لله في خلقه سنن ماضية, وقوانين صارمة, لا تتبدل ولا تتغير ولا تتحول ولا تتخلف, ونحن نرى سنن الله في الأمور المادية فنشعر بوجودها, ونحس باستمرارها واستقرارها, أما السنن التاريخية والاجتماعية فتحتاج إلى نظر وتدبر, وتأمل وتفكر حتى نعي مراميها وأهدافها, واستمرارها واستقرارها, والواقع الملموس يؤكد أن سنن الله في الكون وسنن الله في الإنسان تخضع لأسس ثابتة وقواعد مطردة, فالكل يخرج من مشكاة واحدة هي إرادة العزيز العليم, وصدق الله (تعالى) إذ يقول: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم,لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ),يس: 37-40.
وقد وردت تلك الآيات الكريمة عقب سنة من سنن الله في الصراع بين الحق والباطل.
وقد حفلت سورة البروج بسنة الله (تعالى) تلك بصورة ظاهرة باهرة, لافتة للنظر وتنزيل تلك المعاني التي حوتها السورة الكريمة على الواقع المعيش الذي تحياه أمتنا اليوم يزيدنا إيمانا على إيمان, ويقينا على يقين بأن هذا الدستور الخالد حوى ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة, فهو الدستور الخالد والمنهاج الحق فهو آخر كلمات السماء إلى أهل الأرض.
وأول ما يلفت النظر في السورة الكريمة, وتصويرها لتلك الحلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل, وهذه السنة من سنن الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتغير تلك البداية العجيبة, والقسم اللافت للنظر: (والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود) فما العلاقة بين السورة وقضاياها وهذا القسم الرهيب الرعيب الذي يستوقف النظر ويسترعي الانتباه, وهل هناك علاقة بين تلك البداية وسنة الله في الصراع بين الحق والباطل؟ , وما علاقة ذكر السماء والبروج ويوم القيامة وكل شاهد ومشهود بتلك الحادثة التي وقعت لأصحاب الأخدود في زمن بعيد؟, وهل لها دلالة بقتل أصحاب الدعوات وإحراقهم في زمننا, وما دلالات ذلك في علم السنن؟
إن السورة الكريمة غنية بالإجابة على كل تلك الأسئلة, فهي (تربط بين السماء وما فيها من بروج هائلة، واليوم الموعود وأحداثه الضخام، والحشود التي تشهده والأحداث المشهودة فيه.. تربط بين هذا كله وبين الحادث- حادث أصحاب الأخدود ونقمة السماء على أصحابه البغاة.)([1]) كأن السماء وما فيها والبروج وما حوته واليوم الموعود وكل شاهد ومشهود شهداء على تلك الحادثة مهما حاول القتلة الفجرة أن يواروا سوءتهم فيها, وأن يهربوا من جريمتهم, وأن يتتبعوا كل ما يذكرهم بها, أو يدل الناس على ذكرها, ولو كانت إشارة صغيرة, أو لافته بسيطة, أو كراسة تحمل تلك الشارة أو (مسطرة) ترمز لتلك الواقعة, رغبة منهم في الهرب من ويلها وثبورها, وعارها وشنارها, وهيهات ثم هيهات, فإذا واروا فعلتهم في جنح الظلام فستفضحهم نجومه, وإذا غطوا جريمتهم في مقابر جماعية فإن أبراج السماء تراهم وتشهد عليهم,
وكفى بربك للخليقة محصياً في لوحه وكتابه المكنون
وترصد السورة الكريمة أن ذنب هؤلاء الدعاة في نظر الطغاة البغاة أنهم أصحاب دعوة وأرباب رسالة: (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد).
فكأن ذنبهم الوحيد كما دل على ذلك الحصر بما وإلا في الآية الكريمة, أنهم مؤمنون بالله العزيز الحميد, وهل كان ذنب هؤلاء الموحدين في عصرنا إلا أنهم طلاب حق, ودعاة حرية, وأصحاب شرعية شهد لها القاصي والداني, والقريب والبعيد, وإن تجمع عليهم أصحاب الهوى, وأرباب المصالح الدنيوية الساقطة, ومتع الحياة الزائلة!!
ومما يلفت النظر في الآية الكريمة تذييلها بهذا التذييل البديع:(العزيز الحميد), ففيه من اللطف ما يطمئن عباده على مر العصو
ر وكر الدهور, فإن ما صنعتموه يا أصحاب الحق, ويا طلاب الحرية محمود لدى ربكم, وهو (عز وجل) العزيز الذي لا يغالب الحميد الذي لا ينسى لعباده ما قدموه فداء دعوتهم وحقهم وحريتهم, ثم تأتي الآية التالية مبينة أن هذا العزيز الحميد له ملك السماوات والأرض, وهذا يشعر بوضوح أن هؤلاء المجرمين في قبضته, وتحت قهره وسلطته, وإن ظن الراؤون أنهم ملكوا وتحكموا, فتلك سنة الله التي لا تتخلف في الصراع بين الحق والباطل: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون), يونس24.
كما يلفت النظر في تلك السورة الكريمة ورصدها لسنة الله في الصراع بين الحق والباطل أنها جمعت بين حديث أصحاب الأخدود وحديث الجنود فرعون وثمود, والذين كفروا من أهل مكة الذين هم في تكذيب إشارة إلى سننية تلك القضية واستمرارها, وعدم وقوفها عند أهل مكة الذين كذبوا وعذبوا, واتهموا خير المرسلين بالسحر والشعر والكهانة,
إنها نفس الدعوات القديمة, والتهم الباطلة التي يتواصون بها عبر الأزمان والأجيال,
كما يلفت النظر في السورة الكريمة تذييل الآيات فنهاية كل آية آخذة بالألباب, لافتة للنظر بصورة عجيبة, ولك أن تتأمل معي تلك النهايات وتقارن بينها وبين أحوالنا الراهنة حتى تتدرك سنة الله في خلقه وناموسه في عباده, عبر العصور والدهور,(إذ هم عليها قعود),(وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود),(ولهم عذاب الحريق),(ذلك الفوز الكبير),(فعال لما يريد),(بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ), تلك من عجائب السورة الكريمة في رصدها لتلك السنة فهم شهود متمتعون برؤيتهم لآلام المؤمنين, هل حدث هذا في عصرنا, هل تمتع المعذب برؤية النار تلتهم جثث الضحايا أمواتا وأحياء, هل سمعتم بمن يتلذذ بالقتل في الرأس والصدر والعين والقلب, هل رأيتم من ينتشي بعد رؤيته للدماء سائلة في الطرقات كأنها دماء ذبائح سائبة؟
ولم لهؤلاء عذاب الحريق؟ إن الجزاء من جنس العمل, وتلك من سنن الله في الباغين الطاغين, رأيناها قبلا وسمعناها وقرأنا كيف حدث في الحقب الماضية مع من طغوا في البلاد, وأكثروا فيها الفساد, رأينا ما حدث لشمس بدران وحمزة البسيوني وعبد الناصر وغيرهم ممن
لفظ الثرى جثمانه وتطهر ورماه في سفح المجاري وال....
ولم لهم (عذاب الحريق ) وهو داخل في عذاب جهنم تبعا؟؟
إنه ينطق به وينص عليه (ليكون مقابلا للحريق في الأخدود. وبنفس اللفظ الذي يدل على الحدث. ولكن أين حريق من حريق؟ في شدته أو في مدته! وحريق الدنيا بنار يوقدها الخلق. وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق! وحريق الدنيا لحظات وتنتهي، وحريق الآخرة آباد لا يعلمها إلا الله! ومع حريق الدنيا رضى الله عن المؤمنين وانتصار لذلك المعنى الإنساني الكريم. ومع حريق الآخرة غضب الله، والارتكاس الهابط الذميم!)([2])
وأين هذا الفوز الكبير للمؤمنين الذي تتحدث عنه السورة بعد أن أحرق أصحاب الدعوة وأصبحوا أثرا بعد عين؟ إن الناس يقيسون بمقياس البشر, وينظرون بعيون البشر, والله (تعالى) يعلمهم أنه بكل شيء محيط, وأن الخلود المقيم لهؤلاء الذين ظن البعض أنهم انتهوا وبلوا... والواقع ليس كذلك...
إن هذا يعيدنا مرة أخرى إلى صدر السورة واستهلالها بالسماء ذات البروج واليوم الموعود والشاهد والمشهود(إذ تلتقي جميعا في إلقاء ظلال الاهتمام والاحتفال والاحتشاد والضخامة على الجو الذي يعرض فيه حادث الأخدود.. كما توحي بالمجال الواسع الشامل الذي يوضع فيه هذا الحادث. وتوزن فيه حقيقته ويصفى فيه حسابه.. وهو أكبر من مجال الأرض، وأبعد من مدى الحياة الدنيا وأجلها المحدود..)([3])
وهذا هو الفوز الكبير فعلا, والحقيق فعلا, فماذا تكون الحياة التي ضحوا بها وهي ذاهبة؟ وماذا يكون العذاب الذي احتملوه وهو موقوت؟ ماذا يكون هذا إلى جانب قطرة من هذا الود الحلو؟ وإلى جانب لمحة من هذا الإيناس الحبيب؟ كما يقول شهيد الظلال:
إن عبيدا من رقيق هذه الأرض. عبيد الواحد من البشر، ليلقون بأنفسهم إلى التهلكة لكلمة تشجيع تصدر من فمه، أو لمحة رضاء تبدو في وجهه.. وهو عبد وهم عبيد.. فكيف بعباد الله. الذين يؤنسهم الله بوده الكريم الجليل، الله «ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ» العالي المهيمن الماجد الكريم؟ ألا هانت الحياة. وهان الألم. وهان العذاب. وهان كل غال عزيز، في سبيل لمحة رضى يجود بها المولى الودود ذو العرش المجيد..
.........................
أستاذ التفسير وعلوم القرآن المشارك في جامعة الأزهر
وكلية الشريعة جامعة قطر
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين