البحث

التفاصيل

نحو فهم جديد للإسرائيليات: (بين الروايات الإسرائيلية والمنهج الإسرائيلي)

الرابط المختصر :

نحو فهم جديد للإسرائيليات: (بين الروايات الإسرائيلية والمنهج الإسرائيلي)

بقلم: التهامي مجوري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

الحلقة الثالثة

 

نصل في هذه الحلقة الثالثة من حلقات هذا الموضوع، الذي أردناه تنبيها إلى ما ينبغي فهمه من الاسرائيليات، وهو الفهم الذي ينطلق من أن معنى "الإسرائيات" كما يفهم من القرآن الكريم والسنة النبوية، هو منهج وطريقة في التعامل مع الوجود، وليس مجرد رواية تروى عن أهل الكتاب، في معنى آية، أو موقف عقدي، او فقهي، من قضية من القضايا التي تصادف الإنسان في حياته، معزول عن التصور العام للوجود، وعن الطبيعة البشرية ببعدها الذاتي والموضوعي، والمصلحي والاستخلافي وعلاقة كل ذلك بالله سبحانه وتعالى.

والمنهج هو الطريق الذي يسلكه الإنسان في معرفته وحركته وعلاقاته، بوضوح تام وبمسؤولية كاملة وفق مكانته ودوره في الحياة عموما، وفي واقعه الاجتماعي خصوصا، وانطلاقا من مبادئ ووسائل وغايات مرسومة في الذهن في كل الأمور، قَلَّتْ أو كثرت، وسواء في السعي من أجل مصالح شخصية أو مصالح عامة، ولكن مجموعها يصب في الصالح العام؛ لأن المجتمعات لا تبنى إلا بالحرص على الصالح العام، الذي يحقق للإفراد ضماناتهم الإجتماعية، ويُمكِّنهم من القيام بواجباتهم ويذلل مصاعبها.

ولتوضيح معنى المنهج في الممارسات الفردية وفي مسألة التعبد تحديدا نستعين بقصة الثلاثة الذين تقالوا عبادة النبي صلى الله عليه وسلم توهما منهم.

روى عن نفر قصدوا نساء النبي صلى الله عليه وسلم للسؤال عن عباته صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لما اخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا أين نحن من رسول الله وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم أنا أقوم الليل أبدا، وقال الآخر أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث لا أتزوج النساء، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم، جاء وقال لهم "أنتم الذين قُلتم كذا وكذا؟ -أو قال ما بال أقوام- يقولون كذا وكذا- أمَا والله، إنِّي لأخْشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصُومُ وأفْطِرُ، وأصَلِّي وأرْقُدُ، وأتَزَوَّجُ النِّساءَ، فَمَن رغِبَ عَنْ سُنَّتِي فليس منِّي"[1]. وطرق الحديث ذكرت أمورا أخرى غير هذا الذي جاء في هذه الرواية، ولكن جميع الروايات في نفس الاتجاه وهو التضيق على النفس بترك الملذات طمعا في تحقيق الأفضل من الرضوان الإلهي.

وظاهر ما قام به هذا النفر في الواقع يعد من الأمور المشروعة، فلم يقم أحدهم بفعل ممنوع شرعا!! وإنما أرادوا المبالغة في بعض الأفعال، كما فعل غيرهم من زهاد الصحابة الذين فعلوا ذلك من غير إعلان بين الناس، مثل أبو الدرداء وأبو ذر وأبو هريرة، فقد كانوا كلهم من الزهاد والفقراء الذي لا يملكون؛ بل معرضون عن التمتع  بملاذ الحياة، ولكن الجديد في فعل هؤلاء النفر أنهم حوّلوا تلك الرغبة من الخصوصية الفردية كما هي عند غيرهم، إلى فعل جماعي والإعلان عنه وكأنه يريدون تعميمه على الجميع بما يوحي بالترغيب فيه، سواء بالإعلان الموحي بأن ما قالوا هو الفعل الأفضل، أو بالادعاء بأنهم على الطريق الأفضل، وذلك سيضر حتما بالمنهج الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما يوحي به هذا الصنيع، أن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ليس هو الأفضل؛ ولذلك لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم أسرع بالقول "فمن رغب عن سنتي فليس مني"، ومعنى: "السنة هنا الطريقة، لا التي تقابل الفرض والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري"[2]، وذلك انحراف عن طريقة النبي ومنهجه، وقد جاء بالحنفية السمحة، التي من مقاصدها إشاعة ما يقدر عليه كل الناس، وليس بعضهم فحسب؛ وتمكين الأفراد والمجتمع من التعاون والتكافل وتبادل المنافع والخبرات؛ بل إن المعتبر شرعا مما جاء به الخطاب هو ما يليق بجمهور الناس، وليس بما لا يليق بهم، اما ما يليق ببعضهم ولا يليق بهم كلهم، فليس من قصد الشارع، وليس من المنهج الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم[3].

وما يليق ببعض الجمهور من الخصوصيات، التي يختارها الناس لأنفسهم، لطبائع فيهم هم أو لخصائص ليست في غيرهم، لا يمنعوا منه، وإنما لا يجوز تعميمه وإلا تأثر المنهج وتزعزع، ولذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء الذي تأذت زوجته رضي الله عنهما من سلوكه معها، ما قال للنفر الذين تقالوا عبادته عليه الصلاة والسلام؛ لأن ما فعله النفر يوحي بإرادة تعميمه، أما فعل أبو الدرداء فخاص به هو ولم يعلن عنه ولا ألزم به غيره، ومن ثم فهو من الخصوصيات الفردية التي يتفاوت فيها الناس ولا  ينكر عليهم، ولكنه لما أخبر بذلك من قبل سلمان رضي الله عنه، الذي زار ابا الدرداء يوما فوجد زوجته متبذلة وشكت له أمر زوجها، فبات معه ومنعه من الصوم وقيام الليل قبل الثلث الأخير منه كما جاء في الحديث "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ فقالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاما، فقال له: كل، فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل، قال: سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان"[4].

إن الاختلالات الكبيرة والمؤثرة على مسار المجتمعات والأمم، لا تكون في المسائل الجزئية، التي لا يخلو منها أحد لطبيعة الضعف البشري؛ بل إن الشارع الحكيم فتح باب الاستغفار والتوبة لتجاوز الأخطاء والزلل، وجعل لها أبوابا من التوبة ضمن المنهج الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم.

اما الاختلالات في المنهج فلا علاج معها إلا تصحيح المسار؛ لأن وقوعها يعني انحراف مئات وآلاف المسائل المترتبة عنها، بسبب فقدان البوصلة.

وانحراف أهل الكتاب ليس انحرافا في مسائل جزئية في العبادة أو المعاملة، وإنما كان انحرافا في المنهج، ولذلك لم نفرق نحن المسلمون بين أحد من رسله؛ لأنهم كلهم جاؤوا بالإسلام الذي هو دين الله الذي أرسل به جميع رسله وهو المنهج، اما القضايا التفصيلية والتجزيئية فتختلف شرائعهم عليهم الصلاة والسلام، من قوم إلى قوم، ومن زمن إلى زمن.

والمنهج الذي جاء به الأنبياء كلهم، ليس منحصرا في مسألة أو مسائل جزئية عقدية معينة فحسب، وإنما في التصور لدى الإنسان وموقفه من الوجود كله، وطبيعة تفاعله مع هذا الوجود واقعا وماضيا ومستقبلا، من حيث ان الخبرة التاريخية التي مر بها الإنسان في حياته، تفيد أن له منهجية في ذلك، وهذه المنهجية مصدر الإلهام الإلهي الذي مكّن الإنسان من الكشف عن قوانين الخلق والوجود التي اودعها الله في الكون والحياة، وما أرسل الله الأنبياء والرسل إلا لذلك، بما في ذلك تنزيل الوحي وتقرير الجانب التعبدي به، باعتبار ذلك من الأمور التي يَقْدِر العقل على استيعابها.

وانحرافات بني إسرائيل كانت في هذا الجانب، ولم تكن مجرد انحرافات في مسائل فقهية أو مسائل جزئية عقدية او سلوكية، وإنما كانت في المنهج، ولذلك كشف لنا القرآن أساليبهم في التعامل مع الواقع ومع الأنبياء ومع الناس؛ بل ومع الله أيضا، وتمت الإشارة إلى ذلك في مواطن كثيرة منه.

وما عيب عليهم في أساليبهم تلك في الغالب لم تكن لأنها معاصي جزئية قابلة للتوبة، وإنما لكونها معاصي فكرية تصورية شكلت قوالب بديلة، للقوالب المنهجية الصحيحة التي أقرتها الخبرات الرسالية والتاريخية معا؛ بل ذكر القرآن ذلك لتحذير المسلمين من الوقوع فيها، وكما جاء في حديث ابن لبيد رضي الله عنه، الذي قال فيه: ذَكَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، قال: "وذاك عند أوان ذهاب العلم"، قالوا: يا رسول الله وكيف يذهب العلم، ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم؟ قال: "ثكلتك أمك ابن أم لبيد، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل، لا ينتفعون منها بشيء؟ [5]". والإشارة هنا إلى التحريف الذي مارسه أهل الكتاب لكتابهم، وحذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما لمنع وقوعه مستقبلا في تعامل المسلمين مع القرآن؛ لأننا نحن معرضون لذلك أيضا في التعامل مع كتابنا، كما تعامل أهل الكتاب مع كتابهم!! صحيح اننا لا نستطيع تحريف القرآن؛ لأن الله حفظه سبحانه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر 9]، ولكن تحريفه لا يكون بالتأثير في نصوصه مباشرة، وإنما يمكن تحريفه بطريقة أخرى، وذلك بتحريف معانيه وتعطيل أحكامه ومفاهيمه الشاملة عن الله والكون والحياد والوجود كله...

يتبع  

 

ـــــــــــــــ

* اقرأ: نحو فهم جديد للإسرائيليات (بين الروايات الإسرائيلية والمنهج الإسرائيلي)

- الحلقة الأولى

- الحلقة الثانية



[1]- رواه البحاري ومسلم عن أنس بن مالك، ابن الأثير، جامع الأصول، رقم 84

[2]- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري 9/105

[3]- أبو اسحاق الشاطبي، الموافقات 1/ 67-68 المقدمة السادسة.

[4]- رواه البخاري والترمذي عن أبي جحيفة، ابن الأثير، جامع الأصول رقم 96

[5]- الأباني، صحيح ابن ماجة، موقع الدرر السنية.


: الأوسمة



التالي
أنس بن مالك.. المحدّث العظيم والخادم الأمين
السابق
البوسنة.. المسلمون يحيون ذكرى مجزرة سريبرينتسا

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع