وضعه، وحاجته إلى الاستئذان للسفر، وصعوبة ذلك، جعلته يكتب إليَّ معتذرا، عن الاشتراك في العضوية، مع عدم قدرته على المساهمة، ولو مرة واحدة. وقد اضطررنا أن نقبل معذرته، مقدرين ظروفه.
عمل رحمه الله في العديد من الجامعات العربية والإسلامية: في جامعة دمشق، وجامعة محمد بن علي السنوسي بمدينة البيضاء في ليبيا،وكلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات،وجامعة الخرطوم، وجامعة أم درمان الإسلامية. كما أعير إلى قطر والكويت للدروس الرمضانية.
حاولت جماعة الأسد النصيرية والبعثية أن تجعله من أذنابها: يسير في ركابها، ويجري وراء سرابها، كما نجحت مع علماء آخرين من إخوانه، ولكن الله تعالى عصمه من كيدهم، ونجاه من براثنهم، حتى رحل إلى ربه مرضيا عنه.
وكان الشيخ يشارك كثيرا في مؤتمرات الفكر الإسلامي في الجزائر، التي حرصت عليها، منذ جاء وزيرا للأوقاف الشيخ عبد الرحمن بن شيبان. وكم التقينا في عدد من من البلاد العربية والإسلامية، في ندوات ومؤتمرات علمية وفقهية.
أشرف – رحمه الله -على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه في دمشق وبيروت والخرطوم، وقد قيل: إنها تزيد على سبعين رسالة.
وحصل على جائزة أفضل شخصية إسلامية في حفل استقبال السنة الهجرية الذي أقامته الحكومة الماليزية سنة 2008 في مدينة بوتراجايا.
وله – رحمه الله- العديد منالأحاديث الإذاعية في تفسير القرآن، وغيرها من الندوات في الإذاعةوالتلفزيون، والفضائيات المختلفة، إضافة إلى حواراته مع الصحافة في دول عدة.
والدكتور الزحيلي قد أمد المكتبة الإسلامية بعشرات المصنفات النافعة والمفيدة ، منها بل أولها وأهمها: كتابه الشهير: الفقه الإسلامي وأدلته، في (11) مجلدا. وقد تناول فيه جميع أبواب الفقه الإسلامي، في جميع المذاهب، دون تعصب لأحدها على الآخر. والتفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج في (16)مجلدا.
والوجيز في الفقه الإسلامي، والوجيز في أصول الفقه، وموسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة، والتفسير الوسيط والوجيز، والعلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث-القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان -العالم الإسلامي في مواجهة التحديات الغربية -مشكلات في طريق النهوض-الأسرة المسلمة في العالم المعاصر- المصارف الإسلامية -المعاملات المالية المعاصرة - الاقتصاد الإسلامي.
عضويته للجان والمجامع العلمية:
كان رحمه الله عضوا في العديد من المجامع والهيئات والمؤسسات العلمية والفقهية، فكان عضوا في المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردن (مؤسسة آل البيت)، وخبيرا في مجمع الفقه الإسلامي بجدة والمجمع الفقهي في مكة المكرمة، ومجمع الفقه الإسلامي في الهند وأمريكا والسودان، ورئيسالهيئة الرقابة الشرعية لشركة المضاربة والمقاصة الإسلامية في البحرين، ثم رئيسالهذه الهيئة بالبنك الإسلامي الدولي في المؤسسة العربية المصرفية في البحرين ولندن، وخبيرا في الموسوعة العربية الكبرى في دمشق، ورئيسا للجنة الدراسات الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية، وعضوالمجلس الإفتاء الأعلى في سورية، وعضوا للجنة البحوث والشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف السورية، وعضوا مراسلا للموسوعة الفقهية في الكويت، والموسوعة العربية الكبرى في دمشق، وموسوعة الحضارة الإسلامية بالأردن، وموسوعة فقه المعاملات في مجمع الفقه الإسلامي في جدة وغيرها.
ومما يذكر للرجل كيف وقف في وجه الدكتور محمد علي آذرشب الأستاذ بجامعة طهران ورئيس مركز الدراسات الثقافية الإيرانية- العربية عندما هاجمني في إحدى جلسات مؤتمر الدوحة لحوار المذاهب الإسلامية عام 2007 عندما استعرضت
عددا من النقاط التي تعوق التقارب بين السنة والشيعة. فاتهمني الدكتور آذر شب بالتحريض، بدلا عن التهدئة.
عندها استهجن الدكتور وهبة الزحيلي انتقادات آذرشب، مؤكدا أن كلمتي تعبر عن واقع قائم، وحقائق ملموسة".
وأضاف أنني تحدثت عما يجري في الشارع الإسلامي بعيداً عن التطرف والدعوة إلى التعصب المذهبي.
وأكد أنني أدعو إلى استئصال المشكلة من جذورها من خلال الدعوة إلى عدم سب الصحابة، وأن يبتعد بعض رجال الدين الشيعة عن الطعن في أمهات المؤمنين، وتبرئتهن من التهم التي نسبوها إليهن.
رحم الله أخانا الشيخ وهبة الزحيلي رحمة واسعة، وجزاه خيرا على ما قدم لدينه وثقافته وأمته، وعظم الله أجرنا فيه، وألهم أهله ومحبيه جميل الصبر، ورزقهم وافر الأجر، وخلف الأمة فيه خيرا.
يوسف القرضاوي
رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين